الاستنزاف الممنهج للقطاع الإنتاجي الوطني
عبير حداد عبير حداد

الاستنزاف الممنهج للقطاع الإنتاجي الوطني

يستمر النزيف على مستوى قطاع الثروة الحيوانية، في ظل الغرق الكامل بمستنقع الأزمات المزمن، ولا حلول جدية يجري اتخاذها من قبال الجهات المعنية عبر النهوض بما تبقى من تعداد لرؤوس الثروة الحيوانية، سوى المزيد من الاستنزاف والمضي قدماً نحو تسجيل المزيد من التراجع.

حيث تشير الإحصاءات الأخيرة أن تعداد الثروة الحيوانية، قد تراجع بنسبة 50% خلال السنوات الماضية، ورغم ما جرى ويجري، تستمر الحكومة باستراتيجية تصدير المزيد من رؤوس الثروة الحيوانية، ليتعمق بالطرف المقابل تسجيل المزيد من تراجع الاستهلاك المحلي للحوم الحمراء...

الحل الحكومي بالتصدير؟!

لقد وافق رئيس مجلس الوزراء يوم 18 آب الجاري على توصية اللجنة الاقتصادية، المتضمنة السماح بتصدير ذكور الأغنام والماعز الجبلي عبر كافة المنافذ الحدودية حتى نهاية شهر تشرين الثاني من العام الحالي.

تفاصيل القرار

يقضي القرار بتصدير 200 ألف رأس من الأغنام والماعز كحد أقصى، ويسمح لكل مصدّر بتصدير 1000 رأس عبر المنافذ البرية و5000 رأس عبر المنافذ البحرية والجوية.
كما ألزم القرار المصدّر بإعادة 300 دولار مقابل كل رأس مصدَّر، لصالح استيراد مستلزمات الإنتاج الزراعي للموسم القادم كالأسمدة والمواد العلفية...

الرؤية الحكومية للقرار

الهدف من القرار بحسب الرؤية الحكومية، وكما صرح مدير الإنتاج الحيواني هو: تأمين مستلزمات الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني على اعتبار أن جميع عائدات التصدير ستؤول لصالح تأمين مستلزمات الإنتاج الزراعي، والإسهام في الحد من تهريب الأغنام والماعز، إضافة إلى مساعدة المربين على الاستمرار في عملية التربية سيما في ضوء ارتفاع تكاليف مدخلات عملية التربية، حيث تقدم عدد كبير من المربين بطلبات للسماح بتصدير عدد من رؤوس ذكور الأغنام والماعز، علمًا أن الكمية المسموح بتصديرها هي جزء من معدل النمو السنوي للقطيع.

انعكاسات العمل الحكومي!

يُعد قرار التصدير أعلاه كارثياً من حيث انعكاساته السلبية على واقع المعيشة، سواء من حيث تسجيل المزيد من التراجع على مستوى تعداد القطعان، أو من حيث تسجيل المزيد من ارتفاع الأسعار على مستوى منتجات هذا القطاع من لحوم أو ألبان وأجبان...إلخ.
فقد شهدت سوق اللحوم الحمراء ارتفاعات مستمرة خلال الفترة الماضية، حتى وصل سعر كيلو اللحم الضأن الهبرة إلى 45 ألف ليرة في يومنا الراهن!
ووفقاً لمؤشر الأسعار والغلاء المعمم على كافة المنتجات الغذائية، فقد أحجم المواطن ذو الدخل المحدود، وهم الطبقة الغالبة في البلاد، عن شراء اللحوم الحمراء، مستعيضين عنها باللحوم البيضاء كخيار بديل لمصدر البروتين الحيواني، أما اليوم، بعد موجة الغلاء غير المنطقية مقارنة بدخل المواطن المحدود، والتي طالت اللحوم البيضاء «الفروج»، حتى باتت تنافس اللحوم الحمراء بارتفاع أسعارها، فلم تعد اللحوم بكافة أشكالها بوارد الاستهلاك من قبل المواطن، بعد أن أدرجت الكثير من المواد الغذائية الضرورية لضمان سلامة وصحة المواطن الجسدية والعقلية، ضمن دائرة المحظورات الاستهلاكية التي يغطيها دخله، ليعيش على فتات يضمن له البقاء على قيد الحياة ولو على حساب صحته، فلا خيار بديل، طالما أن الحكومة قد غضت الطرف عن تعديل أجور المواطنين الزهيدة مقابل تكاليف المعيشة المرتفعة جداً.
وبالتالي، سنشهد خلال الفترة القادمة كنتيجة لقرار التصدير، تسجيل المزيد من ارتفاعات الأسعار على مستوى اللحوم الحمراء ومنتجاتها الأخرى، والمزيد من البؤس الذي سيضرب المحرومين أصلاً من أساسيات العيش الكريم.

