الناس يتخوفون من شتاء مظلم وقارس أزمة المازوت بين تردّد الحكومة وضغط الفاسدين...

دخلت أزمة المازوت في سورية أسبوعها الرابع ولا تزال الجهات الحكومية عاجزة عن إيجاد الحلول المناسبة لإنهائها على الرغم من سلسلة الإجراءات التي اتخذتها خلال الأسابيع الماضية بهذا الشأن نظراً لعدم ملاحقتها جوهر المشكلة واقتصارها على إجراءات جزئية لم تزد المشكلة إلا تعقيداً.

الأزمة التي قالت عنها الحكومة أنها مفتعلة، مرشحة لأن تؤدي إلى أزمات أخرى مع ازدياد حالات إطلاق النار والضرب بالسكاكين قرب محطات الوقود، حيث أفاد شهود عيان في حي دمر غربي دمشق أن أحد عمال المحطة تعرض للضرب الشديد من قبل أحد السائقين الذي نفذ صبره وهو ينتظر لأخذ حاجته من المازوت، وهو أمر أصبح يهدد السائقين بالخسارة نتيجة التوقف ساعات طويلة أمام محطات القطاع العام التي اشتد الاختناق والازدحام فيها بعد انقطاع المازوت عن محطات القطاع الخاص بسبب نزوعه إلى بيع مخصصاته خارج القطر أو في السوق السوداء حيث وصل سعر الليتر الواحد من المازوت في بعض الضواحي إلى ثلاثة أضعاف سعره الحقيقي.

ومن المرجح أن تستمر الأزمة في التصاعد مع اقتراب قدوم فصل الشتاء وخوف المواطنين من زيادة مرتقبة في أسعار المازوت التي بدأت علاماتها تظهر مع المذكرة التي رفعتها وزارة النفط إلى الحكومة لناحية رفع أسعار المازوت بنسبة 50% بحجة مكافحة التهريب إلى السوق الخارجية المجاورة لارتفاع الأسعار فيها على غرار ما فعلته الحكومة سابقاً عندما رفعت أسعار الكاز بعد أن فشلت في مكافحة خلط البنزين مع الكاز للاستفادة من فروقات الأسعار، وذلك في محاولة أخرى لرفع الدعم عن المازوت والقضاء على آخر مخلفات الحقبة السابقة بعد أن تم التغيير في أدوار الفاعلين الأساسيين في الاقتصاد السوري الذي أصبح أبرز سمة من سماته، أنه أصبح اقتصاد الأزمة نتيجة الأزمات الدورية التي تعصف به، من أزمة النمو، إلى أزمة النقد، إلى التشغيل، إلى أزمة الإسمنت، الشلول، إلى أزمة المازوت آخراً وليس أخيراً.

غض النظر

ورغم أن القيادة السياسية قد أرجئت موضوع زيادة الأسعار في المازوت إلى إشعار آخر، تفادياً لهزات اجتماعية قد تحدث، إلا أن الآثار الاقتصادية الناجمة عن ازدياد الكميات المهربة لا تقل خطورة، وربما تؤدي إلى نفس النتيجة،خاصة مع استحقاقات الحصار السياسي التي بدأت الولايات المتحدة تفرضها على سورية منذ مقتل الحريري وحتى اليوم. حيث سيزيد استمرار التهريب من نزيف الاقتصاد الوطني لأن الحكومة تقوم بدعم المازوت بملايين الدولارات وهو أمر قابل للارتفاع بسبب ارتفاع أسعار النفط عالمياً حيث تشكل إعانات المحروقات من موازنة عام 2004 نسبة 16.6% مما يضع الحكومة ـ الإصلاحية ـ أمام استحقاقاتها في قمع هذه الأزمة خلال مدة زمنية محددة ومعلنة، لا الاقتصار على إجراءات جزئية أو القول بأنها أزمة مفتعلة في سياق الهروب من المسؤولية وتصوير المهربين وكأنهم أقوى من الدولة، الأمر الذي يخلق عند المواطن انطباعاً بأن الحكومة لها دور في هذه الأزمة المفتعلة، كي تصبح مسألة الزيادة في الأسعار أمراً واقعاً على غرار ما حدث في باقي شركات القطاع العام حيث تم غض الأنظار عن الفساد المستشري فيها وحجب الفوائض عنها إلى أن وصلت إلى الحالة التي هي فيها الآن.

