«أوميكرون»: بين التهويل المُسيَّس والبيانات المُبَشِّرة
د. أسامة دليقان د. أسامة دليقان

«أوميكرون»: بين التهويل المُسيَّس والبيانات المُبَشِّرة

منذ اكتشاف متحور كورونا الجديد (أوميكرون) في جنوب إفريقيا الشهر الماضي، يتنازع «المشهد الكورونيّ» العالَمي جانبان يزدادان تناقضاً: فعلى الجانب السياسي، كثيرٌ من التصريحات غير المستندة إلى أدلة علمية تصبّ في خانة التهويل أو التسرّع، وحظر سفر على جنوب إفريقيا بمبادرة لندن وواشنطن، انتقدته حتى منظمة الصحة العالمية، وموجة جديدة من القيود الاجتماعية وتصعيد التلويح بفرض التطعيم قسراً بدلاً من أن تبذل الحكومات (الفاقدة لثقة شعوبها) جهوداً كافية لإقناعها بأهمية أخذه طوعاً... وعلى الجانب العلمي، بيانات أولية لا تبرّر حتى الآن مشهد التهويل بل تتناقض معه لأنها تدلّ على أنّ «أوميكرون» رغم كونه أسرع انتشاراً على الأرجح، لكنه أقلّ خطورة من أسلافه، كما سنبيّن في خلاصة تحليلنا للبيانات في التقرير التالي.

بدأت حكاية «أوميكرون» من أصغر محافظة (بالمساحة) في جنوب إفريقيا وتدعى «خاوتينغ» ولكن أكثفها سكاناً (15,488 مليون نسمة في نحو 18 كم2)، حيث تقول أحدث التقارير بأنّ أبكر عينة منها احتوت على المتحوّر تعود إلى 8 تشرين الثاني 2021. وفي 24/11/2021 أبلغت جنوب إفريقيا منظمة الصحة العالمية لأول مرة أنها اكتشفت المتحور الجديد B.1.1.529 ليعلن المعهد الوطني للأمراض السارية بجنوب إفريقيا NICD في 25/11 تسجيل أول 22 حالة إيجابية من هذا المتحوّر. وفي 26/11 صنفته منظمة الصحة العالمية «متحوراً مثيراً للقلق» VOC (أسوة بـ«ألفا» البريطاني و«بيتا» الجنوب إفريقي و«غاما» البرازيلي و«دلتا» الهندي).

map_of_south_africa_with_english_labels

ذُعر بلا أدلّة

أخذت لندن زمام المبادرة لحظر السفر ضد جنوب إفريقيا وجاراتها في 27 نوفمبر في وقت كانت فيه الحالات المؤكدة بأوميكرون 115 بالعالم: 88 داخل جنوب إفريقيا و17 في بوتسوانا، و10 خارجهما موزعة على 8 بلدان: هونكونغ (2)، المملكة المتحدة (2)، ألمانيا (2)، إيطاليا (1)، بلجيكا (1)، التشيك (1)، الكيان الصهيوني (1).
لتتوالى بعدها إجراءات مشابهة ومتفاوتة الشدة من عدد من الدول، مما دفع المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، بعد أيام قليلة (في 1/12) للدعوة إلى «الهدوء» طالباً من «كل الدول الأعضاء اتخاذ إجراءات منطقية ومتناسبة لخفض الأخطار» لافتاً إلى أنّه من المفهوم أن الدول تريد حماية مواطنيها «ضد متحور لم نفهمه تماماً بعد... لكنني قلق أيضاً لأن العديد من الدول الأعضاء تفرض تدابير شاملة لا تستند إلى أدلة وليست فعالة بحد ذاتها... ولن تؤدي سوى إلى تفاقم انعدام المساواة» بين الدول.
بدوره أعلن بايدن قيوداً على السفر من جنوب إفريقيا وسبعة بلدان أخرى، وصرّح أنطوني فاوتشي، مدير المراكز الأمريكية لضبط الأمراض، بأنّ الحظر هو «من أجل أن يعطينا وقتاً لتقييم أفضل» رغم إقراره بأنه «ليس ثمّة ما يدعو للذعر».