مبررات غير مبررة

أما من حيث المبررات الحكومية، صحيح أن التصدير سيعوض على المربين بعض خسائرهم، ولكن في حقيقة الأمر، إن الحل المقترح لحظي التأثير على المربين، وليس جذرياً، إلا إن أرادت الحكومة الموقرة اعتماد هذا الشكل كحل لتغطية نفقات الإنتاج المرتفع على المربين، ولتغطية جزء من حاجتها للقطع الأجنبي، ناهيك أن الرابح الأكبر من كل تلك العملية هي جيوب المصدرين، وعلى حساب استمرار استنزاف هذا القطاع الهام الذي يشكل أمناً غذائياً وطنياً، وعلى حساب حرمان المواطن من حقه بامتلاك نظام غذائي متوازن يضمن له ولأبنائه صحة سليمة.

ذريعة التهريب

ثم إن فتح باب التصدير لم ولن يغلق يوماً قنوات التهريب، سواء لقطعان الثروة الحيوانية أو غيرها من المنتجات والسلع، طالما أن المبررات غير المنطقية متوفرة بأرضيتها الثابتة وبيئتها الحاضنة.
فلا رقابة جدية أثبتت جدارتها على مستوى السنين الماضية، ولا جدية العمل الحكومي بتأريض الأسباب، قد أحدثت تغييراً جدياً انعكس على واقع المربي أو المواطن، فهناك الكثير من الحلول التي يمكن من خلالها التحكم بأدوات التغيير نحو واقع إنتاجي واستهلاكي أفضل، يحافظ على دورة إنتاج كاملة بجميع حلقاتها، ولكن إيجاد الحلول الجدية على ما يبدو يغلق الأفق أمام استمرار المزيد من قنوات الأرباح المرقومة لحيتان الاستيراد والتصدير والتهريب.

الحلول مقابل المعيقات

إن ارتفاع تكاليف الإنتاج وطرق تأمينها ملقاة على عاتق المربين، وهي المعاناة الأكبر والتي أدت وستؤدي إلى مزيد من ارتفاع الأسعار، طالما أن السوق السوداء هي المتحكم الأكبر بالأسعار والكميات، مقارنة بفتات الدعم حكومي المقدم لهم، سواء كان للأعلاف أو اللقاحات والأدوية البيطرية، أو المحروقات اللازمة لعمليات النقل والتدفئة شتاءً، ونضيف إلى ذلك تكاليف أخرى يتحملها المربي في حال انتشار مرض معدٍ بين القطعان، تتراوح بين الأدوية وتعرفة أجرة الطبيب البيطري.
أما إن كانت الحكومة جدية بإيجاد الحلول فإن إمكانية إنتاج الأعلاف محلياً ليست ضرباً من الخيال، خصوصاً أن العوامل الأساسية لإنجاحه متوفرة، إن كان من ناحية توفر الأراضي الخصبة القابلة للزراعة، أو من حيث المعامل اللازمة للإنتاج، وما ستوفره من فرص عمل أيضاً، أضف إلى ذلك ما ستوفره من قطع أجنبي بديلٍ عن عمليات الاستيراد، والتكاليف الإضافية كأجور النقل والشحن وذرائع العقوبات والحصار وهوامش أرباح حيتان الاستيراد المضافة، والتي تزيد من تكاليف الاستيراد، ناهيك أن الاستيراد يكون وفق أسعار الصرف المركزي، ولكنها تباع وفق أسعار السوق السوداء.
وأضعف الإيمان كان يمكن للحكومة في ظل عمليات الاستيراد القائمة وضع الشروط وآلية لمراقبة الأسعار عالمياً، وأسعارها محلياً، وضبط هوامش الربح وأجور النقل، للحد من تلاعب المستورد بالأسعار عبر فواتير الاستيراد تلك، وهذا ما قد أعلنت عنه سابقاً وزارتا الزراعة والتموين يوم 11 تشرين الأول الماضي، وهو يقوم على نقطتين أساسيتين، الأولى: أن تتوافق الأسعار مع الكلفة الحقيقية للأعلاف. والثانية: أن يتم وضع تسعيرة جديدة للأعلاف كل 3 أشهر، يلتزم بها المستورد، ويكتب تعهداً عند حصوله على إجازة الاستيراد، ومن ثم يقوم بتسليم حصة مؤسسة الأعلاف من الكمية المستوردة، وهذا ما لم ينعكس عملياً على واقع الأسعار كنتيجة للجهود الحكومية التي تثبت بما لا يترك مكان للشك، أن مصالح حيتان التصدير والاستيراد لتحقيق المزيد من الأرباح هي فوق كل اعتبار، ويجري تمريرها فوق مصلحة الوطن والمواطن، وعلى حساب تدمير القطاعات الإنتاجية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1084