الفساد في رغيف الخبز..  وحكاية الكعكة والصندوق والمفتاح
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

الفساد في رغيف الخبز.. وحكاية الكعكة والصندوق والمفتاح

يشتكي المواطن من «سوء رغيف الخبز»، وتشتكي المخابز من «رداءة الدقيق والخميرة»، وتشتكي المطاحن من «نوعية القمح والخلطة الطحنية»، وتشتكي الحبوب من «القمح المُستلم ومواصفاته»، ويشتكي الفلاحون من «نوعية البذار ومستلزمات الإنتاج»، وتشتكي الحكومة من «الدعم الذي لا يصل لمستحقيه».. وهكذا في سلسلة مفرغة طويلة من الشكاوى المتتالية، المحقة وغير المحقة، مع تجيير المسؤوليات، التي تضيع معها المحاسبة والحقوق بالنتيجة، وذلك في ملف واحد كبير معني بصناعة وإنتاج رغيف الخبز.

فضيحة الخبز السيء في محافظة حماة، ومجريات هذه الفضيحة حتى الآن، ربما تعتبر مثالاً صغيراً عما سبق، فعلى الرغم من إنهاء تكليف مدير مخبز السقيلبية كمحاولة من أجل طي هذا الملف وإغلاقه، إلا أن كرة الثلج ما زالت تتدحرج، عسى تتحقق الأمنيات بالوصول إلى كل شبكة المتواطئين فساداً بهذا الملف وسواه على حساب المواطنين والاقتصاد الوطني.
المكتوب وعنوانه!
بحسب بعض المواطنين فإن «المكتوب مبين من عنوانه»، فملف الخبز السيء في منطقة الغاب لن يثمر إيجاباً بحيث لا تُعاد الكرة فيه مجدداً، وذلك على إثر سماعهم ما نُقل عن لسان مدير المخبز المنهي تكليفه، والذي بيّن عبر إحدى الصحف المحلية بأن قرار إنهاء تكليفه كان «ظالماً بحقه» لأنه «الحلقة الأضعف بما يخص رداءة الخبز»، مؤكداً «ورود كميات من الطحين غير صالحة لإنتاج الرغيف وكمية خميرة سيئة» أيضاً، وبأنه قام بإعلام المعنيين لكن «لم يستجيبوا»، قائلاً: «لقد حمَّلوني المسؤولية من دون وجه حق».
فالمواطنون لا يعنيهم أمر إنهاء تكليف مدير المخبز باعتباره «الحلقة الأضعف»، مع عدم نفي مسؤوليته طبعاً، بقدر ما يعنيهم أمر المحاسبة الجدية لكل المتسببين ببيعهم خبزاً لا يصلح أن يكون علفاً، بحسب وصفهم، على اتساع خارطة المسؤولية عن ذلك على مستوى الحلقات الأكبر والأقوى.
فهل أُغلقت فضيحة الرغيف في محافظة حماة، عبر لفلفة الأمر من خلال إنهاء تكليف مدير مخبز السقليبية، وكفى الله المؤمنين القتال؟
وهل موضوع رداءة الرغيف سببه فني محصور بالمخابز فقط، أم أن له أسباباً أخرى؟
وهل كان الأمر سيمر مرور الكرام لو لم يشتكِ المواطنون من رداءة الرغيف، رغم كل ما يفترض وجوده من حلقات مسؤولية ومتابعة وتدقيق واختبار و..؟.
بوابات الولوج العميق
بحسب وسائل الإعلام فإن الملف أعلاه ما زال قيد التحقيق لدى الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، وبالتالي: ربما من المبكر الحكم عمّا ستؤول إليه نتائج هذه التحقيقات.
في المقابل، فإن المجريات حتى الآن تشير إلى أن ملف التحقيقات هذا وصل للخوض بعمل المطاحن المعنية من بوابة الدقيق المتجبل الموزع على المخابز، مروراً بالكميات المخزنة والمدورة، وصولاً لنسبة الرطوبة المعتمدة وعامل رفع هذه النسبة، وليس انتهاءً بالتخزين وشروطه الفنية.