أسباب أزمة المازوت

تشير الوقائع الميدانية الى وجود تقنين أو نقص في العرض من مادة المازوت في السوق المحلية أمام زيادة الطلب المحلي بفعل الزيادة السكانية ودخول آليات بشكل كبير إلى القطر خلال عام 2005، إضافة إلى ازدياد عدد المعامل التي تعتمد على مادة المازوت في تدوير آلاتها، ولكن الحكومة في المقابل، لم ترفع من مخصصات عام 2005 بالمقارنة مع هذه الاحتياجات، مما أدى إلى وجود نقص في عرض هذه المادة في المحطات الخاصة، حيث أكد لنا عدد كبير من العاملين في هذه المحطات بأن نسبة مخصصاتها لهذا العام مقارنة بعام 2004 لم ترتفع أبداً مما أدى إلى هذه الأزمة في المازوت.

التهريب والسوق السوداء

أما الوجه الآخر لنقص العرض والذي ساهم أيضاً في الأزمة، فهو التهريب وفق معادلة «كلما قل العرض، زاد التهريب وانتعشت السوق السوداء»، على غرار أزمة الدولار ـ ويساعد على التهريب ارتفاع أسعار المازوت عالمياً بسبب ارتفاع أسعار النفط حتى وصل سعر البرميل إلى أكثر من70 دولار، وبحسب بعض المصادر فإن التهريب يتم بالدرجة الأولى إلى تركيا عن طريق قرية (بانتو) الحدودية حيث يبلغ سعر الليتر الواحد من المازوت في تركيا سبعة أضعاف سعره في سورية، لارتباط سوقها بالأسواق العالمية، وارتفاع الضرائب على المشتقات النفطية فيها من أجل تطبيق قوانين بيئية صارمة تسهل عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، حيث أفادت إدارة حماية المستهلك في حلب عن أن الإدارة قامت بضبط كميات مهربة من مادة المازوت ضمن خزانات سورية مطمورة تحت الأرض في قرية بانتو التابعة لمحافظة حلب والواقعة في المنطقة الحدودية بين سورية وتركيا، حيث قدرت الكميات المضبوطة بآلاف الليترات بالإضافة إلى ضبط حافلتي بولمان سوريتين تعملان على خط تركيا وهما يتزودان من الخزانات السرية وسيارة (بيك آب) محملة بخزان في داخلها.

أما الجهة الثانية التي يتم التهريب إليها فهي لبنان حيث يبلغ سعر ليتر المازوت فيها أربعة أضعاف سعرها في سورية، وغالباً ما يتم التهريب عن طريق مدينة (قارة) التي تقع بين مدينة حمص والنبك، حيث تمكنت ضابطة جمارك المكافحة خلال الأسبوع الماضي من حجز ومصادرة ثلاثة صهاريج تبلغ حمولة كل واحدة منها (230) ألف ليتر مازوت يتم تعبئتها من مستودعات شركة سادكوب في عدرا بغية نقلها إلى محطات محددة بمهماتها، إلا أنها غيرت طريقها باتجاه منطقة (قارة) بهدف نقلها إلى لبنان، وأفاد شهود عيان من المنطقة «أن معظم أهالي منطقة قارة أصبحوا مشتغلين بالتهريب سواء بشكل مباشر أو من خلال تأمين الحماية لشبكات التهريب في المنطقة» مشيرين إلى وجود خزانات كبيرة في المنطقة يقوم أصحابها بتعبئتها كلما فرغت بغرض تهريبها إلى لبنان عبر صهاريج كبيرة.

ويزداد الموقف إحراجاً مع تحول المهربين باتجاه الأردن أيضاً بعد أن رفعت الحكومة الأردنية أسعار المحروقات، مما سيزيد من كميات المازوت المخرجة خارج الحدود وصعوبة ضبط الحدود باتجاهاتها الأربعة في حال استمرار الوضع على ما هو عليه وعجز الحكومة عن إيجاد حل جذري مما يسبب في خسائر إضافية لجهة العجز في الموازنة السنوية نظراً لدعم الدولة لمادة المازوت حيث تصل تكلفة الليتر الواحد إلى 35 ل.س في حين يتم بيعها بـ 7 ليرات فقط، حيث تغطي الحكومة جزءاً من هذا الدعم من خلال البنزين والكروسين التي تباع بأسعار مرتفعة ورابحة.

