الشهيد نزار بنات في «مِحرَق عدسة» الثالوث الثوري الحديث

الشهيد نزار بنات في «مِحرَق عدسة» الثالوث الثوري الحديث

انفجرت مؤخراً احتجاجات الشعب الفلسطيني ضد سلطة أوسلو بقيادة محمود عباس، سلطة التنسيق الأمني مع العدو، نتيجة لتراكم تاريخي لمجموعة من الممارسات المتزايدة في تفريطها بحقوق الشعب الفلسطيني، ليس فقط على مستوى القضية الوطنية المركزية عبر نهج المساومة والاستسلام، بل ولازدياد تلاحم قضية التحرر الوطني مع القضية الاقتصادية-الاجتماعية وملفّات الفساد السلطوي، مع قضية الديمقراطية والحريات. وهذا ما يفسّر رمزية استشهاد المناضل والمعارض الفلسطيني نزار بنات (أبو كفاح) اغتيالاً بيد قوات أمن السلطة، لكونه شخصية تلاقى فيه ثالوث الثورة الوطنية الديمقراطية الحديثة (كفاح القضية الوطنية ضد الاحتلال مع قضية النضال الاقتصادي-الاجتماعي ضدّ الفساد، مع النضال الديمقراطي ضدّ قمع الحريات) مثلما تتجمّع أشعة الشمس في البؤرة المِحرقيّة لعدسة محدّبة الوجهَين.

من هو الشهيد نزار بنات؟

نزار بنات، 42 عاماً، من سكان بلدة دورا جنوب الخليل المحتل. كان أحد مرشحي قائمة «الحرية والكرامة» في الانتخابات التشريعية التي كان مقرراً أن تجري في أيار الماضي، قبل أن يؤجّلها رئيس السلطة محمود عباس.

اشتهر الشهيد بنشاطه السياسي المعارض للسلطة وتنسيقها الأمني مع العدو، ومشروع المساومة مع الاحتلال، وظهر في فيديوهات عديدة انتقد فيها بشجاعة رموز السلطة متحدثاً عن عدد من قضايا الفساد. وممّن انتقدهم رئيس هيئة الشؤون المدنية حسين الشيخ، الذي وصف عودة العلاقات مع الاحتلال بـ«الانتصار».

وذكرت عائلة الشهيد أنه تعرض لأكثر من ثماني حوادث اعتقال في السنوات الماضية على يد أجهزة السلطة، كما أشار في تصريحات مصوّرة إلى تعرضه للتعذيب والقمع في سجون السلطة الفلسطينية، وأكد في منشوراته تعرضه للتهديد بالاغتيال من عناصر تابعة لأجهزتها الأمنية.

واتهم نزار بنات، عناصر من حركة فتح، بشن حملة تحريضية ضده على مواقع التواصل الاجتماعي، وصلت لمزاعم «التعاون مع الاحتلال» و«الخيانة»، وهو ما نفاه.

ومن الحوادث المشهورة في حياة أبي كفاح، مشادة كلامية عام 2013 بينه وبين وزير الاقتصاد الفلسطيني في ذلك الوقت، جواد الناجي، أثناء «المؤتمر الوطني لمقاطعة الاحتلال»، في مدينة بيت لحم، حيث وجه بنات انتقادات لرئيس السلطة الفلسطينية، ومسألة التنسيق الأمني. فقام الوزير الفلسطيني بالتهجم اللفظي على أبي كفاح مما دفع الحضور لمساندته وانتهت المواجهة بطرد الوزير من قاعة المؤتمر. لكن بعد ذلك قال بنات إنّ «اثنين من مرافقي الوزير يرافقهم أحد الأشخاص (مفتول العضلات) اعترضوا السيارة التي كنت أستقلها أثناء توجهي إلى منزلي، وطلبوا مني الخروج من السيارة، إلا أنني رفضت طلبهم... فقاموا بإخراجي بالقوة واعتدوا عليّ بوحشية ما أدى إلى إصابتي بعدة إصابات ورضوض في معظم أنحاء جسدي»، بحسب ما نقلته وسائل إعلام محلية في ذلك الوقت.

