«الحريقة» بورصة دمشق  القديمة: حيث لكل سمكة من لحمنا نصيب... أبنية خارج النسيج المعماري

 في دمشق عند حافة المدينة القديمة، وبمحاذاة أسواقها التاريخية المسقوفة (الحميدية، البزورية، سوق النسوان، سوق الحرير) وغيرها من الاسواق، يقبع سوق الحريقة. يظهر بأبنيته الصفراء والبيضاء، الخارجة بشكل بارز للعين عن النسيج المعماري لدمشق القديمة وأبنيتها الأكثر عتمة، يخرج بأبنيتة التي تنتمي إلى طرز معمارية أكثر حداثة  تعود إلى خمسينات وستينات القرن الماضي، أبنية ولدت  بعد قصف مدافع الانتداب الفرنسي لمكامن الثورة السورية في أربعينات القرن الماضي، والحرائق التي نتجت عقب ذلك القصف، ومنها جاء الاسم: «الحريقة».

ليس سوق الحريقة سوقاً عادياً، كما أنه في نفس الوقت ليس بورصة بالشكل المتعارف عليه، حيث يمكن أن تكبر الصورة قليلاً في الأذهان متجهة إلى وول ستريت بأبنيتها العملاقة اللماعة.. الألبسة الموحدة.. وربطات العنق.. الأرقام ومضاربي البورصة.. الصراخ.. حطام بشري أقرب إلى الآلات الحاسبة،  كل ذلك ليس موجوداً في سوق الحريقة تماماً إلاّ أن الأمر المشترك هو الأساطير المالية التي تدور هناك، رجال في الخفاء تدور حولهم الكثير من الأسئلة وإشارات استفهام وحكايا غريبة.

الحريقة تلك المنطقة التجارية التي عاشت فصاماً في الشخصية خلال مرحلة الطروحات التقدمية أو الاشتراكية في سورية،حيث تحكمت الدولة في جل النشاط الاقتصادي: الصناعات الكبرى والمصارف والتأمين حيث استطاعت أن تقيم علاقة مع البرجوازية الصاعدة في ذلك الوقت متخلية عن جزء من أخلاقياتها وأعرافها وتقاليدها محاولة لأن تتكيف مع المرحلة، استطاعت بعد التغييرات من أن تقيم صلحاً مع الذات من نوع خاص مع ما يمكن أن نطلق عليه بدايات انفتاح اقتصادي سوري في منتصف الثمانينات، لتظهر مع بداية التسعينات مجموعة من القوانين التي سمحت لها بحرية أكبر في الحركة. الآن وبعد التغيرات الاقتصادية والسياسية في المنطقة أضحى سوق الحريقة مركزاً هاماً يعول عليه البعض، حتى أن اسم واحد من كبار التجار فيه طرح على أنه ربما  سيكون من المرشحين لنيل منصب رئيس الوزارة السورية القادمة، قبل ان يعلن عن تشكيل الوزارة الجديدة بأشهر،  وهو د.محمد راتب الشلاح. وبالرغم من أن د.الشلاح  نفى هذا الخبر لاحقاً،وتم نفي الخبر تماماً في مرحلة لاحقة، إلاّ أن تداول الخبر بحد ذاته يعطي دلالات كبيرة. ويبقى السؤال مفتوحاً: هل ستلعب هذه المنطقة دوراً واضحاً، أم أن دورها سيستمر كما كان عليه الحال تحت غطاء المسكوت عنه خلال العقود الثلاثة المنصرمة؟. 

 تشكلت الحريقة وتزايدت أهميتها كمنطقة تجارية، خلال مراحل متتالية، ولعب كل من موقع هذا السوق في قلب المدينة والكم الكبير من التجار والصناعيين الذين اختاروه ليكون مسرحاً لأعمالهم دوراً كبيراً في زيادة فعاليته، كما كان لقانون (الأجار) السوري دور كبير في ارتفاع أسعار هذه المحال أو ما يسمى في سورية (الفروغ) وهو أن يتنازل مستأجر لآخر عن العقار بموافقة المالك الأصلي، مقابل مبلغ معين من المال، وعادة ما يكون هذا المبلغ أكبر بكثير من السعر الحقيقي للعقار ذاته. ومع مرور الزمن تعاظم دور هذه المنطقة، بالرغم من انتقال الكثير من الورشات والمصانع إلى مناطق خارج دمشق، أكثر رحابة وسعة، إلاّ أن دور هذه  المنطقة كمركز تجاري هام لم ينقص بل ازداد فحافظ معظم التجار على مكاتب رئيسية لهم فيها، تدار من خلالها أعمالهم، وتكون مركزاً تسويقياً، وتضفي أبنية غرفتي التجارة والصناعة التي شيدت خلال فترة لاحقة في قلب سوق الحريقة وفي مكان بارز  فيها، سطوة على المكان وتفتح على الكثير من الأسئلة.