وتشير التقديرات إلى أن سورية تستورد من مادة المازوت ما يقارب قيمته من 65 مليار ليرة سورية وهو أمر قابل للازدياد مع استمرار ارتفاع الأسعار عالمياً وعدم قدرة المصافي السورية على رفع طاقتها الإنتاجية مع تأخر الحكومة في بناء مصفاة جديدة.

من أين يبدأ التهريب

تشير الاستقصاءات الميدانية أن التهريب يجري ويتم أثناء مرور مادة المازوت بحلقة التوزيع حيث يصعب التهريب من خلال حلقات الإنتاج أو الاستيراد نظراً لوقوعها مباشرة تحت إشراف وسيطرة الدولة وذلك وفق السيناريو التالي:

أولاً: يتم توزيع المازوت في سورية عن طريق شركة المحروقات وفروعها في المحافظات على جميع محطات القطاع العام والخاص، حيث يتم تزويد المحطات العامة بالكمية التي تريدها عن طريق مندوب دائم للمحطة موجود لدى الإدارة، أما بالنسبة للقطاع الخاص فله مخصصات محددة شهرية تؤخذ عن طريق قطع فواتير لدى فرع الإدارة.

ثانياً: بالنسبة للمحطات العامة، يتم تزويدها بواسطة صهاريج خاصة تغلف فتحاتها بالرصاص بعد خروجها من فرع الشركة منعاً للتزوير أو التلاعب، وهذه الصهاريج مرفقة بإرسالية يكتب عليها اسم المادة والجهة المرسلة إليها وساعة الانطلاق وساعة الوصول ومهلة الطريق حيث تعطى مهلة طريق ساعة واحدة فقط للصهريج المحمل من سادكوب بعدرا إلى محطة دمر على سبيل المثال مما يجعل عملية التهريب والتزوير والتلاعب بالمادة مستحيلة. أما فيما يخص القطاع الخاص فهذه السلسلة كلها مفقودة وغالباً ما يكون صاحب المحطة هو صاحب الصهريج أو على اتفاق معه، وهو ما يشير إلى أن التهريب إذا حصل فإنه يحصل من هنا نظراً لعدم وجود ضمانات بأن الآلية ستتوجه إلى محطة الوقود أو إلى خارج الحدود أو إلى السوق السوداء.

ثالثاً: المحطات العامة مجبرة على فتح سجلات يتم فيها تدوين الاستلام والتسليم وكميات الصادر والوارد مما يسهل عملية الرقابة والتفتيش وحصر المسؤولية، أما المحطات الخاصة فهي غير ملزمة بهذا السجل وبالتالي لا يستطيع أحد أن يضمن أن الكميات المخصصة من فرع الشركة لهذه المحطة هي نفسها الكمية التي وصلت أو تم بيعها من خلال المحطة.

رابعاً: لا يسمح للمحطات العامة بإمداد الصهاريج أياً يكن نوعها، بل هي مخصصة لإمداد الآليات واحتياجات المواطنين حتى سعة برميل واحد، في حين يسمح لمحطات القطاع الخاص بإمداد هذه الصهاريج التي تعتبر وسيلة للتهريب أو وسيلة الإمداد في السوق السوداء.

يتضح من هذا السيناريو أن إمكانية التهريب من خلال حلقات الإنتاج والاستيراد هي عملية مستحيلة نظراً لتحكم الدولة المباشر بهذه الحلقات، فليس من المعقول أن تقوم الحكومة بتهريب المازوت وإنما يتم التهريب أثناء المرور بحلقة التوزيع وحصراً للقطاع الخاص نظراً لصعوبة ذلك في القطاع الحكومي، وطالما تكمن المشكلة هنا فإن حلها لا يحتاج إلى كل هذا الضجيج إلا إذا كان الهدف من هذه الإثارة هي النوايا المبيتة لزيادة الأسعار حيث بإمكان الحكومة معالجة هذا الموضوع من خلال زيادة الرقابة على محطات القطاع الخاص طالما الهدف هو القضاء على التهريب وهو أمر أقل كلفة من عمليات ضبط الحدود في اتجاهاتها الأربعة.

رقابة ولكن..

يقول مدير إحدى المحطات: «إن إحكام الرقابة على عملية الإمداد لمحطات القطاع الخاص كفيلة بمنع التهريب وذلك من خلال إرفاق الصهريج المحمل بالمازوت من سادكوب بعنصر أمني يضمن وصول الآلية إلى الجهة المرسلة (أي المحطة) مع وجود عنصر آخر يكون في المحطة بحيث يضمن هو عملية الاستلام والبيع والمراقبة إضافة إلى تشديد الرقابة على الإرساليات وفتح سجل في كل محطة يتضمن التسليم والاستلام والصادر والوارد» مستغرباً في الوقت ذاته من عدم إمكانية الجمارك بسياراتها الحديثة على ملاحقة الصهاريج التي تقوم بعملية التهريب والتي لا تتعدى سرعته 30 كم/سا.

