حلب ومخططات إيكوشار الطامسة للهوية والثقافة!
محمود نصري أبو غسان محمود نصري أبو غسان

حلب ومخططات إيكوشار الطامسة للهوية والثقافة!

انطلاقاً مما نشرته جريدة قاسيون حول الحريق الأخير في حي ساروجة في دمشق، وما تضمنه من رؤية وتحليل عميق حول خلفيات الحريق، ليس لكون المستفيد منه السماسرة وتجار العقارات فحسب، بل التحليل الأهم هو لطمس الهوية الوطنية والثقافية الجامعة للشعب السوري، وتحديداً لمصلحة العدو الصهيوني ومن خلال المستعمر الفرنسي ومهندسه في ذلك الوقت (إيكو شار(، وأعوانهم وأتباعهم!

أود أن أشير إلى أنه لا تكاد تخلو مدينة من المدن الكبرى في سورية إلا وتعرضت بشكل أو بآخر إلى طمس وتخريب تلك الهوية الوطنية الجامعة للشعب السوري، ومن خلال تنفيذ مخطط إيكوشار سيئ الذكر، حتى بعد نيل الاستقلال الوطني وإلى يومنا هذا!

فأنا من مواليد منتصف الثلاثين من القرن الماضي، ومن مواليد حلب القديمة، ومكان ولادتي لا يبعد سوى عشرات الأمتار عن قلعة حلب، وما سأرويه هو ما شاهدته منذ صغري وما سمعته من أقاربي كبار السن عن مخطط المهندس الفرنسي إيكوشار حول هدم نصف أحياء حلب القديمة في ذلك الوقت، منها ما نُفّذ ومنها لم ينفذ بسبب مقاومة أبناء تلك الأحياء مع بقية الوطنيين الغيورين.

فالطريق الموصل حالياً من (باب جنين) إلى ما يسمى الآن السبع بحرات وما قبله كان مغلقاً، وكان يسمى (سويقة الحجارين) وفيه فتحة ليست كبيرة توصل إلى أعرق أحياء حلب (حي الفرافرة- السويقة) وكانت من المراكز التجارية والمباني الأثرية الهامة، وتصل أسواق حلب القديمة الجنوبية بالأسواق الشمالية.

تم فتح هذا الطريق من سويقة الحجارين وهدم تلك البيوت والأسواق والأحياء وصولاً إلى ما كان يسمى السجن القديم أو مقر الجوازات، وهذا نفّذ بعد الاستقلال، وكان تنفيذه ضمن مخطط إيكوشار، ليفصل أجزاء من أحياء المدينة وأسواقها عن بعضها البعض!

كان هناك مشروع طريق يمتد من آخر نزلة الزبدية مروراً بما يسمى الآن حارة بستان القصر ومروراً بحي الكلاسة القديم، وهدمه وصولاً إلى منطقة المقابر إلى باب (قن نسرين) وهو باب من أجمل أبواب حلب القديمة، وكان سيخرب، ومن ورائه حي باب قنسرين وجزء من الجلوم وصولاً إلى قلعة حلب!

فقد كان من توصيات إيكوشار هدم هذا الباب ومن خلفه تلك الأحياء، أي القضاء على نصف أحياء حلب القديمة، لكن مقاومة أهالي تلك الأحياء العريقة حالت دون تنفيذ هذا المشروع.

وبالمناسبة فإن باب قنسرين يوصل إلى قلعة قنسرين التي تبعد عن جنوب حلب حوالي/ ٢٠ /كم.

أما أطول شوارع حلب فيمتد من منطقة باب الحديد مروراً بجادة الخندق وصولاً إلى ما يسمى الآن آخر حي الجميلية، عند جسر القطار والفرن الآلي، فقد كان عند هذا الجسر محطة قطار تسمى محطة الشام، اي المسافر إلى دمشق كان يركب القطار من هذه المحطة، والمسافر إلى تركيا والعراق وأوروبا كان يركب من محطة بغداد الموجودة إلى الآن، وكانت تمر في هذا الطريق الحافلات الكهربائية (الترام) وكان منظرها جميلاً جداً وتربط شرق حلب من أمام القلعة إلى غربها عند محطة الشام، وقد تم هدم هذا الطريق من أحد طرفيه، حيث يوجد سور مدينة حلب القديمة والعديد من المحلات والخانات التجارية الهامة، وهذا أيضاً من توصيات سيء الذكر (إيكوشار)!

