كمال مراد كمال مراد

الاستملاك الجائر.. ومناطق المخالفات: من عش الورور إلى نهر عيشة:

مع ازدياد حدة التناقضات الطبقية وتنامي وتيرة الاستغلال، يكبر حجم الفقر.. تموت القرى.. تتوسع أحزمة بيوت الصفيح لتلف المدن الكبرى.. يضيق الهواء.. تهاجر الزنود السمر لتبحث عن عمل بعد أن ذبل الزرع وتيبست الأشجار.. ومع مرور السنوات.. أحيطت دمشق من كل جوانبها بأحياء جديدة مكتظة.. ليس عش الورور أولها ولا الدويلعة ونهر عيشة آخرها... والتي اصطلح على تسميتها «بمناطق المخالفات». حيث أصبحت تلك البيوت المخالفة تمثل ما يزيد عن الـ)50%) من حجم المدينة...

سقف آمن!!

إذن نحن أمام أمر واقع.. ليس للباحث عن سقف آمن في هذا الوطن ذنب في أن يشوه جمال المدينة، ويعطل على أرباب المصالح العقارية فرصة إشادة المنتجعات السياحية بدلاً من «بيوت الزبالة» تلك..

ومن منطق الأمور أن تتصدى «الجهات المعنية» لهذا الواقع لجعله أكثر إنسانية وأقل وجعاً من خلال مجالسها المختصة في هذا الأمر.. وهنا كانت الكارثة: إزالة المخالفات.. التعويض المجحف.. تشريد الأهالي وحرمانهم من السقف الذي لا سقف لهم غيره.. تخصيص بيوت بديلة لساكني العقارات المرخصة مقابل أقساط شهرية باهظة لسنوات طويلة تلتهم رواتبهم الشهرية الهزيلة.. وكأن الحل يأتي من خلال قطع الرأس لإزالة ألمه..

مطاردة الظل!

حول هذا الموضوع المزمن.. تتابع «قاسيون» النقاش للوصول إلى حلول أكثر عدالة وإنصافاً لساكني بيوت أحزمة الفقر «المخالفة».. ووضع حد لمطاردة الظل «تطبيقاً للقوانين والأنظمة النافذة»... النافذة «على ناس وناس» والنافذة من بوابة الصدر.. عبر القلب.. نحو القبر.. وكانت اللقاءات التالية مع بعض السادة أعضاء مجلس محافظة دمشق الذين تجرءوا على الحديث في هذا الموضوع الشائك.. بعضهم بأسمائهم الصريحة.. وبعضهم بدونها..

من جهاد... إلى جهاد

كان أول المتحدثين المجاهد القديم عمر أرناؤوط أكبر أعضاء مجلس محافظة دمشق سناً (81) ربيعاً ابتدأ حديثه بعرض لمرحلة تاريخية منذ الاستعمار العثماني مروراً بالاستعمار الفرنسي والثورة السورية الكبرى ومشاركته الثائر فوزي القاوقجي منذ أول يوم لدخول فلسطين حتى نهاية الحرب عام 1948.

مدن مهاجرة.. إلى المدن

كما استعرض المجاهد أرناؤوط المواقف الوطنية المشرفة لسورية التي تحملت أعباءً كثيرة نتيجة تمسكها بثوابتها الوطنية.. ومن خلال ذلك بين تدفق العديد من المواطنين إلى المدن السورية، وخاصة دمشق، بدءاً من اللاجئين الفلسطينيين، مروراً بالنازحين والوافدين والمهجرين حتى من أحداث أيلول الأسود.. وتفاقم الفقر الذي أدى لزيادة الهجرة من الأرياف نحو دمشق إضافة إلى هجرة المدن..

وتوصل المجاهد عمر أرناؤوط إلى أنه لهذه الأسباب اضطرت هذه الفئات الفقيرة إلى إشادة بيوت تحميها على محيط دمشق وأحياناً على أراضي الدولة أو الأراضي الزراعية لتنتج عنها مناطق المخالفات العديدة: (الطبالة، الدويلعة، نهر عيشة، مخيم اليرموك، مخيم فلسطين، عشر الورور، الـ 86، الدخانية..) وغيرها وغيرها من الأحياء الكثيرة والكبيرة المكتظة بالطبقات الكادحة والفقيرة..

الكلفة المكلفة!!

وأضاف: ونتيجة التوسع العمراني الذي شهدته المدينة، اضطرت المحافظة لإخلاء بعض المساكن في مناطق المخالفات وإسكان أصحابها في الحسينية وتل كوكب والديابية وعدرا وجوبر والمزة.. إلاَّ أن أثمان هذه البيوت التي أعطيت لهم مقابل بيوتهم كانت أثماناً باهظة وأقساطها مرتفعة جداً حيث لم يتمكن معظم الذين استلموا هذه البيوت من أن يسددوا الأقساط المترتبة عليهم.

