حديد مستعمل.. ظاهرة استغلال جديدة بعواقب وخيمة!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

حديد مستعمل.. ظاهرة استغلال جديدة بعواقب وخيمة!

على إثر الارتفاعات الجنونية لأسعار مواد البناء، وخاصة الحديد، ومع انتشار وتوسع ظاهرة بيع الحديد المستعمل مؤخراً، مع استمرار تفشي مخالفات الأبنية البعيدة عن الشروط الفنية والهندسية، تتبادر للأذهان بعض الأسئلة، مثل:

هل هذا الارتفاع السعري سيدفع بعض المقاولين وسماسرة العقارات، أو بعض المواطنين، لاستخدام الحديد المستعمل في البناء بدلاً من الجديد، سواء للأبنية المشادة حديثاً، أو لترميم الأبنية القديمة؟
هل من الممكن إعادة استخدام الحديد المستعمل في البناء، وفي أي من الأجزاء، وما هي الشروط الفنية؟
ما هي المخاطر من الاستخدام غير الفني والعلمي للحديد المستعمل؟

مليون ليرة فارق سعري في الطن

تتداول العديد من الصفحات المتخصصة ببيع مواد البناء في سورية ما وصلت إليه أسعار الحديد من أرقام قياسية.
بحسب بعض الصفحات فقد استمرت أسعار الحديد بالارتفاع خلال السنين الماضية، لكن الرقم القياسي كان خلال السنة الماضية، وتحديداً خلال الأشهر الأخيرة من عام2020، وما زال السعر يسجل المزيد من الارتفاع حتى الآن، حيث وصل سعر الطن الواحد إلى حدود 2,5 مليون ليرة، مع سقف مفتوح للسعر طبعاً، وذلك ارتباطاً بسعر الصرف بشكل رئيسي.
ارتفاعات الأسعار طالت أسعار الحديد المستعمل أيضاً، الذي وصل سعر الطن منه إلى 1,5 مليون ليرة، وهذا النوع من الحديد انتشر وتوسع استخدامه خلال السنين الماضية بشكل لافت، بدليل إيراد ومتابعة سعره بالتوازي مع أسعار الجديد في بعض الصفحات المتخصصة.

مُعفش ومنهوب

وقفة لا بد منها في البداية حول الحديد المستعمل الذي درجت إعادة استخدامه مؤخراً.
فقد انتشرت ظاهرة استخدام هذا النوع من الحديد خلال السنين الماضية، وأصبح له سوقه الخاص، وبورصته السعرية المرتبطة ببورصة الحديد الجديد.
أما عن مصدر هذا الحديد، فهذا حديث ذو شجون؟!
فمع الأسف فإن أنقاض الأبنية في المناطق التي أتى عليها الدمار خلال سني الحرب والأزمة مصدر لهذا النوع من الحديد، ومن الناحية العملية فهو مسيطر عليه ومتحكم به من قبل مجموعات التعفيش التي تضع يدها عليه بعيداً عن دور أية جهة حكومية، سواء خلال عمليات استخراجه وفرزه، أو عمليات التعديل البدائية عليه، وصولاً إلى بيعه بحسب السعر الرائج له.
بمعنى أكثر دقة، إن الحديد المستعمل المنتشر، بيعاً وشراءً واستخداماً، بالأصل هو بضاعة وسلعة منهوبة من جملة ما تم ويتم نهبه من قبل مجموعات التعفيش، ومَن خلفهم من شبكات حيتان أفرزتها الأزمة.
لن نخوض في المزيد من التفاصيل بهذا الشأن، لكن لكم أن تتخيلوا حجم النهب في الحديد المستعمل فقط، بعد أن وصل سعر الطن منه إلى أكثر من 1,5 مليون ليرة في السوق!

فرص الاستغلال الجديدة

الفارق السعري بين الحديد الجديد والمستعمل يعتبر فارقاً مغرياً، وخاصة في حال كان المطلوب كميات كبيرة من الحديد.
ففي كل 1 طن هناك فارق بحدود مليون ليرة سورية تقريباً بين الجديد والمستعمل، وفي الحسابات الختامية لدى البعض، مقاولين وسماسرة بغاية جني الأرباح، وحتى مواطنين للضرورة، يعتبر ذلك وفراً في التكلفة الإجمالية لعمليات إشادة أو ترميم أي بناء أو منزل.
فوجود الحديد المستعمل، مع هذا الفارق السعري المغري، يعتبر فرصة إضافية للمزيد من الاستغلال وتحقيق المزيد من الأرباح في جيوب البعض، وخاصة مقاولي البناء وسماسرة العقارات، طبعاً على حساب المواصفات الفنية الواجب توفرها في الأبنية المشادة، وبالتالي على حساب عوامل الأمان والعمر التقديري الافتراضي لكتل هذه الأبنية، وما يزيد الطين بلّه بهذا الصدد، هو غياب أي شكل من أشكال الرقابة الهندسية والفنية على الأبنية المشادة كمخالفات بشكل خاص.