جنوب إفريقيا تحتجّ

احتجّت خارجية جنوب إفريقيا في بيان 27/11 على الحظر وقالت إن «البلاد تُعاقَب لاكتشافها المتحور بسرعة» لافتة إلى أنه «تم اكتشاف متحوّرات جديدة في أجزاء أخرى من العالم لا علاقة لها بجنوب أفريقيا، لكن رد الفعل تجاه تلك الدول اختلف اختلافاً صارخاً عن حالة جنوب أفريقيا».
وصرح المركز الأوروبي لمكافحة الأمراض بأنّ «المستوى العام لخطر أوميكرون على الاتحاد الأوروبي والمنطقة الاقتصادية الأوروبية يقدّر ما بين المرتفع إلى المرتفع جداً» واستخدمت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، تعبير «إننا نخوض سباقاً مع الزمن لمواجهة متحور أوميكرون». مع ذلك وبعد أيام قليلة، نشر مركز ضبط الأمراض في الاتحاد الأوروبي ecdc تحديثاً في 30/11، قال فيه إنه حتى ذلك التاريخ «تم الإبلاغ عن 44 حالة مؤكدة تحمل فيروس كورونا من سلالة أوميكرون (المثيرة للقلق) وذلك في 11 دولة من الاتحاد الأوروبي والمنطقة الاقتصادية الأوروبية» ومعظمها «له قصة سفر إلى بلدان أفريقية»، مؤكداً بأن «جميع الحالات التي تتوافر معلومات عن شدتها كانت إما بلا أعراض أو ذات أعراض خفيفة. وحتى التاريخ المذكور، لم يتم الإبلاغ عن أي حالات خطيرة أو وفيات بين هذه الحالات»، وجاء ذلك بعد يوم واحد من بيان لمنظمة الصحة العالمية في 29/11/2021 قالت فيه إنه من غير الواضح [في وقت إصدار بيانها] إذا كان «أوميكرون» أخطر من باقي المتحورات بما فيها «دلتا»، ولم تستبعد يومذاك أن يكون تنامي عدد المرضى في مستشفيات جنوب إفريقيا ناجماً عن تنامي إجمالي المصابين وليس إصابتهم بمتحور «أوميكرون» بالذات، مشيرة إلى الحاجة إلى ما بين عدة أيام وعدة أسابيع لتقييم خطورة المتحور الجديد.
وبالتزامن تداولت وكالات الأنباء تصريحات رئيسة الجمعية الطبية في جنوب إفريقيا، أنجيليك كوتزي التي عالجت نحو ثلاثين مصاباً بأوميكرون وأكدت أن «أعراضهم خفيفة».

مغالطة بشأن اللقاح

ورد في تصريح لرئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون في 27 تشرين الثاني قوله: «يبدو أن أوميكرون ينتشر بسرعة كبيرة ويمكن أن ينتشر بين الناس الذين تم تلقيحهم مرتين»، محاولاً الإيحاء وكأنّ إمكانية العدوى بـ«أوميكرون» لدى شخص تلقح بشكل كامل مرتين تعتبر خصلة «خارقة للعادة» خاصّة بهذا المتحوّر، في حين أنّ الدراسات العلمية (بما فيها على كوفيد-19 أيضاً) قد أثبتت أنّ أيّ فيروس يمكن أن يُعدي حتى الملقّحين ضده بالفعل (أيْ يدخل خلاياهم ويتكاثر وقد يجعل حتى نتيجة PCR إيجابية) ولكن غالباً لن يسبب لهم مرضاً خطيراً أو موتاً، بل يكون احتمال ذلك أقل بكثير مقارنة مع غير الملقّحين.

«أسرع انتشاراً» لا يعني بالضرورة «أكثر خطورة»!

توالت مؤخراً كثير من التقارير، أشارت إلى خلاصة أوّلية تقول: إنّ المتحور الجديد رغم كونه أسرع انتشاراً لكنه أقل خطورة وأخف أعراضاً، وحتى وسائل إعلام سائدة مثل «فاينانشال تايمز» نشرت عدة تقارير ومخططات بيانية توصل إلى النتيجة نفسها، قارنت في إحداها مثلاً، في حساب أولي، لمعدّل الوفيات من أصل الحالات بين المتحوّرين، فوجدت أنّها لدى «دلتا» كانت 7% أما لدى «أوميكرون» فهي 2% فقط (أي أنّ دلتا قاتل أكثر من أوميكرون بنحو 3 أضعاف).
وبكل الأحوال لكي نتحقق من هذه النتائج الأولية المتداولة، قمنا بأنفسنا بمراجعة البيانات الوبائية المتعلقة بـ«أوميكرون» من مصادرها الأصلية التي نشرت تباعاً على المنصات الصحية الرسمية لجنوب إفريقيا، وخاصة في بؤرة انتشاره الأولى والأعلى حتى الآن – محافظة «خاوتينغ» – على مدى الأسابيع الوبائية الستة الماضية (من الأسبوع رقم 44 الذي يبدأ بتاريخ 31 تشرين الأول/أوكتوبر 2021، وحتى الأسبوع 49 المنتهي في 11 كانون الأول/ديسمبر الجاري). وفيما يلي مخطط يمثل خلاصة تحليلنا لتلك البيانات، مع شرحها أدناه:

