يوسف البني يوسف البني

تراجع كبير في الاهتمام بتطوير البنى التحتية أزمات ومشكلات بيئية واجتماعية وخدمية يدفع ضريبتها المواطن

عاماً بعد عام، تتراجع مؤشرات الخدمات العامة التي تقدمها الدولة للمواطن كحق شرعي مكتسب على مر العقود، لقاء التزام المواطنين بتسديد ما يترتب عليهم من ضرائب تتجدد وتزداد يوماً بعد يوم، وعلى الرغم من المبالغ الكبيرة (نسبياً) المخصصة للمشاريع الخدمية، إلا أن هذه المشاريع مازالت قاصرة عن مواكبة التطورات الحضارية والتزايد الطبيعي في عدد السكان والاحتياجات المتنوعة على مستوى البلاد، وخصوصاً في العاصمة ومحيطها، والمدن الكبرى، وفي المحافظات والمناطق البعيدة.
كل هذا التراجع الظاهر، يواكبه ادعاء دائم للحكومات المتتالية بتنفيذ مشاريع كان أغلبها وهمياً وعلى الورق فقط، ونلاحظ هنا أن الخدمات المقدَّمة إضافة إلى قلتها، فهي سيئة على كافة الأصعدة، وغالباً ما يعاني المواطنون الأكثر فقراً من الافتقار للخدمات الأساسية الضرورية.

السبب في هذا التردي يعود بالدرجة الأولى إلى الفساد الإداري، فهذا هو الركن الأساسي في نهج تراجع الدولة عن دورها الرعائي، وإحالة المشاريع الخدمية والتنموية إلى مقاولين أو شركات من القطاع الخاص، وانعدام الرقابة والمحاسبة من الهيئات التفتيشية، المشارِكة في الفساد في أغلب الأحيان. والحكومات المتتالية ساهمت في هذا التراجع تحت حجج ومبررات جاهزة وذرائع شتى، في حين تم تجاهل الفساد الإداري والإهمال والتلكؤ المستشري في معظم مفاصل المؤسسات التي تقدم الخدمات العامة للمواطنين، كون هذه المؤسسات غدت نهباً لكل المفسدين وضعاف النفوس الذين لا يهتمون لسلامة الوطن ومقدارته، بل يحكمهم الجشع والطمع والفساد والنية المبيتة لتخريب اقتصاد الوطن.
 
الصحة... هذا التاج المفقود

تراجعت حسب الإحصاءات العالمية مؤشرات الخدمات الصحية في سورية، وعلى أرض الواقع نشهد كل يوم تراجعاً ملحوظاً في هذا المجال، فمنذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي لم نسمع ببناء مشفى جديد رئيسي في أية محافظة من المحافظات السورية، وعلى الرغم من إقامة بعض المنشآت والمراكز الصحية التي تقدم خدماتها بشكل محدود للمواطنين، إلا أن الخدمات الصحية الأساسية مازالت منذ ذلك الوقت وقفاً على المدن الرئيسية الكبرى، وتوقفت عند ذلك الحد. بينما تم إفساح المجال لإنشاء الكثير من المشافي الخاصة، وإطلاق الحريات لها وحمايتها ودعمها بجملة من القوانين والسياسات التي تتبعها الحكومة الحالية، في خطوة واضحة وخطيرة لخصخصة القطاع الصحي، على حساب المكتسبات التي حققتها الجماهير على مدى عقود طويلة.
 
التعليم أيضاً.. خطوات إلى الوراء

كذلك تراجعت مؤشرات تطور التعليم في العقدين الأخيرين، فبعد أن كانت سورية تفاخر بين الكثير من دول العالم المتطورة بمجانية التعليم وإلزاميته، وتقديم الخدمات المدرسية الكثيرة، أخذت هذه الخدمات بالتراجع، مقصرةً عن مجاراة التطور الحضاري والتزايد السكاني بسبب قصور التخطيط وانعدام برامج التنمية المستدامة للقطاع التعليمي، وأصبح هناك أزمة استيعاب، ما أجبر وزارة التربية لاتِّباع نظام الدوامين في كثير من المدارس وفي جميع المحافظات، بسبب قلة المدارس المستحدثة وعدم تناسبها مع الزيادة السكانية. وعلى صعيد التعليم العالي، وبحجة قانون الاستيعاب يتم رفع معدلات القبول بشكل خيالي حتى يكاد الذين لا يحصلون على مجموع كامل يفقدون الأمل بالانتساب إلى الجامعات العامة، في حين يتم دعم الجامعات الخاصة والتعليم المفتوح بتخفيض معدلات القبول مقابل الرسوم المالية الكبيرة، ففي اجتماع بين وزير التعليم العالي ورؤساء الجامعات الخاصة، تمت الموافقة على قبول الطلاب الحاصلين على مجموع 170 علامة في كليات الطب في الجامعات الخاصة، بينما معدلات القبول في الجامعات العامة لا يقل عن المجموع الكامل سوى بعلامة أو اثنتين، وفي التعليم الموازي معدلات القبول أقل من معدل القبول العام بعلامة أو اثنتين أيضاً، علماً أن عائدات التعليم الموازي تدخل ضمن ميزانية وزارة التعليم العالي.
فلماذا لا تكون معدلات القبول في التعليم الموازي مساوية لمعدلات القبول في الجامعات الخاصة؟! أليس هذا تشجيعاً ودعماً للقطاع الخاص على حساب القطاع العام وخزينة الدولة؟! وعلى حساب المكتسبات الجماهيرية والحق الذي كفله الدستور؟!