وتمنى دراسة هذا الموضوع بجدية وتخفيض أثمان هذه البيوت بأخذ الكلفة الحقيقية الفعلية..

تقسيط.. مريح

واقترح عند هدم البيوت، أن تشاد أبنية برجية في المنطقة نفسها، وأن تمنح هذه الشقق «هبة» لأصحاب البيوت المهدومة، أو بالتقسيط المريح..

واختتم المجاهد أرناؤوط حديثه بالقول: إن المحافظة عاجزة ضمن ميزانيتها عن تقديم الحلول المنصفة للمتضررين، وبالتالي لابد من أن تدعم الدولة تلك المشاريع عبر الخزينة المركزية للدولة.. وتمنى أن يتحول التوجه (بعدم هدم أي سقف قبل تأمين سقف بديل له) إلى قانون يحمي المواطنين من الاستملاك الجائر...

من التشرد.. إلى الحماية!

وفي لقاء مع أحد أعضاء المجلس، وهو يعمل مهندساً في المحافظة (طلب عدم ذكر اسمه)، قال: سأتناول هذه المشكلة من الناحية الفنية التي تؤدي إلى معالجتها من كافة الأوجه. والموضوع ذو شقين:

الشق الأول: فيما يتعلق بالأبنية المشادة على أملاك الدولة دون ملكية قانونية.. بداية يجب النظر لهذا الجانب كأمر واقع يتعلق بمصير الآلاف من المواطنين، واقترح القيام بجرد واقعي لهذه المناطق ضمن تخطيط سكاني مبرمج، وربط هذه المناطق بالمدينة ربطاً مدروساً وبشكل حديث للإفادة من المساحات الكبيرة للمنطقة عمرانياً وتجارياً مع الحفاظ على مساحات خضراء كبيرة..

فعلى سبيل المثال إذا كان عدد سكان هذه المنطقة بحدود الـ (1000) مواطن، يتم بناء نحو عشرة أبنية برجية شعبية لإسكان المتضررين وتخديم المنطقة كاملاً، مقابل دفع التكلفة الفعلية للشقق على مدار (25) سنة بأقساط شهرية وبهذه الطريقة نكون قدمنا الحماية لهؤلاء الناس من التشرد في الطرقات، وبالمقابل تنال الدولة ثمن كلفة هذه العقارات..

الشق الثاني: يتعلق بمناطق المخالفات التي عقاراتها ملك شخصي للمتضررين وخاضعة للقانون (60)، حيث يمكن تنظيم هذه المناطق واستبدال قيمة بيوتهم بأسهم حسب المساحة..

وتتشارك كل مجموعة من أصحاب الأسهم في بناء محضر في نفس المنطقة، مع تقديم الخدمات اللازمة كافة لهم والحفاظ على وجود مساحات خضراء كمتنفس للسكان وحماية للبيئة، مع العلم أن المحافظة ستحقق الفائدة أيضاً من مشاريع كهذه من خلال بيع الأبنية التي تشيدها هي.. وأعتقد أن ذلك يساعد أصحاب الدخل المحدود بشكل فعلي..

تحريك الجمود!!

وأضاف: إن هذه العملية تساعد من جانب آخر على تحريك الجمود المالي السائد من خلال حركة البناء التي تؤمن في الوقت نفسه فرص عمل جديدة. ويقوم البنك العقاري بالبناء والبيع بقروض مريحة لمدة (25) سنة ويغطي كلف المشروع ويحقق أرباحاً من خلال أثمان المحاضر والأسواق التجارية في المنطقة ذاتها ولحظ تأمين المرافق والخدمات العامة من حدائق ومدارس ومستوصفات...

القانون... ومنطق العدالة!!

وفي لقاء مع الأستاذ المحامي مروان علاف، عضو المجلس، وأمين سره، قال:

من الناحية القانونية ليس هناك أي سند قانوني للسماح بالبناء على الأراضي الزراعية.. الخلل القائم هو أساساً في أن قانون الاستملاك غير عادل فعندما لا نعطي المتضرر القيمة الفعلية للعقار المستملك، ونثمن الأرض «بتراب المصاري»، عندها تبدأ المشكلة، وأرى أنه يمكن للمحافظة أن لا تقوم هي بمنح بيت بديل للمتضرر، وذلك من خلال دفع التعويض المكافئ لقيمة بيته، والذي يستطيع بدوره القيام بشراء بيت آخر مقابل بيته المستملك.. وعلى أرض الواقع نرى أن المحافظة تخمن قيمة السكن البديل بمبالغ باهظة عكس ما تقوم به عند تخمين قيمة البيت المستملك، فالبيت البديل، على سبيل المثال، في منطقة المخيم تسعره بنحو مليون ونصف ليرة، في الوقت الذي لا تزيد أثمان البيوت في المنطقة نفسها عن نصف هذا السعر!!! وبالتالي أعتبر أن ذلك استغلال غير مقبول من قبل المحافظة للمتضررين.. وفيه إجحاف وقسوة بحقهم.

