المرض لا ينتظر يا حكومة.. الدواء «مقطوع»!

المرض لا ينتظر يا حكومة.. الدواء «مقطوع»!

«والله مقطوع، بس إلك تكرم مندبرلك»، بهذه الكلمات ردّ أحد الصيادلة في دمشق، على أحد زبائنه الذي تبين لاحقاً أنه من أقربائه، حينما طلب «أوغمانتين». 

 

الصيدلي الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، أكد أن مضاد الالتهاب المذكور مقطوع من السوق نهائياً منذ 3 أشهر تقريباً، ومن الشركات كافة، وقبل هذه المدة كان يباع للصيادلة بعلبة أو علبتين فقط.

ارتفاع أسعار المواد الأولية..

يشير الصيدلي لـ «قاسيون» إلى أن حجة الشركات الأساسية في توقفها عن إنتاج هذا الدواء وغيره من الأدوية المفقودة، هي سعر المادة الأولية المستوردة، والتي يقولون أنها لا تتناسب مع سعر المبيع في السوق المحلية، وبالتالي انقطع هذا الصنف من السوق، كما انقطعت أصناف أخرى مثل: شرابات الأطفال، وأصناف من مضادات التشنج والمغص للكبار والصغار، وأحد أدوية التهاب اللثة المعتمد بشكل أساسي من قبل أطباء الأسنان، وغيرها الكثير، منها ما هو موجود حالياً في المستودعات بكميات قليلة جداً لكن بسعر أغلى من التسعيرة الرسمية.

الورقة الرابحة..!

ليست المرة الأولى التي تخطو بها معامل الأدوية هذه الخطوة، في سبيل إخضاع الحكومة لمطالبها ورفع الأسعار، فقد نشر خبر العام الماضي على إحدى الصحف بعنوان «الحكومة تدرس زيادة أسعار الأدوية» دونما إدراج أي ردّ حكومي، كفيل  بتوقف المعامل عن بيع أصناف معينة من الأدوية واحتكار المستودعات للأصناف المعروفة بالطلب الكبير، في حين عانى الصيادلة والمواطنون من انقطاع أصناف كثيرة واقتراب انتهاء مخزون أصناف أخرى، حتى رضخت الحكومة بعد 4 أشهر تقريباً ورفعت الأسعار 50%.

يبدو أن المعامل شعرت بضعف الحكومة في هذا الملف، واستشعرت بقوة الورقة التي بحوزتها، ولم تستطع انتزاعها الحكومة بأي شكل من الأشكال، حتى دخلت اللعبة مرة أخرة وبجرأة، وهذه المرة، كان تصريح نقيب الصيادلة في سورية، محمود الحسن، بمثابة جرس الإنذار، الذي دفع المعامل والمستودعات لاتباع أسلوب الامتناع ذاته عن الإنتاج واحتكار الأدوية الهامة.

الحسن قال في شهر تموز الماضي، إن «ارتفاع أسعار المشتقات النفطية  (بقرار حكومي حزيران الماضي) سيكون له تأثير سلبي على إنتاج الأدوية في البلاد، كأية مادة سيرتفع سعرها مع ارتفاع المازوت والفيول»، وبعد هذا التصريح انقطعت الأدوية من الأسواق، حتى لحظة إعداد هذه المادة.

بخاخات الربو ترتفع «بصمت»

الجدل الذي يدور بين شركات الأدوية ووزارة الصحة، والذي يدوم لأشهر من الأخذ والرد، يكون ضحيته ملايين المواطنين المتضررين من انقطاع أصناف الأدوية الهامة، حيث قال الصيدلي (و. س) لـ «قاسيون»: إن «معامل الأدوية بقيت تضغط على وزارة الصحة في بخاخات الربو التي فقدت من السوق نهائياً، والتي كان سعرها قبل الانقطاع حوالي 345 ل.س، حتى تم رفع سعرها رسمياً وبصمت تام إلى 1110 ليرات سورية».

وتابع: «قطعت المعامل إنتاج بخاخات الربو واحتكرت المستودعات ما لديها حوالي 4 أشهر، رغم أنها دواء إسعفاي وأساسي لمرضى الربو، وبعد رفع سعرها، بدأت المستودعات بالاتصال بنا، وتطلب منا أن نأخذ الكميات التي نريد، بعدما كنا نترجاهم لأخذ بضعة عبوات».

عادت بخاخات الربو إلى الصدليات، لكن المرضى بقوا متضررين نتيجة السعر المرتفع، «وهذا ما سيحدث بالتأكيد بعد انقطاع الأدوية الحالي» كما قال صيدلي آخر يدعى «م.ح»، مضيفاً: «سربت أوراق تحمل تعاميماً لمعامل الأدوية من وزارة الصحة تحمل تاريخ 16/11/2016، وتشير إلى رفع أسعار أصناف عدة من الأدوية بناءً على محضر اجتماع للجنة تسعير الأدوية المحلية في 7/11/2016».

لا يوجد معمل أدوية خاسر!

وأردف: «أغلب الأدوية التي تم رفع سعرها بموجب الأوراق المسربة هي: الأدوية المفقودة، وبالتأكيد ستتوفر في الأسواق بعد تعميم السعر الجديد رسمياً، لكن في حال رضيت المعامل بهذه النسب».

يعتقد هذا الصيدلي أن معامل الأدوية لن تعجبها أسعار بعض الأصناف بموجب التسريبات، وهذا ما قد يدفعها لطرح أصناف معينة وتقنين إنتاج أصناف أخرى، «فهم تجار في النهاية، وسيقومون بطرح الأدوية المجدية اقتصادياً بالنسبة إليهم وبكميات كبيرة ، بينما سيتم تقنين طرح باقي الأصناف التي لم يعجبهم سعرها الجديد» حسب قوله.