الكهرباء... تخلف من نوع آخر

من المؤشرات الهامة والخطيرة على ضعف البنية التحتية والتخلف عن مواكبة التطور، وقصور الخطط التنموية التي لا تراعي الزيادة الطبيعية في عدد السكان، الأزمة الكبيرة في قطاع الكهرباء والطاقة، والانقطاعات المستمرة بسبب الأعطال الناتجة عن الحمولات الزائدة، أو برامج التقنين المترتبة على عدم كفاية الطاقة المولَّدة للاستعمالات اليومية العادية، وذلك بسبب توقف إنشاء محطات التوليد منذ أواسط الثمانينيات، بالرغم من إعلان الحكومة مرات عديدة عن اتخاذ قرارات لاستثمار مليارات الليرات السورية لتلبية احتياجاتها من الكهرباء حتى عام 2010 (إنتاجاً ونقلاً وتوزيعاً). وقدرت إحدى اللجان الوزارية حاجة سورية إلى نحو ملياري دولار تُستثمَر في هذا القطاع لغاية 2010 في توليد الطاقة، وإلى 3 مليارات في الفترة اللاحقة، من 2010 حتى 2020، وإلى مبالغ مماثلة لتأمين نقل وتوزيع الطاقة المنتَجة. إلا أن هذه الخطط تبقى حبراً على ورق ولمجرد الإعلام، بينما في الحقيقة فإن الحكومة تطرح سراً الاستثمار في قطاع الكهرباء والطاقة للقطاع الخاص، وهذه أيضاً خطوة خطيرة في دعم القطاع الخاص على حساب القطاع العام.
ومن جهة أخرى تقوم الحكومة والإدارات الفاسدة في وزارة الكهرباء بتغطية السرقات والنهب والنقص الكبير في ميزانية وزارة الكهرباء، بفرض رسوم وضرائب عالية في فواتير الكهرباء على المواطنين الذين غالباً ما يصيبهم الذهول والإحباط من قيمة ما يُفرَض عليهم، وقد وصلت بعض الفواتير إلى 70000 أو 80000 ل.س، وعند مراجعة المواطنين للشكوى، يواجههم الجباة بأن هناك خطأ في الحساب، أو يتم الإيهام بتشريح الفاتورة، فتنزل القيمة إلى الربع غالباً، ما يؤكد للمواطن أن المبلغ المزعوم ليس حقاً صحيحاً لخزينة الدولة، وليس ثمناً حقيقياً للاستجرار، بل يتم فرضه بشكل عشوائي.
 