رأي بعض الفنيين والمختصين

بحسب بعض الفنيين والاختصاصيين، إن الحديد المستعمل من الممكن إعادة استخدامه في بعض أجزاء الأعمال الإنشائية فقط، وليس جميعها.
فصلاحية إعادة الاستخدام مرتبطة ببعض الجوانب الفنية التي لها علاقة بطريقة استخراج هذا الحديد من الأبنية المهدمة، وخاصة الأسياخ المستخدمة في التسليح، بين الهدم النظامي والهدم العشوائي.
وبشكل عام من المفترض التأكد من عدم وصول الحديد المستعمل إلى حد الخضوع، وذلك بعد إجراء الاختبارات على عينات مختلفة منه لمعرفة كفاءته.
وبمطلق الأحوال، إن حديد التسليح من الواجب أن يكون جديداً وليس مستعملاً، في العناصر الإنشائية الرئيسية، مثل: القواعد، رقاب الأعمدة، الميّد، الأعمدة، الشيناجات والكمرات..
بنفس الوقت، لم ينف هؤلاء إمكانية إعادة استخدام الحديد المستعمل في بعض الأعمال غير المهمة إنشائياً، والتي لا تؤثر على سلامة وأمان الكتلة الإنشائية عموماً، مثل: الأرضيات والرامبات، وحتى هذه الأعمال يجب أن يتم فرز واستبعاد الحديد المتآكل والصدِئ والملتوي منها، وذلك لتأثيرها على عزم الحديد، حيث تقلل منه.
وبحسب بعض الفنيين، إن الحديد المستعمل تغيرت مواصفاته، حيث تعرض مسبقاً إلى عوامل الإجهاد والخضوع، وإعادة استخدامه في بعض العناصر الإنشائية الهامة قد يؤدي إلى كوارث لا تحمد عقباها.

جوانب فنية مغيبة وهوامش ربح متسيدة

مع الأخذ بعين الاعتبار أن مصدر الحديد المستعمل هو الأبنية والأنقاض المتهدمة والمتضررة بفعل القذائف بمختلف أنواعها، وليس من عمليات الهدم النظامي للأبنية، أي: إن هذا النوع من الحديد هو مُجهد سلفاً وفاقد لجزء هام من مواصفاته الفنية، وفي ظل غياب الرقابة العلمية والفنية على عمليات استخراجه وإعادة تأهيله البدائية على أيدي المعفشين والناهبين ومن خلفَهم، ومع ما يسجله سعر هذا النوع من الحديد بالمقارنة مع سعر الحديد الجديد، والفارق المغري بين السعرين، وأمام الواقع المستجد من انتشار استخدام الحديد المستعمل في البناء بعيداً عن أي شكل من أشكال الرقابة الهندسية والفنية، فمن الطبيعي توقع ما سيسفر عنه هذا الاستخدام من مخاطر مستقبلية على سلامة الأبنية التي تم ويتم إنشاؤها، وخاصة في مناطق المخالفات والعشوائيات، وبالتالي على سلامة وأمان من يقطنها مضطراً وتحت ضغط الحاجة من المواطنين.
فمن يعلم فيما إذا تم استخدام هذا النوع من الحديد في العناصر والأجزاء الرئيسية والهامة خلال عمليات البناء من عدمه؟
ومن سيمنع الباحثين عن المزيد من فرص الربح، من سماسرة العقارات والمقاولين، عن استخدام هذا الحديد في التسليح، والأعمدة، والأساسات، والشيناجات، مثلاً؟!

الدولة غائبة

ربما ليس جديداً القول: إن استمرار غياب الدولة عن مهامها على مستوى خطط السكن والإسكان، سبب رئيس لتفشي وانتشار الأبنية السكنية المخالفة والعشوائيات خلال العقود الطويلة الماضية وحتى الآن، التي تفتقد بيوتها للشروط الفنية والصحية، ناهيك عن عوامل الاستغلال التي فرضها المقاولون وسماسرة العقارات على المواطنين بالنتيجة، وخاصة ناحية السعر. وقد تزايدت عوامل الاستغلال في السكن خلال سني الحرب والأزمة أضعافاً مضاعفة عمّا سبق أيضاً، بسبب الدمار الكبير الذي أتى على الكثير من المدن والبلدات والقرى وبيوتها، وموجات النزوح الكبيرة التي رافقت ذلك.
لكن الغياب الرسمي لم يقف عند ذلك فقط، حيث سجل أيضاً على مستوى عمليات التعفيش خلال السنوات الماضية والمستمرة حتى الآن، والتي سارت وتسير على قدم وساق، وصولاً إلى عمليات تعفيش الحديد، وعمليات تأهيله البدائية، وبورصة بيعه، المتحكم بها والمسيطر عليها من قبل بعض حيتان الأزمة، لإعادة استخدامه في عمليات الإشادة والبناء والترميم.
فسماسرة العقارات الذين لم تكن تعنيهم السلامة الهندسية والفنية والصحية، بقدر ما يعنيهم ما يحققونه من هوامش الربح، زادت لا مبالاتهم بهذه العوامل مع فرص توفير المزيد من الأرباح من خلال استخدام الحديد المستعمل الرخيص بالمقارنة مع الجديد.
ولم لا؟ فلا رقيب ولا حسيب ولا مراقبة ولا متابعة، والحدود الدنيا المتوفرة على هذه المستويات، إن وجدت، سبق أن تجاوزتها عوامل الفساد، الكبير والصغير، وابتلعتها!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1005
آخر تعديل على الثلاثاء, 16 شباط/فبراير 2021 21:11