محمد سلوم محمد سلوم

المنطقة الشرقية ومعلمو.. «السفر برلك»!

تتكرر مشكلة المعلمين والمدرسين في المنطقة الشرقية وريف حلب وادلب منذ عشرات السنين، مستنسخة نفسها، وعاماً بعد عام تتفاقم مع تفاقم المعاناة وتنوعها وعدم تأمين أبسط مستلزمات الحياة، حتى ما يتعلق بمستقبل المعلمين وكرامتهم، وهو ما يدفع للتساؤل: هل هناك عجز وقصور في إيجاد الحلول أم هناك من يعمل على عدم حل المشكلة أصلاً؟!.

في السابق كان أهالي هذه المناطق ينظرون للمدرس القادم كمعلم لأبنائهم، لذلك كانوا يحيطونه بكل أنواع العطف والرعاية كشخص مختلف ومميز، وكانوا يتسارعون لتأمين مستلزمات الحياة له، وبالتالي فقد كانت خدمة المدرس في هذه المناطق تعتبر بمثابة تأمين لكامل راتبه، عدا مؤونته الكاملة من منتجاتهم، وكانت مهمته التعليمية هناك لا تقل أهمية «مادياً» عن مهمة السفر إلى دولة خليجية آنذاك. أما الآن فقد تغير الوضع نتيجة سوء المواسم وتراجع مستوى الحياة المعيشية للمزارعين وازدياد نسبة البطالة بينهم وبين أبنائهم، وأصبح البعض ينظر للمدرس أو المعلم القادم كـ«سارق» لفرصة عمل أولادهم الأحق فيها، وأصبح القادم الجديد غير مرغوب به على مبدأ «قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق»، وعلى ما يبدو فهناك من بدأ يعزف على تلك الوتيرة ما عزز مسلسلات الرفض لهذا المدرس أو ذاك في بعض المناطق، والإساءة له في مناطق أخرى..

وأمام انعدام أية حوافز وامتيازات للمدرس طوال فترة خدمته لأبناء المنطقة الشرقية وأخواتها، فقد أصبح «الرسول» القادم بمهمة تعليمية إنسانية، شخصاً متوتراً وعصبياً، لا يعول على غير انتهاء مدة المهمة!. 

أصل المشكلة

في المسابقة التي جرت بتاريخ  3062003، وما قبلها، لم يحدد سقف زمني لسنين الخدمة في تلك المناطق، لذلك كان جميع المدرسين يقومون بكل المحاولات المتاحة والمتوفرة لعملية النقل إلى مناطقهم، والمدرسات كن يتسلحن بالمرسوم الذي يجيز للمرأة الالتحاق بمنطقة عمل زوجها، لذلك لم يفوتوا فرصة زواج تمكن من إتمام عملية النقل إلى محافظتهن، وبالرغم من عدم كفاية الراتب لمستلزمات الحياة إلا أن الأمل كان دائماً يعقد على قرار وزير أو «واسطة» أو أساليب أخرى، أما المسابقة التي جرت بتاريخ 342010- لانتقاء مدرسين ومعلمي صف ومرشدين وأمناء مكتبات ومعاوني رؤساء شعب من حملة الإجازات الجامعية- فاشترطت وزارة التربية أن يتعهد المتقدم للمسابقة بالعمل في الجهة التي سيتم تعيينه فيها (بمن فيهم المتزوجات) ولمدة لا تقل عن خمس سنوات، وذلك دون التقدم للنقل إلى محافظة أخرى، ولا تدخل مدة خدمة العلم ضمناً.

وكانت الوزارة قد قالت عند إعلانها المسابقة إن الأولوية في التعيين لأبناء وبنات محافظات (حلب، الرقة، دير الزور، الحسكة، ومنطقتي السحنة وتدمر التابعتين لمحافظة حمص)، وذلك حرصاً على استقرار العملية التربوية في هذه المحافظات. لكن المفاجأة كانت بنجاح القسم الأعظم من المتقدمين للمسابقة من أبناء المحافظات الأخرى، ولأن محافظة طرطوس تتمتع بأعلى نسبة تعليم ليس على مستوى سورية فحسب وإنما على مستوى المنطقة كلها، فقد نالت الحظ الأوفر من عدد الناجحين، وعلى حد قول أحد المدرسين من أبناء المنطقة الشرقية فإن هناك آلاف المدرسين من أبناء المنطقة رسبوا بالمسابقة على علامة أو علامتين، فهل من المنطق ومن الحرص على استقرار العملية التربوية أن تجعل هذه العلامة ابن المنطقة عاطلاً عن العمل وجالساً في بيته، وابن منطقة أخرى يذوق الأمرين لخمس سنوات من حياته دون أن يجني قرشاً واحداً؟ وبعد ذلك ستتكرر المشكلة من جديد. 