-

إنّ الخط الأزرق المتقطع في الشكل يمثّل تزايد «نسبة إيجابية الاختبارات»، ونعتقد بأنّ هناك مشكلة منهجية في تركيز معظم وسائل الإعلام وحتى بعض التصريحات والتقارير الصحية، على هذا المؤشر لوحده، أو حتى مرفقاً بمؤشر التزايد السريع لعدد الإصابات والقبولات في المشافي، فالاكتفاء بها لوحدها سيرسم صورة ناقصة توحي «بالذعر»: زاد عدد الاختبارات المجراة في محافظة «خاوتينغ» على مدى الأسابيع المدروسة كما يلي وفقاً للتقارير، من 61076 اختباراً (منها 446 إيجابية أو 0.7%) في الأسبوع 44، وصولاً إلى 167321 اختباراً (منها 58578 إيجابية أو 35%) في الأسبوع 48. وقفز عدد قبولات كوفيد الأسبوعية الجديدة بالمشافي حوالي 19 ضِعفاً (من 152 في الأسبوع 44 إلى 2926 في الأسبوع 49).
لكن المؤشرات المذكورة لوحدها لا تكفي لمعرفة مصير الحالات وتوزعها بين عرضية ولاعرضية وخفيفة أو شديدة أو حرجة أو ستشفى أو تموت... هذا فضلاً عن أنّ عدة تقارير أشارت إلى أنّ جزءاً من حالات كوفيد داخل المشافي تم قبولها أصلاً بسبب أمراض أخرى قلبية أو مزمنة وليس «بسبب» كوفيد، ولكن بعد قبولها أجري اختبار الفيروس لهم فكان إيجابياً وتم تسجيلهم في إحصاء «حالات كوفيد في المشافي».
لذلك قمنا باستكمال الصورة من البيانات التفصيلية للمشافي (كما يوضح الشكل أعلاه) حيث شهدت جنوب إفريقيا عموماً ومحافظة خاوتينغ خصوصاً مرحلة انتقالية سريعة (من نهاية أوكتوبر/ بداية نوفمبر إلى 20 نوفمبر، أو الأسابيع 44 – 46) والتي حلّ خلالها المتحور أوميكرون (المساحة المظللة بالأخضر) مكان المتحوّر دلتا (المساحة بالأحمر) فيما يبدو صراعاً «داروينياً» بين المتحوّرين. ولذلك يمكن أن نعتبر هبوط أو صعود الخطوط الملونة على الشكل مقياساً لتأثيرات منسوبة أكثر فأكثر (مع تقدم الزمن) إلى المتحوّر «أوميكرون» من جهة وإلى التخلّص من المتحوّر «دلتا» من جهة ثانية، وأبرزها ما يلي:
● انخفاض نسبة المحتاجين لعناية مشددة (الخط الأزرق) وكذلك المحتاجين لمنفسة (الخط البني).
● انخفاض نسبة مَن يموتون بكوفيد إلى مَن يشفون منه (الخط الأحمر)، ما يعني أنّ أوميكرون يبدو أقلّ فتكاً من دلتا الذي كان سائداً قبله في خاوتينغ (وفي جنوب إفريقيا والعالم عموماً).
● بالمقابل من الواضح من الصعود الكبير للخط الأخضر على الشكل أن هناك تزايداً مفاجئاً ومهمّاً لنسبة مرضى كوفيد ذوي الحالات غير الخطيرة في المشافي (الذين لا يحتاجون سوى لدعم بالأوكسجين بلا عناية مشدّدة ولا منفسة) وخاصة منذ الأسبوع 46 (أواسط تشرين الثاني الماضي).

علّقت بعض الآراء العلمية بأنّ هذا ربما يتوافق مع فرضية «الفوعة المتناقصة» والتي بموجبها يجري تطوّرٌ واصطفاء لسلالات ممرضة أقل فتكاً بمُضِيفِها كآلية تسمح لها بانتشار أوسع، كونها تُبقي مَن تتطفل عليهم أحياء لكي ينقلوها إلى أحياء غيرهم وهكذا... فهل يبشّرنا المتحور الجديد بأنّ هذا الوباء يتجّه نحو المصير الذي انتهت إليه عدة أوبئة فيروسية تاريخياً: التحوُّل بنهاية المطاف إلى فيروس موسمي منخفض الخطورة أو أشبه بالإنفلونزا أو الزكام؟