من الذاكرة: انتبه... استا..عد!

من الذاكرة: انتبه... استا..عد!

دقات متتابعة على باب البيت، أسرعت وفتحت الباب فإذا صديقي قاسم نسمة يحييني.. قلت: يا فتاح... يارزاق، قال: ألسنا على موعد؟ قلت دقيقة وسأكون جاهزاً.. ثم انطلقنا عبر البساتين إلى شعبة التجنيد في المزرعة. وهناك تبلغنا موعد «السحب» إلى الخدمة العسكرية 15/7/1957 في الجيش السوري وفي الموعد المحدد ودعنا الأهل واتجهنا إلى الشعبة، 

ومن أمامها وبين جموع المودعين ركبنا الباص الذي أقلنا إلى بلدة القطيفة على بعد أربعين كيلو متراً من دمشق لندخل إلى مركز التدريب وأذكر من أبناء حارتنا الذين رافقناهم إلى الخدمة فايز ايوبي وفايز منكش ويوسف الخرفان وأحمد شعبو وميسرة كرد علي. وقد قامت إدارة التدريب بتوزيع المجندين الجدد على مهاجع متقاربة، وضمنا نحن مهجع الشوام.. والذي أدهشني أن ما كنت أتصوره عن المعسكرات ليس إلا مجرد خيال، فالمعسكرات ليست إلا ساحات تدريب وبراكيات متناثرة وعدد من المكاتب والغرف.

وكان قائد المعسكر الرئيس أول (رائد) محمود قوطرش المشهور بشدته وعناده ومشاداته مع رؤسائه، الأمر الذي كلفه كما يقولون عدة عقوبات تنزيل رتبة، فلم يتعد رتبة الرئيس أول بينما زملاؤه أصبحواعقداء وزعماء.

وفي اليوم التالي بدأ التدريب بعد أن تسلمنا الثياب العسكرية، وكان التدريب شاقاً وقاسياً، والمدربون «أشداء» حتى المدرب برتبة عريف كان يمارس سطوته على «الأغرار» الذين صاروا يحسبون له ألف حساب وحساب.. لأنه قادر على معاقبتهم وتزحيفهم على الأرض الوعرة المملوءة بالأشواك.. فكيف إذاً الموقف من الرتب الأعلى التي أضحى لها في نفوسنا مهابة وهيبة كبيرة. وكنا ننتظر يوم الجمعة بكل لهفة وشوق، ففيه نرتاح ونستقبل خلف أسلاك المعسكر الأهل الذين يأتون لزيارة أبنائهم محملين بالأطعمة والأشربة والدعم المالي.. وكما هو معروف فالمجندون خلال دورة «الأغرار» ليس لهم إجازة للذهاب إلى أهلهم.

والبعض «يتجرأ» في يوم العطلة ويهرب لزيارة اسرته وهذا ما حدث معي، ففي يوم الخميس وقبيل انتهاء الدوام اتفقت مع ثلاثة من زملائي على الهروب إلى دمشق، وسألنا بقية زملائنا من أبناء حارتنا إن كانوا يريدون شيئاً من أهلهم.

وكان جواب أكثرهم «سلموا عليهم»، أما الزميل ميسرة فقد طلب مني بالإضافة للسلام على أبيه وأمه أن أحضر له مقصاً ومرآة صغيرة وخيطاناً وإبرة وبعض الأزرار. ثم تسللنا بعد انتهاء الدوام من بين الأسلاك الشائكة وما هي إلا أمتار قليلة حتى لاحقنا عدد من عناصر الشرطة العسكرية المكلفة بحراسة المركز وبدأت مطاردة شديدة انتهت بوقوع الهاربين بأيديهم.. إلا محسوبكم الذي ظل يعدو بأقصى سرعته فوق أرض وعرة إلى أن صرت في «مأمن»، وتابعت السير إلى أن وصلت إلى عين السخنة قريباً من دوما فاسترحت قليلاً بعد أن غسلت رأسي ويديّ وقدميّ وتابعت السير إلى دوما وقصدت بيت صديقي فهمي البكار وتناولت عنده الطعام، ثم ركبت الترام إلى دمشق لأصلها حوالي الثامنة والنصف مساءً، ومن السبع بحرات انطلقت بين البساتين نحو حارتنا وقبل ذهابي إلى بيتي، اتجهت إلى بيت زميلي ميسرة لأبلغ أهله سلامه وأحضر من عندهم ما طلبه مني.. وقرعت الباب، وكانت المفاجأة المدهشة أن من فتح لي الباب هو ميسرة بلحمه وعظمه فرحب بي ضاحكاً فقلت له: فسر لي حقيقة هذا الأمر العجيب.. فقال بعد أن هربتم جاء قائد المعسكر وجمعنا في ساحة التدريب. وحدثنا عن الانضباط وصفات الجنود الجيدين الملتزمين بنظام الخدمة.. و«نكاية» بمن هربوا أو حاولوا الهرب سمح لعدد كبير منا أن نذهب «مأذونية» يوماً كاملاً لزيارة أهلنا.. وهذا ما جرى فعلاً! فسرح بي الخيال بعيداً وأحسست في صدري رعشات تفيض بالألم والحسرة.. وخاطبت نفسي: تسع ساعات شاقة وكأنها أيام عدة أمضيتها وأنا أجتاز المسافة الوعرة بين الأحجار والأشواك.. وبعد غد حتماً تنتظرني عقوبة قاسية أقلها الفلقة والسجن... بينما كانت ساعة واحدة كافية ليصل من سمح لهم بالذهاب بكل راحة وأمان! و«صحوت» على صوت صديقي ميسرة وهو يقول: فين رحت.. شو ما بدك تاخذ المقص والخيطان والأزرار؟! فضحكت من كل قلبي ونسيت كل التعب والإجهاد.. وحتى الفلقة والسجن!