محال لا تفصح عما في دواخلها

 في الشارع الرئيسي ترجلتُ من السيارة قبل الوصول إلى السوق حيث تمنع السيارات من الدخول بحاجز من الأعمدة. الكثير من العيون الفضولية راحت تراقب وأنا أصور بعض الأبنية والمحال، فالمكان الذي لم يحتفظ إلاّ بالقليل من الآثار القديمة لا يستقطب الكثير من الكاميرات، التي تبتعد عنه لتغوص أكثر في الأسواق التاريخية المجاورة.

على جانبي الطريق بعض الأبنية العربية بخصها المتشابك وأبوابها المميزة طلي بعضها من جديد والبعض الآخر يميل إلى رمادي مغبر، وأبنية أخرى  فرنسية بشرفاتها الصغيرة النافرة من البناء وشبابيكها العارية، وأخرى تمزج بين طابع البيت العربي والعمارة الغربية الأكثر حداثة، وصولاً إلى الأبنية الاسمنتية الحديثة دون هوية واضحة والتي تنتمي إلى العقود الثلاثة الأخيرة من تاريخ الشام.

     في تلك الأبنية تمتزج البضائع في مكاتب وورش أقمشة وخيوط، مصانع  ومحال عرض للثياب الجاهزة، مكاتب استيراد وتصدير، سوق للذهب، وصولاً إلى كل أنواع التعاملات المالية، وأهمها الورقة الخضراء، الدولار.

     لا تفصح واجهات المحال والمكاتب التجارية أو شكل الديكور عما في داخلها، لكنها حتماً توحي بالكثير عن طبائع ملاكها، (التاجر الشامي)، فليس في الشكل الخارجي لهذه المحال الكثير من التزيينات أو التصماميم المبهرة بل العكس فالكثير منها صغيرة والبضائع توضع فوق بعضها البعض، وبالكاد يوجد متسع للحركة، لكن هناك وفي إحدى زوايا هذه المحال ستجد رجالاً عاديين لا يشبهون في شيء من حيث الشكل غوردون غيكو في وول ستريت أو جون ميلتون في محامي الشيطان، اشخاص عاديون، لكنهم أشخاص خبروا التجارة والاسواق ويتعاملون مع التجارة كعالم افتراضي يعرفون كل  شروط اللعبة فيه، ومن داخل هذا المكان يتحكمون بالكثير خارجه، يعرفون ما يجري في أبعد نقطة في السوق في مكانهم، ليست الواجهات البلورية الضيقة بكل بضائعها، أو هذا الشيخ وحفيده اللذان يجلسان أمام باب المحل الصورة الحقيقية لهذا الفضاء، بل هناك الكثير مما يختبئ وراء كل ذلك. الكثير من الشخوص الذين قابلتهم وتحدثت معهم تبين لاحقاً أنهم من الشخصيات الفاعلة في السوق والهامة والتي تستطيع أن تقلب السوق في مجالات معينة بغمضة عين. وبعيداً عن العيون هناك الشبابيك العالية والأبواب الخلفية التي تجري من ورائها الكثير من الأمور. 

     فمن هنا كما قال الكثير من التجار الذين التقيت بهم: تمر كل العقود والمعاملات التجارية، أضاف أحد التجار جملة (بمعرفة الدولة طبعأً) ففي الحريقة توجد غرفتا التجارة والصناعة، عرض وطلب خلف هذه الجدران، لكن السيطرة تقع في هذا المكان والسوق يستقبل الكثير من الأشياء التي لا تتوقف عند السلع المعروفة.. 

حكايا:

كما في أي مكان أسماك صغيرة .. وأخرى كبيرة .. وأكبر وهكذا... دواليك..  تجار صغار وآخرون كبار، احتكار لبضائع وألعاب تجارية على مستوى كبير، شيوخ كار، لا تراهم لكنك تعرف أنهم موجودون... تجار يستطيعون أن يقلبوا السوق في دقائق... تجار يفلسون بين ليلة وضحاها، أسواق، سندات، أرقام فلكية، وحكايا سحرية عن أشخاص بنوا مجدهم بكد، وذهب حلمهم بين ليلة وضحاها، عن ملوك، يأمرون بالقضاء على الأسماك الصغيرة، وأخرى ترعى تحت أنظارهم، حكايا عن زيارات سرية لوزراء ومسؤولين وتجار كبار من داخل المدينة وخارجها، عن أساطير تحاك وراء الأبواب المغلقة، حكايا عن مؤسسات بنيت داخل هذا السوق، في ظل المسكوت عنه اقتصادياً خلال سنوات.

