من الذاكرة صداقة عمرها سبعون عاماً

ثيرة هي المرات التي كنت أسير فيها إلى جانب أبي في طريقه إلى العمل في مدخل غوطة دمشق عبر سوق الحميدية والبزورية والشاغور، وفي إحداها، وكنت حينها في السادسة عشرة من عمري، التقى أبي واحداً من الناس في السوق ووقفا معاً يتبادلان حديثاً حميماً، والسعادة تطفح منهما، وما إن انصرف ذلك الرجل حتى بادرني أبي بقوله: يا ولدي هذا صديقي منذ ثلاثين عاماً. عجبت للأمر، وقلت في نفسي: ثلاثون عاماً عمر هذه الصداقة؟! ومضت بي الأيام والأعوام لأعيش صداقات مديدة أين منها ثلاثون عاماً؟!

 

ومن الذاكرة أستعيد واحدة منها، إنها صداقتي لأحد أبناء الجيران في حينا بسفح قاسيون بدمشق، وكنت أكبره بسنتين. بدأت هذه الصداقة منذ سبعين عاماً من خلال اللعب في الحارة والسباحة في نهر يزيد، والمشاوير واللهو في البساتين المجاورة، وصعود جبل قاسيون شبه اليومي، إضافة طبعاً لعالم المدرسة.. لا نفترق ليوم واحد، وعندما التحقت بخدمة العلم ابتعدت قليلاً عنه، وانتلقل أهله من حينا وسكنوا في حي المزة، وشاءت الظروف عام 1959 أن أكون واحداً من حراس سجن المزة العسكري، وعادت اللقاءات من جديد مع هذا الصديق، ففي فترات انتهاء الدوام غالباً ما كنت أزوره في بيته ونتناول الطعام مع أسرته وبعد انتهاء الخدمة الإلزامية اتجهت إلى سلك التعليم وأصبحت مدرساً لمادة اللغة العربية، وصرت انتقل بين المحافظات من جبل الشيخ ومجدل شمس ومسعدة إلى ديرالزور والبصيرة إلى عفرين وجرابلس والزبداني و... وأضحت لقاءاتنا تنحصر في فترة العطلة الصيفية.. ومن أجمل ذكريات الشباب ذكرى فرحتنا الغامرة بنجاح الرفيق خالد بكداش في انتخابات عام 1954، حيث أسرعنا معاً إلى نهر يزيد وألقينا بأنفسنا في مياهه بملابسنا ونحن في أوج فرحتنا، وأنا اعتز كل الاعتزاز بأنني استطعت خلال مرحلة الشباب أن أسهم بقسط كبير في تعزيز روحه الوطنية وأفكاره العلمية.. وفي العقدين الأخيرين حين كنا ننزل إلى الشوارع في مظاهرات التضامن مع شعب العراق، وانتفاضات الشعب الفسطيني والشعب اللبناني في تصديه للعدوان الصهيوني، كثيراً ما كنت ألتقيه في تلك المظاهرات والاعتصامات والنشاطات السياسية وعند قيام رفاقنا الشباب بمسيرهم السنوي في الرابع والعشرين من تموز ذكرى معركة ميسلون.. من أمام بيت البطل الوطني الكبير يوسف العظمة في حي المهاجرين وحتى بطاح ميسلون سيراً على الأقدام. وكنت أشارك الرفاق الشباب هذا الواجب المشرف، وهناك في رحاب الضريح ألتقي ذلك الصديق مع عدد من زملائه التقدميين ونستعيد الذكريات الجميلة وتملأ صدورنا مشاعر الفخر بصداقتنا الحميمة الطويلة.. ومنذ شهر فارقنا هذا الصديق الرائع.. وأمام قبره كنت في الحشد الكبير من المشيعيين.. وكانت لي كلمة أبنت فيها ذلك الفقيد الغالي وتحدثت عن خصاله وعن جوانب هامة من عمله وكفاحه وحياته الحافلة بالجهد والصبر والإصرار والإبداع والتميز، وأنهيت كلمتي بقولي:

وداعاً يا أخي وصديقي.. وداعاً يا ترب الطفولة والشباب والرجولة والوطنية وداعاً يا خالد تاجا.