الجلاء...والوحدة الوطنية

قد لا تكون هناك مناسبة أفضل من ذكرى يوم الجلاء العظيم للتذكير بأهمية الوحدة الوطنية في سورية، هذه الوحدة التي يسعى اليوم، الكثيرون من أعداء الخارج وجسور عبورهم من قوى الفساد في الداخل، لضربها.. بغية تفتيت وتشتيت إرادة الشعب وسر قوته وعزيمته، ليصار إلى تمرير مخططات الفوضى والهيمنة الإمبريالية المعولمة الساعية لسحق الشعوب، والسيطرة على مقدراتها..

إذا عدنا قليلاً إلى الماضي غير البعيد، لوجدنا أنه مع اشتداد النزاع الإمبريالي- الإمبريالي على الخامات والأسواق في بداية القرن الماضي، القرن العشرين، وتحديداً على منطقتنا، حاولت القوى الاستعمارية فرز أبناء المنطقة على أسس دينية وإثنية لتسهيل السيطرة عليهم جميعاً، وعقدت الاتفاقيات السرية والعلنية (سايكس بيكو- سان ريمو) في هذا السبيل لتقسيم الشرق الأدنى إلى دويلات صغيرة. والحقيقة أن الدول الاستعمارية تمكنت من تحقيق قسط كبير من النجاح في هذا المسعى، وبالتالي استطاعت إنشاء عدد من الدويلات والإمارات والممالك، وضعت على رأسها زعماء من الإقطاعية الكلاسيكية الغارقة في الجهل، وانتدبت نفسها وصية عليها بحجة الأخذ بيدها نحو التحضر والمدنية.. لكن، ورغم هذا التقسيم والتفتيت الأولي، انفجرت الثورات العفوية الغاضبة في معظم البقاع المقسمة، ووجه الثائرون المحليون للمستعمرين ضربات قوية، وأنهكوا جيوشه، وكلفوه خسائر كبيرة في المال والرجال، الأمر الذي دفع المستعمرين للتخطيط لتقسيمات جديدة على أسس أضيق وأصغر، فقاموا بمحاولة إعادة تقسيم البلدان وفق اعتبارات طائفية ومذهبية وعشائرية متناهية في الصغر، وأيضاً وللأسف تمكنوا من تحقيق نجاحات كثيرة في هذا الإطار، ولكن حين فكروا بنقل هذه النجاحات إلى سورية، هبت الثورات الغاضبة، المنظمة، في وجه المخطط الجديد، وقد أدرك قادتها حجم المخاطر المنضوية تحت هذا التقسيم، وكانت الثورة السورية الكبرى التي رفعت شعار: «الدين لله والوطن للجميع» نقطة مضيئة ومفصلية للوقوف في وجه هذه السلسلة الكارثية المتحرجة، ليس على مستوى سورية وحسب، وإنما على مستوى المنطقة برمتها، فبعدها أخذت هذه المخططات بالتراجع وقد انتبه الناس إلى مراميها وغاياتها البعيدة والقريبة. ومنذ ذلك الوقت أصبحت الوحدة الوطنية في سورية مثالاً يحتذى في قوتها ورصانتها وتماسك عناصرها، وكان الجلاء في 17 نيسان 1946 من إحدى ثمراتها..

يقول الشاعر السوري المبدع «شفيق جبري» في داليته الشهيرة بمناسبة يوم الجلاء العظيم، مبرزاً اللحمة الوطنية الكبيرة بين أبناء الشعب السوري الواحد:

كأن كـلّ فؤاد فـي جـلائهم . . .

نشوان قد لعبت فيه العناقيدُ

على النواقيس أنغام مسبحةٌ

وفي المآذن تسـبيح وتحميدُ

اليوم، ونحن نعيش أخطر مخطط إمبريالي ضد بلادنا مع تجدد الدعوات الاستعمارية المأفونة للتقسيم والتفتيت، أحوج ما نكون لهذه الوحدة الوطنية، ولكن الحفاظ عليها ضرب من الخيال إذا لم يجر الالتفات للشعب بأطيافه كافة، لحقوقه المهدورة.. للقمته وكلمته وكرامته.. لمواطنيته وموجباتها.. لإنسانيته..

إن هذا الشعب المهمش والمحيّد هو سبيل النجاة، وهو سبيل التصدي للمخططات الجديدة الآثمة.. وبالتالي على من يضيق الخناق عليه أن يدرك أنه بهذا التضييق يخسر فرصة نجاة البلاد وسلامتها ووحدة أرضها وشعبها..

فليقلع محيدو الجماهير عن التعامل معهم بأسلوب: «فاقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي»، ولنبدأ جميعاً، حكومةً وقوى وأحزاباً، مرحلة جديدة من مراحل النضال ضد أعدائنا بوحدة وطنية راسخة، للمحافظة على الجلاء شكلاً ومضموناً، ولتحرير أرضنا المغتصبة من محتليها الطامعين بالمزيد..

...يحضر الجلاء فتحضر الذكريات الخالدة عن رجال بحجم أمنيات البلاد وعظمة تاريخها.. تحضر ميسلون والمزرعة والكفر والزور والشيخ بدر.. يتعملق سلطان الأطرش ويوسف العظمة وأحمد مريود وحسن الخراط وابراهيم هنانو ومحمد الأشمر وصالح العلي وأبطال آخرون نسيتهم كتب التاريخ الظالمة، في الأحاديث الملحمية الحميمة لأناس عاديين جداً وبسطاء جداً، لكنهم ما يزالون مؤمنين بأن لا عدو فوق الهزيمة والاندحار والخزي..

 ■ جهاد أسعد محمد

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الإثنين, 14 تشرين2/نوفمبر 2016 11:06