فيما يعزو مدير محطة آخر أزمة المازوت إلى «تقنين الدولة للمادة على محطات القطاع الخاص وإلى ضعف الرقابة الحكومية على هذه المحطات حيث تقوم تلك الجهات بالتفتيش على محطات القطاع العام، وأحياناً بطريقة تتم عن جهل كأن يسألوا عن الكميات المخصصة للمحطة دون معرفة أن المحطات العامة لديها استجرار دائم ومفتوح وتعمل مدة 24 ساعة، فيما ينعدم التفتيش على محطات القطاع الخاص رغم أنها ومنذ شهر لم تبع نقطة مازوت» مضيفاً: «أن هذا الأمر تسبب في ازدحام واختناق كبيرين لدى المحطات العامة نظراً لأن مساحتها الإجمالية غير كافية لاستيعاب الطلب الزائد مما أدى إلى نقص في مبيعات البنزين بنسبة 25% لدى المحطات العامة بسبب هذا الازدحام وعجز سيارات البنزين من المرور إلى المحطة» مضيفاً: «أن بعض الإجراءات التي اتخذتها الحكومة زادت من الروتين في بعض المحطات العامة مثل تعليمات وزير النفط بفتح سجلات لتدوين رقم الآلية والخط الذي تعمل عليه الآلية والكمين، مما أدى إلى عرقلة عمل الموظفين، لأن العامل لا يستطيع أن يقوم بعملية البيع والمحاسبة والتسجيل دفعة واحدة» مؤكداً: «أن الإجراءات الأخرى لم تردع سوى صغار المهربين وزادت المشكلة بأن قللت العرض من المادة بسبب إغلاق المحطات وفرض الغرامات، فالحل هو زيادة العرض من قبل الدولة عن طريق البيع المباشر للمواطنين بواسطة الصهاريج مثلما تفعل كل دول العالم أثناء حصول اختناقات في الأسواق.

الحلول المقترحة

منذ بداية الأزمة وحتى الآن ازدادت الاجتهادات الرسمية والملحقة بها لجهة المعالجة، وذهب البعض في تفسير الأزمة على أنها نتاج تدخل الدولة في التسعير ودعم المازوت لأن ذلك يشجع على التهريب نتيجة ارتفاع الأسعار في السوق العالمية مطالبين برفع الدعم كعلاج مناسب للأزمة خاصة وأن سياسة الدعم لا تتناسب مع الانفتاح وقوانين السوق، ويبدو أن هناك جهات في الدولة تؤيد هذا الاتجاه حيث لم يعلن أحد من المسؤولين بشكل صريح عن نفي زيادة مرتقبةفي الأسعار، حيث من شأن هذا الإجراء في حال تطبيقه أن يزيد من حجم الفقراء نظراً للارتفاعات التي ستطال أسعار جميع المواد لدخول المازوت في صلب العملية الإنتاجية.

أما الإجراء الثاني الذي يذهب إليه البعض فهو رفع جزئي عن الدعم أي زيادة أسعار المازوت على أن يترافق ذلك مع زيادة الرواتب، وهذا الإجراء أيضاً له نفس الانعكاسات نظراً لأن ارتفاع أسعار المازوت سيرفع من الأسعار، وبالتالي ستنخفض قيمة الأجور بالإضافة إلى أن الموظفين لا يشكلون سوى 30% من حجم السكان وهناك 1.2 مليون عاطل عن العمل فهل ستفيدهم زيادة الرواتب بشيء؟

إن الإجراء المناسب لحل أزمة المازوت في ظل الظروف الإقليمية والدولية التي تمر بها سورية هو الإجراء الأقل كلفة على الصعيد الاجتماعي، وفي كل الأحوال فإن المسألة ليست معقدة كثيراً، حيث أنها لا تتطلب سوى زيادة العرض في السوق مع رقابة فعالة وهو أمر لا نعتقد بأن الحكومة غير قادرة عليه إلا إذا كان الهدف هو المزيد من تطبيق وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين.

■ كاسترو نسّي

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.