وبرز أبو كفاح مؤخراً في مؤازرته للمقاومة الفلسطينية بقطاع غزة أثناء العدوان «الإسرائيلي»، ودعا لمقاومة الاحتلال في الضفة الغربية، وتركّزت أبرز فيديوهاته الأخيرة عن القدس والشيخ جراح وقرية بيتا وجبل صبيح، بالإضافة للهبّة الشعبية في الداخل المحتل. كما صرّح بأنّ قرار عباس بإلغاء الانتخابات غير شرعي وغير دستوري، ويمثل اغتصاباً للسلطة وجريمة بحق الشعب الفلسطيني وقضيته.

أما المحطة الأخيرة في تاريخه النضالية، فهو نشره فيديوهات هاجم فيها «صفقة اللقاحات» بين الحكومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني، والتي تبين بأن السلطة عقدت صفقة شراء لقاحات فايزر (المضادة لكورونا) من كيان الاحتلال شارفت صلاحيتها على الانتهاء، ثم اضطرت لإلغائها بعد الضجة الإعلامية والفضيحة.

ولم يكن نزار هو الوحيد الذي انتقد السلطة بسبب ذلك، بل من بين المنتقدين كان أيضاً القيادي بالجبهة الديمقراطية تيسير خالد: «الاحتلال يحول المناطق الفلسطينية لمكب نفايات يلقي فيه لقاحات وبضائع فاسدة أو منتهية الصلاحية، لكن هذا لا يعفي الجانب الفلسطيني من المسؤولية، فصفقة اللقاحات هددت صحة المواطن».

أما بنات فقال في الفيديو إنّ «فضيحة اللقاحات ليست سلوكاً جديداً من السلطة، وهناك أشخاص متنفذون ومرتزقة فيها، ويبدو أن هؤلاء يريدون ترك البلد خراباً قبل الخروج منها». كما انتقد رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتيه، قائلاً عنه إنه «محترف بإخفاء الفساد، لذلك تم وضعه في هذا المنصب من قِبل محمود عباس رئيس السلطة».

وشدد على أن «الخلل يكمن في القيادة الفلسطينية بالضفة الغربية التي تتاجر بكل شيء»، مضيفاً: «كانوا يبيعون أسلحة الفدائي الفلسطيني – التي كان يتبرع بها مناصرو القضية الفلسطينية – لحزب الكتائب اللبنانية، وباعوا معارضاً سعودياً مناصراً للفلسطينيين، ناصر السعيد، للسعودية بدراهم معدودات، وفضيحة اللقاحات سلوك ليس جديداً».

 

عملية تصفيته في 24 حزيران

وفقاً للتوضيحات التي أدلى بها ابن عم الشهيد بنات، لوكالة «عربي21» فإنه «في تمام الساعة الثالثة والنصف من فجر اليوم الخميس، قامت قوة من جهاز الأمن الوقائي وجهاز المخابرات الفلسطينية العامة، مكونة من 25 فرداً بينهم الضابط والعنصر، بمداهمة مكان إقامة نزار برفقة اثنين من أبناء العائلة». وأضاف: «قامت هذه القوة باقتحام المكان بعد تفجير الأبواب والشبابيك، ولم يتم الاستئذان وفق الإجراءات القانونية المتبعة، واقتحموا الغرفة التي ينام بها».

وقال ابن عمه إنّ «المنطق والقانون، يقول في هذه الحالة إنه يتم إيقاظه ومن ثم اعتقاله، إذا كانت هناك مذكرة توقيف أو جلب بحقه، علماً بأنهم لم يظهروا أموراً من هذا القبيل». وأكد أن «أفراد وضباط الأجهزة الأمنية، قاموا بتوجيه عدة ضربات مؤلمة لنزار مباشرة على رأسه وجسده عبر أداة حديدية وهراوات خشبية، ومن ثم قاموا برش نزار بثلاث علب من الفلفل الحار في عينيه وفمه، وقاموا بضربه بشكل وحشي ومبرح».

ولفت إلى أن أفراد الأجهزة الأمنية «قاموا بعد ذلك بتعرية نزار من ملابسه مع تواصل الضرب واللكمات بالأيدي والهراوات الحديدية والخشبية، وضربه بالمسدسات، ومن ثم تم اقتياد نزار حياً تحت الضرب إلى إحدى سياراتهم، وتم نقله، وكان من الطبيعي أن يتم نقله لأحد مقرات جهاز الأمن الوقائي أو المخابرات العامة... وبعد ساعة من ذلك أعلنوا عن وفاة نزار في مستشفى «عالية» الحكومي بالخليل، إثر نوبة قلبية».