وجهة نظر للحل

لقد تحول حلم النجاح بالمسابقة والتعيين إلى كابوس، وأصبح المدرس الناجح أمام خيارين أحلاهما مر؛ إما التخلي عن الوظيفة أو الغياب خمس سنوات في سفر طويل دون مستقبل- يذكّر بأيام «السفر برلك» زمن العثمانيين حيث كان الشباب يؤدون خدمتهم العسكرية خارج حدود مناطقهم. وإذا استثنينا المدرسات المتزوجات اللواتي عندهن أطفال (مشكلتهن أمرّ وأشد قساوةً) واحتسبنا متوسط سن الناجحين بحوالي (24) سنة، وهذه السن تعتبر سن زواج للفتيات وسن بداية تكوين مستقبل للشباب، وبعد سبع سنوات مع   خدمة العلم للمدرسين وخمس سنوات للمدرسات، نكون قد أوجدنا جيلاً من المدرسات المعنسات وجيلاً من المدرسين الذين تأخروا في بناء أساس حياتهم الاجتماعية، وفي كلتا الحالتين لن ننتج كادرا تعليمياً متوازناً اجتماعياً وبالتالي لن يكون متوازناً نفسياً، مع العلم أن هذه المعاناة تنطبق على معلمات الصف اللواتي تم تعيينهن في المناطق المذكورة نفسها، وهؤلاء لهن مشاكلهن في وجود نحو خمسين تلميذاً في الصف ومعظم المدارس دوامان، ولا يعدن إلى سكنهن إلا في أوقات متأخرة ومعاناتهن مع الإجازات المرضية، وحصراً المعالجة في المحافظة نفسها مع اختلاف تفسير القوانين الإدارية والصحية من مدرسة لأخرى ومن محافظة لمحافظة، ومعظمهن لا يعلمن الحلقة الأولى وحسب، بل مرحلة التعليم الأساسي كلها، نتيجة النقص في المدرسين الاختصاصيين.

ورغم معاناتهن تلك فلا أفق واضحاً للحل، وكل من التقتهم «قاسيون» لم يتأففوا من العمل في هذه المناطق لأنها على هذه الحال، كما أنهم لم يحمّلوا الأهالي مسؤولية استفزازهم، ويعتبرون كل شبر في سورية وطنهم، وكل تلميذ يقومون على تعليمه وسام شرف، وإنما شكواهم من سياسة وخطة الوزارة في إجراء المسابقات والتعيين، وغياب أية خطة إستراتيجية للحل، وهم ملتزمون بالعمل في هذه المناطق ضمن رؤية علمية لتأمين وسائل الحياة الكريمة من تجمعات سكنية في مناطق متوسطة المسافة عن أماكن التعليم مع مستلزمات الحياة والتنقل وسكن المتزوجين، وأن تكون رواتبهم بحجم المهمة الملقاة على عاتقهم، ويتساءلون: مادامت مؤسسات ووزارات قامت بحل هذه المشاكل لعمالها وموظفيها كالأسمنت والنفط وغيرهما فلماذا لا يعملون على حل هذه المشكلة الأهم والأصعب وفق النموذج الوطني نفسه؟!.

هناك من قدم حلولاً تتضمن أن يتم التعيين لأبناء هذه المناطق دون إجراء مسابقة، وتساءل البعض عن المعلم الوكيل الذي اكتسب خبرة تعليمية كبيرة وهو ابن المنطقة ومستقر فيها ومن الثقافة الاجتماعية نفسها، وباعتراف معلمات الصف في بعض مدارس ريف حلب، بأن معلم الصف القادم الجديد والمؤقت والذي لا يخاف الانفكاك، والذي أزاح المعلم الوكيل، سبّب مشكلة اجتماعية في المنطقة ولا يستطيع أن يحل محله. وهذا يستوجب السعي للعمل بخطة إستراتيجية تعليمية تعتمد على الاكتفاء الذاتي للمدرسين والمعلمين من أبناء هذه المناطق ولا تنفصل عن الخطة التي تتحدث عنها الحكومة لتنمية المناطق الشرقية، وعندما يتم تعيين مدرسين ومعلمين من مناطق أخرى أن يكون الراتب محفزاً ووسائل التنقل والسكن واحتياجات الحياة مؤمنة، لأن الراتب المعطى الآن لا يكفي لسد هذه الاحتياجات وهو يتراوح بين 8000 و10000 ل . س.

يبقى أن نقول: إن القرار المبني على رؤية مستقبلية واضحة، والمستند لتشخيص الواقع بشكل سليم، مع الأخذ بعين الاعتبار الواقع العام للمنطقة، ووفق آجال زمنية محددة، لن يحل المشكلة التعليمية فحسب بل سيزيل أي توتر اجتماعي إن وجد.

■ محمد سلوم