مطبات   من أجلنا.. فقط

مطبات من أجلنا.. فقط

«من أجلك أنت وإخوتك أعمل وأشقى..».. ويتعالى صوت الأب المجلجل في أنحاء البيت الصغير: «لولاكم لكنت جمعت الثروات، واشتريت سيارة، وسافرت مع أمكم إلى كل بقاع الأرض، وزرت شلالات (نياغارا)، وتمثال (بيزا المائل)، والتقطنا الصور بجوار تمثال الحرية، وركبنا الجمل أمام أهرامات الأقصر..».

الأخ الكبير يضع يده على خده، ويطلق الآهات مع دخان الأرجيلة في مقهى الكمال، ومن ثم يبدأ بصوت خافت الحديث عن تضحياته بعد موت أبيه بسرطان الرئة، وبعد أن تعلق دمعة في أسفل الجفن يقول لرفيق عمره: هل تعرف أنني كنت سأصبح طبيباً، ولكنني نذرت نفسي من أجل إخوتي الصغار؟ رحم الله والدي ترك وراءه (كومة لحم) دون أن يؤمّن عليهم، ومع ذلك هذا قضاء الله.. من أجلهم تهون المصائب.

«أليس من حقي أن أتزوج، طلقني أبوك وأنا في عز صباي، ولكنني تركت كل متع الحياة، وأكلت هذه الآلة (ماكينة الخياطة) عمري وشبابي، أصابني الديسك، والروماتيزم، وترقق العظام، وها أنت أصبحت رجلاً يحمل الشهادات، هذه (الماكينة) كانت البنك الذي اشترى لك الكتب واللباس، ودفع أقساط الجامعة.. من أجلك فقط أنا الآن وحيدة وعاجزة».

الأستاذ في الصف، المدير في الوظيفة، السائق في الحافلة، الرفيق في الطريق، الحبيبة في الفراش، المرأة في المطبخ، الشرطي للمارة، السجّان للسجناء، رئيس الدائرة للمراجعين.. من أجلكم فقط فعلنا، تعبنا، ركبنا، هبطنا، أكلنا..(نا) المسكينة الدالة على جماعة المسببين.

وفي الخبر الصحفي التالي يستمر الحديث عنا، نحن الذين ننام ملء جفوننا عن شواردها، من أجلنا نحن الذين نمارس غواية العذاب لغيرنا، ونحن الذين تعد لنا المؤسسات والوزارات اللقمة السائغة والطيبة، وفقط نحن نمارس رياضة اللوك والمضغ، وابتلاع الهناء.

 يقول الخبر: (أكد الدكتور رضا سعيد وزير الصحة أن عدول الوزارة عن العمل بقرار زيادة أسعار بعض الأصناف الدوائية ينبع من اهتمام الوزارة والحكومة بالوضع المعيشي للمواطن، ومن مبدأ تأمين الدواء الفعال والآمن وبسعر مناسب للمواطنين).

لا يستطيع أحد أن ينكر اهتمام وزارة الصحة بصحتنا طبعاً، وكذلك بجيوبنا، وبأبنائنا الذين لم يغادروا في عطلتهم المدرسية قاعات انتظار العيادات، وقرأنا في انتظارنا جرائد التسلية، ومجلة زهرة الخليج، ودفعنا بكل هدوء أجرة المعاينة قبل الدخول والتي لا تقل عن 500 ليرة للطبيب العام، وتصل إلى 1300 ليرة للاختصاصي.

ويشير السيد وزير الصحة إلى أن (قرار تعديل الأسعار الذي صدر في أواخر الشهر الماضي شمل الأدوية المرخصة منذ أكثر من سبع سنوات، والتي لم يطرأ عليها أية زيادة طوال تلك السنوات، وأن 80% من هذه الأدوية كان سعرها الأساسي لا يتجاوز الـ50 ليرة سورية، وأن الزيادة لم تتجاوز الـ10-15 ليرة سورية)..بعد أن يكتب الطبيب وصفة الدواء تبدأ المعاناة، ويمكن أن يختصر المواطن بعضها، وتهمس زوجته بأذنه (عندي منها)، وقد يساعده الصيدلي بحسم 10%.

كذلك تقف الوزارة في وجه أصحاب معامل الأدوية الذين يطالبون بالسماح لهم برفع أسعار الدواء ( معامل الأدوية طالبت مراراً بضرورة إعادة النظر بأسعار الأدوية إلا أن الطلب رفض رغم ارتفاع أسعار المواد الأولية عالمياً خلال السنوات الماضية إضافة إلى أجور وتكاليف التصنيع الجيد وما يستلزمه من وجود تجهيزات ومستلزمات إضافية وزيادة في أجور اليد العاملة).. الكلام من منطق (يجرح ويداوي)، فنحن كمواطنين نحتاج حماية الصحة، ولكننا في الوقت نفسه نتمنى الخير لغيرنا، حتى ولو كانوا أصحاب معامل، فالكلام يبرر مطالب هؤلاء، وتبدو المبررات كثيرة ومقنعة.. هذا من أجلنا فقط.

نولد من أجلنا، وكذلك نكبر، ونتعلم، ونحب، ونتزوج، وننجب، ونستدين، ونستدين.. من أجلنا فقط.