في ذلك المكان يترجل أحد كبار التجار من سيارته، ويتوجه إلى أحد معاونيه وبصوت منخفض لكنه كاف لأن يسمعه بعض من حوله يقول: اليوم أريد أن أشتري الدولار، الخبر كان كافياً لأن يعم السوق الخبر أن هذا التاجر الكبير.. سوف يشتري الدولار .. دقائق معدودة ويتحول الفضاء المحيط إلى شبكة كبيرة، بحركة دؤوبة، ولا أحد يعرف ما الذي يجري... معك دولارخبئه .. معك دولار بع .. نزل اليورو .. سمعت النشرة للتو طلع الدولار .. ماذا تريد بالنشرة فلان قال اشتري دولار .. وهكذا دواليك.. سندات.. أسهم.. متعاملون.. وأشخاص من وراء مكاتبهم في عالمهم الافتراضي يديرون الفضاء المحيط بهم.

وقصص كثيرة لا يمكن للمرء أن يراها إلاّ في الأفلام، فبجرد أن أجد شاباً جديداً من التجار عاد من الخارج وحاول أن ينافس تاجراً كبيراً في بعض السلع الجديدة، لم يكلف الأمر التاجر الكبير الكثير من المشقة فببضعة هواتف أجراها أخرج التاجر الجديد من السوق خلال دقائق فقط، انتهى الشاب العائد من الخارج وطموحاته كلها.

هنا حيث تغزل أساطير الدولار

قبل صدور القوانين الجديدة المتعلقة بالدولار، كان التعامل بالدولار يعتبر جريمة بحق الاقتصاد الوطني، إلاّ أن بورصة دمشق القديمة، استطاعت أن تجد لنفسها الكثير من المخارج.. فكانت عملية تصريف أي ورقة نقدية أجنبية تتم بسرية مبالغ فيها، وخلف دهاليز وأروقة، إلاّ أن هذه الدهاليز والأروقة تحولت مع مرور الوقت إلى مصارف صغيرة، وشركات تحويل أموال، واكتسبت قوة كبيرة، وبقيت تعمل لفترة طويلة في إطار المسكوت عنه، وكبرت بعض هذه المحال، وتحولت إلى مؤسسات مالية، لها صراعاتها وأقطابها، يحكى عن أسماء أصحابها بخوف، وبعض هذه المكاتب حدد طويلاً سعر صرف الدولار في السوق السوداء، ليس اعتماداً على أسواق الدولار المجاورة بل حتى أن الكثير منها راح يؤثر وبشكل كبير على أسعار الصرف والأسواق المجاورة وبالأخص كل من بيروت وعمان، التي ترتبط بها، فالطلب المتزايد على الدولار يزيد الطلب في الأسواق المجاورة، أو عكس ذلك، كل ذلك أثر وبشكل متواتر ولعبت دوراً كبيراً في هذا المجال. كما انتشر في السر الكثير من الصرافين الصغار في المدينة، قبلاً، لم يتغير الأمر، مازال كثير منهم متواجدين وإن صرحوا عن أنفسهم أكثر، إلاّ أن كل هذه الحركة تصب في النهاية، عبر دورة متكاملة في الحريقة ولا يعرف احد من الذين قابلتهم  يعرف إلام تنتهي؟؟. 

يقول بعض التجار إن أهمية الحريقة الأساسية تكمن في أنها الممثل الحقيقي والوحيد للبرجوازية الدمشقية الكلاسيكية، والتي تقيم علاقات قديمة جداً مع حركة الرساميل في المنطقة محلياً وخارجياً، وهي طرف له قوته وفاعليته التي حافظت على مكانتها خلال فترة طويلة في سورية، واستطاعت أن تحافظ على جزء من أعرافها وتقاليدها خلال كل هذه السنين. وبالرغم من صعود البرجوازية الطفيلية والبرجوازية البيرقراطية إلى السطح في الحركة الاقتصادية والسياسية السورية، والتي تحالفت معها ولفترة طويلة، إلاّ أن للبرجوازية الكلاسيكية موقعاً خاصاً.

 الآن ومع الانفتاح الاقتصادي هل ستبقى هذه القوة التقليدية الكلاسيكية هي المرشح الأكبر والأقوى لكي تحل محل القوى البرجوازية البيرقراطية التي نشأت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، والتي تعاني من خطأ جيني في ولادتها، أم أن هناك صراعاً سينشأ بين هاتين القوتين الحليفتين السابقتين.. مع التطورات المقبلة، من سيصمد ؟ 

هذاهو سوق الحريقة الممثل الافتراضي لقوى السوق الكلاسيكية والذي استطاع أن يتابع ابحاره خلال السنوات الماضية. أين سيقف الآن من التغيرات القادمة إلى سورية.. وكيف؟

■ عمرو سواح

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.