أسماك فرنسية وغواصات أمريكية تدفع الخلاف إلى السطح

أسماك فرنسية وغواصات أمريكية تدفع الخلاف إلى السطح

مع اندلاع الخلافات الكبرى الفرنسية البريطانية المرتبطة بوزن كل منهما في أوروبا التي تسير في طور التفكك، تبدو حرب السمك الأخيرة الشعرة التي قد تقصم ظهريهما.

ليست الخلافات بينهما وليدة اليوم بل هي جزء من التنافس على الزعامة الأوروبية، بل والتنافس على زعامة العالم القديم في العصر الاستعماري بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. ومن الجدير بالذكر أن فرنسا وبريطانيا تشبهان بعضهما كثيراً، ليس فقط فيما يتعلَّق بماضيهما الإمبريالي وسطوتهما العالمية، بل أيضاً على صعيد أعمق، مثل شعورهما بالاستثنائية، وخوفهما من الاضمحلال، وقلقهما من صعود القوى الأخرى.
ومع تغير الزعامات بعد الحرب العالمية الثانية وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي لتتبوّأ الولايات المتحدة في القرن العشرين زعامة العالم، أخذت بريطانيا دور الابن المدلل للزعامة بعدما كانت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس في القرن التاسع عشر. وتزايد الدور الألماني في أوروبا بالتدريج إلى جانب الوزن البريطاني في الاتحاد الأوروبي، لكن تغير وزن الولايات المتحدة عالمياً في بدايات القرن الحادي والعشرين، جعل نفوذها في الاتحاد الأوروبي موضع جدل أوروبي بالتأكيد وليست سياسة «بريكست» التي أخرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلا جزءاً من هذا التغيّر، مما فسح المجال للفرنسيين للتقافز والادعاء بوزنٍ ينافس ألمانيا على زعامة أوروبا حسب زعمهم.
ما زالت كلّ هذه الدول في مركب الناتو نفسه لكن هذا المركب المتمايل لم يعد يستطيع الإبحار بطاقته السابقة ويضطر في هذه العاصفة إلى إخلاء بعض ركابه ضمناً، وخاصة في ظل ازدياد أوزان القوى الدولية الصاعدة الجديدة.

وتتغير التحالفات الأمريكية عالمياً مع تغير غاياتها ومناطق نفوذها الموجودة والمأمولة.

حيث أعلنت الحكومة الفرنسية، احتجاز زورق صيد بريطاني ومصادرة المنتجات الموجودة عليه واتخاذ إجراءات قانونية ضد القبطان. وربطت باريس بين احتجاز الزورق وتوجيه خفر السواحل الفرنسي تحذيرًا لزورقين بريطانيين كانا يصطادان في المياه الإقليمية الفرنسية قبالة سواحل «لو هافر». وانتقدت الحكومة البريطانية الإجراءات الفرنسية «الانتقامية» المقترحة في نزاع بشأن الوصول إلى مصايد الأسماك.

وتصاعدت التوترات بين البلدين بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وصرّح متحدث باسم الحكومة الفرنسية بأنها قد تعطّل تدفق التجارة مع بريطانيا وإمدادات الطاقة إلى الجزر البريطانية، بسبب قلة تراخيص الصيد الممنوحة للقوارب الفرنسية منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفي فبراير/شباط الماضي، هوت الصادرات من الموانئ البريطانية إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 70% تقريباً خلال أوّل أشهر تطبيق اتفاق «بريكست».
وخرجت بريطانيا رسمياً في 31 كانون الثاني 2020 من الاتحاد الأوروبي، لكنها واصلت اتّباع القواعد الأوروبية خلال فترة انتقالية انتهت في 31 كانون الأول، أصبحت بعدها خارج الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة الأوروبيَّين.

أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، في 15 أيلول، عن تشكيل تحالف أمني استراتيجي جديد في منطقة المحيطين الهندي والهادئ تحت مسمى تحالف «أوكوس» (AUKUS)، يضمّ كلاً من الولايات المتّحدة وبريطانيا وأستراليا، وذلك على هامش قمة افتراضية.

وعلى الرغم من التباعد الجغرافي الذي يجمع الدول الثلاث، فإن المصالح المشتركة كانت الدافع وراء تأسيس هذا التحالف، كما أن البلدان الثلاثة هي أعضاء في «تحالف العيون الخمس» (FVEY)، وهو تحالف استخباراتي يشمل كلاً من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا. وتوصف «أوكوس» بأنها «تحالف الحرب الباردة في المحيطات»، ضد الصين وروسيا.

تتمثل أبرز أبعاد الشراكة الثلاثية تسليح أستراليا بغواصات أمريكية نووية: تتضمن الشراكة أن تقوم الولايات المتحدة بتسليم أستراليا غواصات تعمل بالدفع النووي، وهي أول مرة تزود بها واشنطن دولةً أخرى غير بريطانيا بهذه التكنولوجيا؛ وقد نتج عن السعي لتزويد أستراليا بالغواصات الأمريكية تخلّي كانبرا عن صفقة مع فرنسا، كانت ستشتري أستراليا بموجبها نحو 12 غواصة تقليدية (غير نووية) من فرنسا تُقدّر بنحو 50 مليار يورو، حيث سيتم دعم أستراليا بالغواصات النووية، نظراً لموقعها الاستراتيجي الحيوي في المحيطين الهادئ والهندي، وكذلك كونها الفناء الخلفي للصين. وهو ما أشعر فرنسا بالتخلي عنها، وأنها أصبحت رقماً ضعيفاً جداً في الحسابات الاستراتيجية الأميركية. وخاصة مع تعزيز دور بريطانيا في العلاقة مع الولايات المتحدة بعد «بريكست» وهي التي تعاني تداعيات سلبية بعد انسحابها من الاتحاد الأوروبي. مما أثار حفيظة الفرنسيين كذلك.
فالإعلان عن صفقة الغواصات، والذي جاء على هامش التحالف الدفاعي الجديد، أثار صدمة وغضب الخصوم والحلفاء في آن واحد، فبينما انتقد الخصوم المتمثلون في الصين وروسيا هذه الصفقة، كانت لها صدى أكبر على الحلفاء المتمثلين في فرنسا والاتحاد الأوروبي، لدرجة أن يعلن ماكرون، خلال المؤتمر الصحفي في ختام قمة مجموعة «G20» في روما: «مبادرة الحليفين في الناتو وأستراليا الخاصة بإقامة الشراكة AUKUS تدل على التعامل بطريقة غير مقبولة وهذا أمر واضح».

إن التصدّعات الجارية ضمن أطراف حلف الناتو وخاصة الأوروبية منها تنبع بشكل رئيسي من أنّ المصالح الأميركية تسعى للمواجهة في بحر الصين ولم يعد الدور الأوروبي محورياً بالنسبة للولايات المتحدة إلا بقدر ما يمكنه مساعدتها في توجّهها الجديد، ولا تستطيع فرنسا المتقافزة أن تقدم أي خدمات بهذا الشأن.

آخر تعديل على الإثنين, 08 تشرين2/نوفمبر 2021 21:10