وهناك مغارة تقع في منطقة تسمى تلة السودة، وهي قريبة من حي الكلاسة، كانت هذه المغارة ملجأ للهاربين والثوار ضد المستعمر الفرنسي.

وتعتبر هذه المغارة كنزاً أثرياً لا يقدر بثمن كما يروي كبار السن، وأحدهم خالي الذي اختبأ فيها غير مرة، فبداخلها فتحات يمكن للإنسان العيش داخلها، وفيها رسومات قديمة كثيرة، وتمتد إلى مسافة أكثر من عشرة كيلومترات!

ويقال إن سكان القلعة كانوا يخرجون منها أثناء الحصار عن طريق هذه المغارة في الأزمنة الغابرة.
ومن أجل عدم اللجوء إلى هذه المغارة حوّل المستعمر الفرنسي، ومن بعده الحكم الوطني، شبكة الصرف الصحي إلى داخلها، وأخيراً تم إغلاق مدخلها.

منطقة باب الفرج، وهي منطقة شبيهة بساروجة في دمشق وسوق سرسق في بيروت، كانت تضم مطاعم ومحلات تجارية وكراجات تربط المدينة بضواحيها، وهناك بعض الأحياء مرتبطة في باب الفرج هي (بندرة الإسلام- بندرة اليهود-حي القلة -بحسيتا ....)، حيث تم هدم هذه المنطقة تحت مسمى في ذلك الوقت «مشروع باب الفرج»، وأعتقد أنه تم هدمه في منتصف سبعينيات القرن الماضي!

ونتيجة هذا الهدم مُحيت من أذهان سكان مدينة حلب هذه الأحياء التي تمت الإشارة إليها، والتي أقيم مكانها مبنيين فقط هما فندق الشيراتون والمركز الثقافي، وفي الجانب الآخر تم الحفاظ على الكنيس اليهودي، وهو أكبر المعابد اليهودية في حلب، ويقع خلف مبنى السجل العقاري.

وأثناء الهدم ظهر باب الفرج، وهو أحد أبواب مدينة حلب، كما ظهر سور المدينة القديمة، ولكن لم يجر ترميمها وإظهارها للوجود كأحد معالم المدينة، والمنطقة الآن عبارة عن أرض فارغة، لا يوجد فيها سوى المبنيين المشار إليهما، وهذا الهدم قسم وحوّل المنطقة إلى حالة من الفراغ والانقطاع لا تربطها بشيء!

وكذلك هناك عدة طرق وأحياء أزيلت من الوجود (حي المشارقة الذي يبدأ من ضريح هنانو والجندي المجهول إلى منطقة باب جنين، وهناك حي الوراقة الذي يبدأ من باب جنين من طرف اليمين وصولاً إلى باب أنطاكية) وفتح طريق من باب الحديد إلى حي قاضي عسكر، وما زالت معالم الهدم ظاهرة للآن، وطريق من باب الحديد إلى أغير، شاقاً الحي إلى قسمين!

مع العلم أنه في عام 1966 تم إعلان المدينة القديمة في حلب جزءاً من التراث العالمي من قبل منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة، لكن ذلك لم يشفع لها ليحد من تغول وتنفيذ المشاريع الهدامة للإرث الثقافي والحضاري والتاريخي فيها!

وختاماً تجدر الإشارة إلى أن بعض الناس من ذوي النيات الحسنة يقولون إن هذا الهدم كان لتجميل المدينة أو لحاجة موضوعية مثل إنشاء حدائق ومراكز حكومية وغيرها، إلا أن ما تمت الإشارة إليه ليس له أي علاقة بذلك، سوى أنه هدم للذاكرة الوطنية الجمعية لأهالي حلب ولسكان تلك الأحياء والأسواق والخانات التي طالها الهدم، وأصدق دليل على ذلك أنه لا الجيل الحالي ولا الذي سبقه يعرف كيف كانت حلب قبل أيام الاستعمار الفرنسي وما أتى للحكم من بعده، لإضاعة الذاكرة الوطنية والإنسانية الجمعية لأهالي وسكان مدينة حلب خصوصاً وللشعب السوري عموماً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1136