حرب داعش ضد الإسلام والمسيحية
عامر راشد عامر راشد

حرب داعش ضد الإسلام والمسيحية

عمليات التطهير العرقي التي يقوم بها تنظيم «داعش» ضد أبناء العراق المسيحيين في الموصل سبقتها عمليات قتل وممارسات وحشية ضد المسلمين في سورية، تفضح النهج التكفيري المتطرف لهذا التنظيم

صفحة جديدة من صفحاته السوداء سطَّرها تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) بحملات التطهير العرقي ضد أبناء العراق من المسيحيين في الموصل، والتي تمثل امتداداً لنهج دموي اتسمت به الأيديولوجية المنحرفة لهذا التنظيم، وتجلياتها العملية في المذابح الفظيعة المرتكبة من قبل مقاتليه في سورية والعراق، وذهب ضحيتها الآلاف من السوريين والعراقيين، أكثرهم من المسلمين، إلى جانب عمليات قطع الأيدي والتنكيل والرجم والجلد وانتهاك الحرمات، والاعتداء على الحريات. وكل ذلك يصب في بوتقة تشويه تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، والإساءة إلى الإسلام والمسلمين.

ولا تقل جريمة التطهير العرقي المرتكبة بحق مسيحيي الموصل بشاعة عن جرائم قتل المسلمين السنة والشيعة، على حد سواء، أو جريمة تشويه القيم الإنسانية للدين الإسلامي، وتدمير الكنائس والمساجد ومقامات الأنبياء والأولياء والصالحين في سورية والعراق. وهي تدفع نحو افتعال حروب ونزاعات طائفية ومذهبية، تهدِّد بانقسام المجتمعات العربية على نفسها وإغراقها في بحور من الدم، واستشراء داء انحرافات عقائدية أشد تطرفاً من عقيدة تنظيم "القاعدة"، الذي لم يستطع زعيمه أيمن الظواهري إلا أن يتبرأ من "داعش"، بعد أن لمس في الدموية المفرطة عند أبو بكر البغدادي خطراً داهماً سيشق صفوف أنصار ما يسمى بـ"العقيدة الجهادية".

بمعنى آخر، ولمنع أي التباس، أصبح قادة ومنظرو تنظيم "القاعدة" المتطرف ينظرون إلى تنظيم "داعش" من منظار أنه يزايد عليهم في تطرفه، وذهابه بعيداً في الأيديولوجية التكفيرية، ولعل في هذا دليل على مدى غلو وتطرف "داعش" وانحرافاته الفكرية- العقائدية. وغني عن القول أن هذا الغلو وهذه الانحرافات أسس لها تنظيم "القاعدة"، رغم أنه تبرأ من "داعش".

ولم ينطلق تنظيم "داعش" من فراغ، وكذلك فعل تنظيم "القاعدة" من قبل، إذ استغل في التغطية على انحرافاته الفكرية- العقائدية العلاقة المأزومة تاريخياً بين المسلمين والعرب من جهة والغرب في الجهة المقابلة، على خلفية التاريخ الاستعماري الأوروبي الغربي، والمواقف الأمريكية والغربية المؤيدة لإسرائيل بالسلاح والمال والمواقف السياسية، ودعم الغرب للأنظمة الديكتاتورية في البلدان العربية والإسلامية، وصبت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، وما تلاها من احتلال أمريكي لأفغانستان والعراق، الزيت على نار التطرف والعداء للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في أوروبا الغربية.

وانسحب هذا على تعاظم الانحرافات فكرية لدى التنظيمات الإسلامية المتطرفة، ساهمت فيها الآراء العنصرية والمتطرفة ضد الإسلام لدى العديد من المنظرين الغربيين، وأبرزهم برنارد لويس، الذي زعم بأن العالم الغربي يخوض "حرب حضارة" ضد العرب والمسلمين، وأن العالم العربي- الإسلامي كان وما زال في حرب مع "الحضارة المسيحية"، مما يخلع على الصراع بينهما طابعاً دينياً، في تحريف لحقيقة الصراع وأسبابه التاريخية، وهي في جوهرها صراع بين العرب والمسلمين والغرب المستعمر بأشكاله القديمة والحديثة، وعندما نقول العرب نقصد المسلمين والمسيحيين وباقي أبناء الطوائف والمذاهب الأخرى.