وأضاف: الحل برأيي أن تقوم المحافظة بتنظيم وتخطيط مناطق المخالفات وبناء مساكن شعبية من قبل الدولة.. عند ذلك تزول المخالفات.. ومادامت الدولة لا توفر المساكن الشعبية فستبقى المشكلة قائمة بل ستتفاقم وسيزداد الفقر أكثر فأكثر..

حقوق.. بلا وجوه!!

ولفت السيد علاف النظر إلى النفقات الباهظة التي ترتبها الدولة على أسعار رخص البناء، حيث أن هذه النفقات تضاعف ثمن العقار دون وجه حق، في الوقت الذي نجد فيه أن أسعار مواد البناء معقولة وغير مرتفعة مثل الأسمنت والحديد.. فلماذا لا تأخذ الدولة سعر التكلفة الحقيقية فعلاً؟!

ومن المفترض إيجاد علاقة قانونية بين الدولة والمواطن دون ترتيب أي فوائد على ثمن العقار وأن تكون الأقساط طويلة الأجل..

«نمشي على التوكلي»!!

حتى الآن ليس لدى المحافظة خطط واضحة المعالم لمشاريعها.. «نمشي على التوكلي»!! ونعاني في المجلس من طغيان الإدارة على أعمالنا، وهذا أحد أسباب عدم نجاح تجربة الإدارة المحلية وضعف ما تقدمه من خدمات، ويعود ذلك أيضاً لكون رئيس مجلس الإدارة المحلية هو المحافظ نفسه.. بينما نرى أن التجربة المصرية في هذا المجال عكس ذلك، فرئيس المجلس منتخب انتخاباً، ويحضر إلى جانبه المحافظ لتنفيذ قرارات المجلس، وعندنا باعتبار رئيس المجلس هو المحافظ، تتدخل عوامل عديدة، وتسير لأمور في المجلس حسب مزاجية هذا المحافظ أو ذاك ونظرته للإدارة المحلية، وهذا سبب رئيسي في ضعف أداء الإدارة المحلية.

هيمنة الإدارة!!

وأضاف: أرى أن التجربة ضمن هيمنة السلطة التنفيذية على مجلس المحافظة تؤدي بها للسير على طريق الفشل، في الوقت الذي يعطي فيه قانون الإدارة المحلية صلاحيات واسعة للمجلس؟!

ونسأل: لماذا لا تمنح السلطات الفعلية والقانونية لمجلس المحافظة كي يعمل فعلاً على إنجاز القضايا الخدمية المتعلقة بالمدينة وسكانها؟!

خطوط.. غير واضحة المعالم

وفي حديث لأحد أعضاء المجلس (طلب عدم ذكر اسمه) قال:

للأسف الخطوط لدينا غير واضحة.. فقد طالبنا مراراً وتكراراً بتعديل قانون الاستملاك الظالم.. وحتى الآن لا يوجد نتيجة والدولة غير قادرة على إنصاف المواطنين ضمن الأنظمة الحالية المتبعة.. وتساءل مستهجناً: كيف يصبح المواطن الذي ورث بيته عن أبيه وجده مخالفاً.. وبعدها نحمله أعباء مادية لا يقدر عليها بعد أن يذهب بيته الموروث أدراج الرياح؟!

نطالب بتعديل القانون ليصبح أحدث من القانون (60) ومن القانون (26) الجديد، كي تضمن الدولة حقوق المواطنين.

بين التراب.. والذهب!

وأضاف: طالبنا ونطالب بإصدار قانون لإنصاف الناس من حيث السعر والبدل والمحافظة على الفلاحين وتثبيتهم في أراضيهم الزراعية، علماً بأن فلاحنا لا يرضى بالذهب بديلاً عن أرضه ونطالب بمساعدتهم في تأمين وصول مياه السقي لري أراضيهم.

الحلول لهذه المشاكل بسيطة وواضحة من خلال إشادة أبنية برجية للمتضررين في المنطقة نفسها، أما بالنسبة للمخالفات في الأراضي الزراعية فأرى ضرورة تنظيم الأرض نفسها التي عليها (باطون) بإقامة أبنية برجية وطابقية على نفس (الباطون) وعدم التعدي على الأراضي الزراعية المجاورة، ورفع الأبنية الموجودة سابقاً لأكثر من طابقين.

إن الغبن ليس في تخمين قيمة البناء المستملك فقط، بل أيضاً في تحديد قيمة الأراضي الزراعية التي تبخس الفلاح حقه بعد أن ينتزع من أرضه التي لا تعود لها أي قيمة..

شجون.. وبقية

 

ويبقى للحديث شجون... ويبقى بقية..

معلومات إضافية

العدد رقم:
153