 

المظاهرات الشعبية وقمع السلطة

منذ أول يوم بعد اغتيال نزار بنات، يتواصل خروج تظاهرات شعبية تحتج على الجريمة وتتخذ بشكل متزايد طابعاً سياسياً عامّاً مطالباً برحيل السلطة والرئيس عباس مع ترديد الهتافات ضد الأجهزة الأمنية التابعة لها.

ففي 26 حزيران تظاهر آلاف الفلسطينيين في عدة مناطق ومدن من الضفة المحتلة. وردّ بعض المسؤولين في السلطة الفلسطينية وحركة فتح على الاحتجاجات بأقوال وأفعالٍ مدهشة في تطابقها مع العنجهية التقليدية للسلطات العربية الفاسدة والمأزومة في حالات كهذه، حيث دعوا إلى «عدم اختبار صبر حركة فتح» على حدّ تعبيرهم، موجّهين اتهامات «بالعمالة» والتخوين للمتظاهرين. فعلى سبيل المثال قال محافظ سلفيت، عبد الله كميل إنّ «هناك دعوة للتظاهر غداً من قوى مناهضة للسلطة وفي دمها الفكر الانقلابي، بالوقت نفسه، وحسب فهمنا لعقلية البعض فقد يبادرون بإطلاق النار باتجاه المتظاهرين لإلصاق التهمة بالسلطة... انتبهوا وفوتوا الفرصة عليهم». وتوعّد عماد قراقرة الناطق باسم هيئة الشؤون المدنية التي يرأسها حسين الشيخ، الجماهير الفلسطينية عبر فيسبوك قائلاً ‏«لا تختبروا صبر حركة فتح والويل من غضبها، ومن يحاول المساس بها وبمؤسسات الدولة سيرى ما لم تتوقع عيناه أن تراه». في السياق نفسه قال عضو «المجلس الثوري لحركة فتح» موفق مطر عبر صفحته في فيسبوك إن «الرئيس والنظام والأجهزة الأمنية مش ملطشة، وهناك من يستغل الأحداث لأجندته، والتخوين والفوضى والعبث بالنظام ليس تعبيراً ولا حرية رأي».

واشتهرت من بين حوادث القمع، ما حدث بعد تجمع عدد كبير من الفلسطينيين والنشطاء على دوار المنارة في الخليل، حيث جاء رجال أمن بلباس مدني وبدأوا بضرب المتظاهرين، قبل أن يصل بقية عناصرهم بالزي الرسمي. وحدث الكر والفر بين البلطجية والمتظاهرين، وحين تراجع الطرف الأول تدخل المدججون بالسلاح وقنابل الغاز وقنابل الصوت، وقاموا بضرب وسحل واعتقال المتظاهرين وملاحقتهم، ولم ينجُ حتى الصحفيون والصحفيات من الضرب مع مصادرة هواتف بعضهم، وابتزّهم الأمن لاحقاً بصورهم وبياناتهم الشخصية الخاصة على هواتفهم المسروقة. كما تلقى سكان العمارات المحيطة بالمكان تهديدات بسبب توثيقهم هذه الاعتداءات وتصويرها.

لذلك كان من بين الشعارات التي هتف بها المتظاهرون لاحقاً في الخليل في 2 تموز: «يا سلطة البيجامات بكفيكي اغتيالات» في إشارة لاعتماد أمن السلطة عناصرَ قمعٍ بزيّ مدني. ومنها أيضاً «يا نزار ارتاح ارتاح، نحنا نواصل الكفاح» و«زاد الحد وطفح الكيل، يا انتفاضة شيلي شيل» و«ليش نلف وليش ندور، عباس هو المسؤول». هذا فضلاً عن إعادة الألق لشعارات «الحرية» و«الموت ولا المذلة» من حناجر الفلسطينيين والذين يصعب على أحد هذه المرة تخوينهم واتهامهم بالعمالة «للصهيونية» أو بـ«التخريب» وهم يقارعون ويقاومون الصهيونية في قلب الأراضي المحتلة بالذات.