من الذاكرة درس بلــيغ

 كعادتنا نحن طلاب المرحلة الإعدادية والثانوية في أوائل خمسينيات القرن الماضي، كنا في ترقب شبه يومي لقيام المظاهرات الطلابية التي تندفع إلى شوارع المدينة من أكثر من موقع حيث تتواجد مدارسنا، لنشارك بكل الحماسة والاندفاع في التظاهر، وترديد الأناشيد الوطنية، وإطلاق الشعارات والهتافات المدوية، منددين بالحكم العسكري الديكتاتوري، وممجدين نضال شعبنا الذي حقق الجلاء وطرد الاحتلال الفرنسي، وداعين للحفاظ على الاستقلال الوطني وحرية الشعب وفاءً لتضحيات آلاف آلاف الثوار والشهداء من أبناء سورية البطلة، ولهذا بالذات كانت مشاركتنا في المظاهرات تأكيداً حياً لإثبات انتمائنا الوطني، وجدارتنا أن نكون أبناء وأحفاد أولئك الأبطال الميامين.

ولا غرابة في أن ترى شبابنا وبخاصة الطلاب وقتها لا يهابون الاشتباكات مع عناصر الأمن والشرطة الذين كانوا ــ ومازالوا ــ يتمادون في القمع لمنع خروج المظاهرات، ونتيجة ذلك كان يقع عدد من الجرحى، وأعداد أكثر يساقون إلى التوقيف والاعتقال.
ومن الذاكرة استعيد هذه الحادثة التي لا تنسى، ففي أحد أيام عام 1952، استطاع أحد زملائي الطلاب «اللعب بعقلي وعقل زميل آخر» بألا نشارك يومها في المظاهرة، وأن نذهب معاً لحضور فيلم سينمائي عنوانه «عاد قتيلاً» في صالة سينما الفردوس بدمشق ــ وكانت دور السينما في ذلك التاريخ تعرض أفلامها بدءاً من الساعة العاشرة صباحاً، وهكذا ابتعدنا عن رفاقنا المتظاهرين وانعطفنا إلى شارع فرعي لنختصر المسافة بالوصول إلى الصالة، وعند المنعطف حيث يلتقي الطريق الفرعي بالشارع الرئيسي فوجئنا بعدد من عناصر الشرطة يطاردون طلاباً هاربين أمامهم للقبض عليهم.. وكان أن صرنا أمامهم وجهاً لوجه، فكنا صيداً سهلاً غير متوقع..
فعلى كل حال نحن طلاب نحمل المحافظ المدرسية، فتم إلقاء القبض علينا بمنتهى البساطة، وساقونا إلى مركز الشرطة في منتصف شارع النصر قرب الإذاعة القديمة، وزجوا بنا في غرفة امتلأت بالطلاب، وبعد ساعات جاء دورنا لنساق واحداً واحداً إلى غرفة التحقيق، وهذا طبعاً مع «صفعات ولكمات وحتى رفسات من السجانين» وهناك استقبلنا المحقق وزبانيته بسيل من الشتائم طال آباءنا وأمهاتنا وأخواتنا، وأصدر المحقق حكمه ــ عفواً أمره للزبانية: «ارفعوه فلقة... واحلقوا شعره»، وهذا ما حدث بالفعل وبعدها أخلوا سبيلنا، وأمام الباب الخارجي لمركز الشرطة التقينا نحن الثلاثة ثانية، وتبادلنا نظرات العتاب و الانكسار والإحباط والألم.. واندفعت أصرخ في وجه «المسبب» أنت السبب في تخلينا عن رفاقنا في المظاهرة، وأنت السبب فيما حصل لنا..
«عجبك ما جرى لنا» فقال وهو يزفر غيظاً: «الحق علينا.. خَرجْنا بنستاهل!!» وكانت تلك الحادثة والخاتمة درساً قاسياً لنا لم نترك بعدها مظاهرة إلا وكنا في طليعتها.