فقد ورد عبر صحيفة تشرين بتاريخ 7/7/2019 ما يلي: «حسب خبرة الفنيين بعمل المطاحن, فإن رفع نسبة الرطوبة بمعدل 1% بالدقيق لحظة خروجه من المطحنة عن المعدل المسموح فيه البالغ 14% يحقق أرباحاً تصل إلى 37 مليون ليرة شهرياً لمطحنة النواعير, فيما لو أخذنا هذه المطحنة كمثال، وذلك وفق الكميات العقدية لمؤسسة الحبوب مع المطحنة, لكن المعضلة الكبيرة تكمن في كشف فيما إذا كان الأمر تم على هذا المنوال, وهذا يحتاج نفي باقي الاحتمالات التي قد تتسبب بتجبل هذه الكميات من الدقيق, والتي تشمل سوء التخزين أو تجاوز مدة التخزين الفترة المسموح بها».
ما ورد أعلاه كمثال عن رفع نسبة الرطوبة بمقدار 1%، وما يقابلها من ملايين من الأرباح، تتعلق بالتخزين وشروطه فقط، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من تجبل وسوء بنوعية الطحين، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك نسب رطوبة ترتبط بعمل المطحنة خلال مرحلة الطحن وما يقابلها من أرباح أيضاً، ولكم أن تتخيلوا النسب والأرباح المحققة بكل مطحنة، عامة أو خاصة، بحال زيادة هذه النسب، وما ينجم عنها من تردي بنوعية الطحين ومواصفاته!.
فهل الكشف أعلاه سيؤخذ به رسمياً عبر التحقيقيات، بحيث يكون مدخلاً للولوج العميق إلى إحدى بوابات الفساد الكبيرة في سلسلة إنتاج وتصنيع الخبز، من أجل المزيد من الرقابة والمحاسبة عليها؟.
وهل هذا الكشف سيفتح البوابات لكشوفات تحقيقية أخرى، ربما أعمق وأهم في هذه السلسلة؟.
سلسلة تكسب وفساد طويلة
لعل الحديث عن التلاعب بنسبة الرطوبة في الدقيق من قبل المطاحن، يذكرنا بالتلاعب بنسبة الرطوبة الخاصة في القمح عند التسليم للمطاحن من قبل الحبوب والمرتبط بالتخزين وشروطه أيضاً، والتلاعب برطوبة رغيف الخبز نفسه عند بيعه للمواطن والمرتبط بخط التبريد، فكل تلاعب بهذه النسب يحقق الملايين من الأرباح شهرياً في جيوب بعض الفاسدين بحلقات الإنتاج والتصنيع، وهذه الحلقات ربما لا تقتصر على فرع حبوب دون سواه، أو عن مطحنة دون غيرها، أو محصورة في مخبز وحيد لا غير، بالإضافة طبعاً إلى أن حلقات الاستفادة من رغيف الخبز كعنوان عريض أوسع بكثير من قضية التلاعب بنسب الرطوبة، رغم ضخامتها، فهي تبدأ من صفقات القمح المتعاقد عليها وكميات القمح المستلمة من الفلاحين، مروراً بما يتم تسليمه للمطاحن العامة والخاصة من قمح وما ينتج عنها من كميات دقيق، بالمقارنة مع نسب الاستخراج المعتمدة، وصولاً لكميات الدقيق المسلمة للمخابز العامة والخاصة، وليس انتهاءً بمبالغ الدعم المفترض على السعر بطول هذه السلسة، مع عدم إغفال مستلزمات الإنتاج المدعومة الأخرى (طاقة- محروقات- خميرة..) والتي تعتبر بوابة تكسب وفساد، بالإضافة إلى نسب السماح بالتلف والفاقد والهدر وغيرها من المسميات التي تعتبر بوابات تلاعب هي الأخرى.