الصرف الصحي... صحي جداً
ذهبت أدراج الرياح المبالغ الخيالية التي صرفتها الحكومة على مشروع الصرف الصحي الذي تم تنفيذه في جميع المحافظات السورية، وذلك بسبب تعهيد المشروع للمتعهدين وشركات القطاع الخاص التي نفذت المشاريع دون دراسات صحيحة، وبتنفيذ غير مُجدٍ، بعيداً عن الرقابة والمحاسبة، علماً أن هناك شركات إنشائية في القطاع العام تملك الإمكانات والمعدات اللازمة لتنفيذ المشروع، وكان من الممكن أن تسهم العائدات المصروفة بتقوية هذه الشركات وتنميتها والحفاظ عليها من الانهيار، بدلاً من تكديسها في جيوب المتعهدين وحيتان المال من القطاع الخاص، وقد ظهر سوء التنفيذ عندما لم تعمل مصارف المياه على استيعاب مياه الأمطار، وفاضت الأقبية والمستودعات والشوارع، وتكبد المواطنون خسائر كبيرة في ممتلكاتهم، وغرقت الكثير من الشوارع والأحياء بالوحول والمخاضات النتنة.
الهاتف وخدمات الاتصالات فشل عام ونجاح خاص
ارتكبت في المؤسسة العامة للاتصالات الكثير من الممارسات الفاسدة أدت إلى تراجع الخدمات الهاتفية، فقد تم الإعلان عن الكثير من المناقصات، وتبين فيما بعد أن هذه المناقصات غير جادة بتطوير وتأهيل هذه المؤسسة، فهل كان هناك مخطط لإفشال مشروع الاتصالات العام في سورية مقابل تشجيع شركات الاتصالات الخاصة؟!
فقد نشرت بعض المواقع الالكترونية وثائق تشير إلى أخطاء مقصودة في المناقصات تم تكرارها بعد عامين بالشكل نفسه ومن المسؤول نفسه، الأمر الذي جعل من إصلاح قطاع الاتصالات العام أمراً مستحيلاً أو ممنوعاً!!
تقول الوثيقة إن مسؤولاً رفيع المستوى في المؤسسة العامة للاتصالات أكد أن الحلول الفنية الكفيلة بإصلاح واقع خدمات الاتصالات، وخاصة الانترنت الرديء، معروفة تماماً وبكل تفاصيلها منذ سنوات، وأن المؤسسة حصلت على كل ما تحتاجه من صلاحيات قانونية تجيز لها التعاقد لتنفيذ هذه الحلول طيلة هذه السنوات، ولكنها وقفت متفرجة وكأن الأمر لا يعنيها تارة، أو متقاعسة تارة أخرى، تحت مجموعة من الذرائع والحجج منها قضايا الخطر وضعف الخبرة التي غالباً ما تبتكرها المؤسسات العامة في سياق تبريرها لتراجع الخدمات بشكل عام.
 
الصناعة ليست أفضل حالاً
تم في العقدين الأخيرين توقيف ونهب وتخسير الكثير من شركات القطاع العام بقرارات إدارية ورسمية، ضمن مخطط  مدروس لتشجيع ودعم شركات القطاع الخاص. ومن أهم القطاعات التي تم التخلي عن تطويرها الكثير من شركات الصناعة النسيجية والمعدنية والهندسية، وهي القطاعات التي يُعوَّل عليها برفع مستوى التطور ودعم الاقتصاد الوطني.
الشركات المتوقفة كانت تستوعب أعداداً كبيرة من اليد العاملة وتطعم الكثير من الأسر السورية، إلا أن توقيفها وتخسيرها حرم الكثير من جيوش العاطلين من الحصول على فرصة عمل يواجهون بها الفقر والحرمان وحرارة أسعار المواد التموينية اللاهبة، الأمر الذي ربط تدمير اقتصاد الوطن بتصعيب الحياة المعيشية اليومية على المواطن السوري.
 
المعمول.. والمأمول
من أجل النهوض بالاقتصاد السوري وتحسين الخدمات وتطوير البنية التحتية ووضع كل ذلك على طريق النمو المستدام، وللقضاء على التخلف والتراجع والركود الذي تعاني منه هذه المجالات، لابد من إعادة وضع المواطن بالمقام الأول لتأمين الحياة الحرة الكريمة له. وتكون الخطوة الأولى في هذا الطريق إعادة توزيع الدخل القومي بشكل عادل ليغطي كافة الخدمات العامة والشرائح الاجتماعية في المجتمع السوري عموماً. وقد أكدت دراسات أكاديمية أعدها خبراء اقتصاديون، كما أثبتت النتائج على ارض الواقع، أن النتيجة الحتمية والمنطقية لسوء الإدارة الاقتصادية، وللفساد الإداري المدعوم بقرارات رسمية لمجمل الحكومات المتتالية، هي ما نراه اليوم على الأرض من تخلف، وتزايدٍ لمعدلات البطالة بين الشباب والخريجين الذين يسعون للهرب من الأوضاع المعيشية السيئة بالاغتراب. وتوقفٍ للتقدم الاقتصادي والاجتماعي على المستوى الوطني، وكانت النتيجة إعادة توزيع الدخل القومي من جيوب 80% من المواطنين على 5% فقط من الذين لا يحكمهم القانون. ولا بد من وضع إستراتيجية اقتصادية شاملة تأخذ بعين الاعتبار جميع الموارد والإمكانات والطاقات السورية، واحترام حقوق المواطنين والحفاظ على مكتسباتهم، ومن أجل ذلك علينا المتابعة في محاربة الفساد والمفسدين وفضح أساليبهم ومخططاتهم للوصول إلى محاسبتهم بشكل رادع، وهذه من أهم الخطوات التي ستنتشل الاقتصاد السوري من أزمته الحالية، وتحافظ على ثروات الوطن وتعيد له حريته وكرامته.