«لا يوجد معمل خاسر، جميعها رابحة، فهم قادرون على تحقيق الأرباح من أصناف رخيصة ورائجة، وأعتقد أنه من 15 إلى 20% فقط من الأصناف المنتجة في المعامل لا تحقق الربح المرجو منها، بينما النسبة الأكبر هي للأصناف الرابحة، ويمكن للمعامل معادلة ربحها بهذه الطريقة، فلم نسمع حتى اليوم عن معمل توقف عن العمل نتيجة خسارته، أو شركة أدوية أعلنت إفلاسها، وكل الإغلاقات كانت لمعامل في مناطق ساخنة، وعادت وافتتحت لها منشآت بمناطق آمنة» على حد تعبير الصيدلي.

تكاليف مرتفعة ووزارة غائبة!

ورغم استقرار سعر الصرف منذ فترة، إلا أن الشركات ما زالت تتخذ حجة «ارتفاع تكاليف المواد الأولية مقابل سعر المبيع» ذريعة لتخفيض إنتاج بعض الأصناف، أو توقيف خط إنتاجها نهائياً، وهذه «المعضلة» لم تنجح وزارة الصحة حتى اليوم في حلها، وهنا طرح الصيدلي حلاً: «بأن تقوم وزارة الصحة ببساطة بشراء هذه  المواد الأولية الهامة من المستوردين، وتخزينها في مستودعات لها لتراقب الكميات المستوردة والمنتجة والأسعار التي استوردت، بها ومقارنتها بالأسعار الرائجة، وبالتالي منع احتكار المعامل لها، وجعلها حجة دائمة لقطع أصناف مهمة من السوق».

وأيضاً «يمكن لوزارة الصحة الإشراف على تصنيع هذه الأدوية وأن تفرض رقابة على الكميات المنتجة كي لا يتم احتكارها من قبل المستودعات لاحقاً، ويتم استخدامها كورقة ضغط على الحكومة بين الحين والآخر»، ذلك بحسب الصيدلي.

معامل في الداخل تعمل للخارج؟

في المقابل، هناك معامل أحجمت عن تقديم منتجاتها للسوق المحلي بنسبة كبيرة، مثل: شركة «المتوسط»، كما أكد مصدر نقابي لـ «قاسيون»، مؤكداً أن هذه الشركات حجتها هي: أن أدويتها حاصلة على امتياز أوروبي، والشروط المفروضة عليها لإنتاج الأدوية بموجب هذا الامتياز، يتطلب تكاليف باهظة، وبالتالي، حصلت على موافقة وزارة الصحة بتصدير جزء من منتجاتها.

وتابع: «70% من منتجات هذه المعامل تصدر إلى مصر والسودان وغيرها من الدول العربية، والـ 30% المتبقية تقدم للسوق بكميات قليلة جداً، ويتم تحميلها للصيادلة بنظام السلل الدوائية (أي أن شراء هذا النوع من الدواء مشروط بشراء مجموعة أدوية غالباً ما تكون غير مطلوبة)».

للصيادلة دور أيضاً..

ليست المعامل والمستودعات والحكومة فقط مسؤولين عن انقطاع الأدوية من السوق، رغم الحاجة الماسة إليها وحساسية القضية من الناحية الإنسانية، حيث أن بعض الصيادلة ساهموا أيضاً بعملية الاحتكار، ففي كل صيدلية رأسمال معين من العبوات، وكلما تم تأخير بيعها حتى تصدر التسعيرة الجديدة المنتظرة بحسب التسريبات، سيزيد رأس مال وأرباح صاحب الصيدلية، وهذا ما أكده «م.ح» بقوله: إن «بعض الزملاء اتفقوا على الامتناع عن البيع أو إغلاق الصيدليات ريثما يتم إصدار التسعيرة الجديدة رسمياً».

قطاع عام ضعيف!

بظل ضعف قطاع الإنتاج الدوائي العام، وسيبقى المواطن أسير عدم توفر الأدوية، أو التحكم بسعرها ارتفاعاً في استغلال مباشر للحاجة الماسة للدواء، من قبل المعامل الخاصة، أو من قبل المستوردين والمهربين، على الرغم من الكثير من الكلام عن دعم القطاع الصحي العام، بما في ذلك القطاع الدوائي على المستوى الإنتاجي، ولكن أياً من ذلك لم يلمسه المواطن على المستوى العملي.

 

قطاع الإنتاج الدوائي بحاجة للدعم أيضاً..

الخشية الحقيقية والمشروعة هي: أن يتم تحرير هذا القطاع بشكل نهائي، تحت الضغط المستمر من قبل المعامل والمستوردين، على مستوى المدخلات والمخرجات والأسعار، بذريعة الضرورة والحاجة، بدلاً من أن تقوم الحكومة بدورها على مستوى دعم قطاعها العام الإنتاجي، كما ودعم ومراقبة القطاع الخاص أيضاً، كون الصناعة الدوائية السورية، وبغض النظر عن كل ما سبق، أثبتت أنها من الصناعات المنافسة، محلياً وإقليمياً ودولياً، وهي كما غيرها من الصناعات المحلية بحاجة للدعم على مستوى مستلزمات العملية الانتاجية، اعتباراً من المواد الأولية وسبل تأمينها وتخفيض تكاليفها مع بقية التكاليف الأخرى وخاصة: الطاقة (كهرباء ومازوت)، وليس انتهاءً بعملية التسعير المنضبط، حسب التكاليف وهوامش الربح المعتمدة.