فصناعة الخبز تمر عبر سلسلة طويلة إنتاجاً وتصنيعاً وتسويقاً، لكن العيوب في هذه الصناعة لا تظهر وتسلط عليها الأضواء غالباً إلا من خلال رغيف الخبز كمنتج نهائي معد للاستهلاك، ولا يتم التوقف عندها إلا في حال اشتكى المواطنون ووجدت شكواهم طريقها إلى المعالجة، هذا إنْ جرت على أكمل وجه وعلى طول سلسلة عملية الإنتاج والتصنيع، وليس على حلقة دون أخرى كما يجري عادة، وعِبر أسلوب الترقيع المتعارف عليه، ولعل حملات الملاحقة لبائعي الخبز بجانب المخابز ومحيطها بين الحين والآخر، رغم أهميتها، تعتبر دليلاً عن آليات العمل الترقيعية الجارية، والتي لم ولن تحقق غاياتها بالنتيجة كونها تركز وبشكل هامشي وارتجالي على الحلقة الأخيرة فقط من السلسلة الطويلة العاملة فساداً بعمق هذا الملف.
الحلقة المفرغة
ملف صناعة رغيف الخبز يعتبر واحداً من الملفات الكبيرة التي استقطبت على هامشها وبعمقها شبكات فساد كبيرة ومتشابكة في البلد، وذلك نظراً لأهميته كونه القوت اليومي للمواطنين، وللمبالغ الكبيرة المرصودة من أجله، وما يخصص من دعم مالي كبير باسمه.
وقد جرى تسليط الضوء على هذا الملف بشكل كبير ومتواصل طيلة عقود وحتى الآن، والشواهد على ذلك كثيرة، اعتباراً مما يتم ضبطه رسمياً من دقيق تمويني مهرب بكميات كبيرة سنوياً، أو ما يشوب صفقات القمح من ملابسات تصل إلى بعض وسائل الإعلام وبعض صفحات التواصل الاجتماعي، وليس انتهاءً بالتلاعب بالوزن والمواصفة، وعلى الرغم من ذلك ما زالت الحال على ما هي عليه على مستوى ما يشوبه من فساد، وطبعاً الحديث هنا عن مئات المليارات من الليرات السورية سنوياً، على حساب المواطن والاقتصاد الوطني، في ظل استمرار الحديث الحكومي عن حجم الدعم المخصص سنوياً لهذا الرغيف.
وبهذا السياق، ربما يذكر كبار السن، على الأغلب، أغنية الطفولة التي تحكي عن الكعكة المقفل عليها في الصندوق، والحلقة المفرغة التي تمنع الوصول إليها بالنتيجة، والتي تقول في متنها: «الكعكة بقلب الصندوق، والصندوق بدو مفتاح، والمفتاح عند الحداد، والحداد بدو بيضة، والبيضة عند الجاجة، والجاجة بدها قمحة، والقمحة بالطاحونة، والطاحونة مسكرة فيها مي معكرة..».
فحكاية الفساد في بلادنا تشبه إلى حد كبير هذه الحكاية المغناة، مع الفارق على أرض الواقع: أن الكعكة سبق أن استحوذ عليها الفساد الكبير كاملة، بعد أن استفرد بوضع يده على الصندوق، وأقفل على الحداد، وخرّب الطاحون، وابتلع البيضة والجاجة والقمحة أيضاً، لكنه يدفع باتجاه تعزيز التوهان في الحلقات المفرغة، بحيث نعجز في الوصول لأية نتيجة، مستفيداً من المياه العكرة والآسنة التي يعمل فيها ومن خلالها.
وبكل اختصار: ربما يمكننا القول بكل أريحية: إنّ أي إجراء لا يطال الفساد الكبير ما هو إلا نوع من العبث التضليلي والترقيعي ليس إلا

معلومات إضافية

العدد رقم:
923
آخر تعديل على الإثنين, 22 تموز/يوليو 2019 09:46