كما لعب غلاة "الإنجيليين الجدد" دوراً مشبوهاً في إضفاء بعد ديني على الصراع مع المفهوم الأمريكي للعولمة، لا يمت بصلة إلى حقيقة التعاليم المسيحية، وتلقى سياساتهم وممارستهم وادعاءاتهم استنكاراً ورفضاً واسعاً من غالبية الكنائس المسيحية العالمية والوطنية، وفي المقدمة الفاتيكان، وحتى من أتباع الكنيسة الإنجيلية نفسها. وعلينا أن لا نغفل بأن أحد أهداف الرئيسية لغلاة "الإنجيليين الجدد" يتمثل في إشعال الصراع بين الإسلام والمسيحية تحت ادعاءات زائفة وشعارات عنصرية متطرفة، بتعميم مقولات "صراع الحضارات وصراع الأديان".

إلا أن مقابلة هذه الادعاءات والسياسات بشعارات مشابهة، من قبل جماعات متطرفة وتحرِّف العقيدة الإسلامية وقيمها ومبادئها، لا يعدو كونه تطرفاً وتحريفاً من نوع آخر، لا أخلاقي لأنه ينفخ في نار اختلاق "صراع ديني- مذهبي" يرتد إلى في ترجمته على المجتمعات العربية بضرب وحدتها وهويتها الثقافية الحضارية، وعلى العلاقة بين المجتمعات العربية والغربية سلباً بدل العمل على التفاعل والحوار بينها.

إن الرد على تنظيرات برنارد لويس وأمثاله العنصرية المتطرفة ضد العرب والمسلمين، بما هي امتداد للفكر الاستعماري الغربي، وانحراف عن القيم الإنسانية السامية والمفاهيم الحضارية، لا يكون إلا بدحرها، بسلاح التمسك بوحدة المجتمعات العربية وتراثها الحضاري، ومحاربة الانحرافات الفكرية- العقائدية، التي تقسم المجتمعات على نفسها.

فالثقافة المسيحية تشكل جزءاً عضوياً وفاعلاً في الثقافة والحضارة العربية والإسلامية، وهذا ما مثل على الدوام عنصر قوة وإغناء لهما، افتقدت له الكثير من الثقافات والحضارات الأخرى ومنها الأوروبية الغربية. وبالتالي فإن المسيحية العربية شكلت وتشكل أحد عوامل تطور الثقافة العربية وجسور التواصل والتفاعل مع حضارات العالم المختلفة.

وما لا يفهمه أصحاب وأتباع الفكر التحريفي المتطرف، من أمثال تنظيم "داعش"، هو أن العلاقة بين الإسلام والمسيحية كانت على الدوام، ويجب أن تبقى، علاقة تلاقي لا علاقة تنافر، خدمة لشعوبنا وشعوب الإنسانية جمعاء. ففلسطين وبلاد الشام ومصر كانت "مهد المسيحية الأولى"، حيث ولدت المسيحية في بلاد المشرق العربي، ومنها انتشرت في أرجاء المعمورة، إلى بلدان أوروبا وأمريكا وكل بلدان العالم غرباً وشرقاً، وقد لعبت المسيحية العربية على مد العصور دور التواصل بنجاح مع الثقافات والحضارات العالمية الإنسانية.

ولا شيء أخطر على مستقبل المجتمعات العربية من تفشي الفكر المتطرف الذي يشوِّه تعاليم الدين الإسلامي وقيمه الإنسانية، فتعاليم الإسلام في جوهرها دعوة لتحكيم القيم الإنسانية والعقل والحوار والعيش المشترك وكذا تعاليم المسيحية. والاعتداء على أبناء العراق من المسيحيين في الموصل جريمة بحق الإسلام والمسلمين، الذين أعملت فيهم "داعش" قتلاً وتنكيلاً في سورية والعراق، في تأكيد على أن الإرهاب لا دين ولا مذهب له.

وحتى لا يحقق المتطرفون التكفيريون غاياتهم الإجرامية على الجميع أن يتحدوا في مقاومتهم للإرهاب المتطرف، الذي لا يفرق بين مسيحي ومسلم، ويخوض حرباً قذرة ضد الإسلام والمسيحية، لا تختلف عن حرب أنصار برنارد لويس وأتباعه، فهم ينهلون من نبع التطرف والتحريف والحقد الأعمى وانعدام القيم الإنسانية.

المصدر: صوت روسيا