إنقاذ المضاربين والفشل بإجبار السوفييت على الخضوع لهم
إيريك توسان إيريك توسان

إنقاذ المضاربين والفشل بإجبار السوفييت على الخضوع لهم

بدءاً من 1918 فرضت قوات الحلفاء حصاراً اقتصادياً على روسيا السوفييتية «انظر الجزء الأول: السوفييت سجلوا سابقة برفض دفع الديون الغربية». كانت الحكومة السوفييتية مستعدة لذلك وقررت الدفع بالذهب لاستيراد البضائع ذات الضرورة القصوى. لكنّ أيّاً من المصارف الكبرى أو الحكومات في العالم، لم تكن قادرة على قبول الذهب السوفييتي دون الدخول في معركة مع حكومات الحلفاء.

بقلم: إيريك توسان
ترجمة وإعداد: قاسيون

كان على الأشخاص أو الشركات في الولايات المتحدة الراغبين باستخدام الذهب في تعاملاتهم أن يوقعوا على تصريح رسمي بأنّ الذهب في حيازتهم لا علاقة له «بما يسمّى» الحكومة البلشفية، وأنّ للحكومة الأمريكية حقّ مصادرته دون أيّ تحفظات إن تبيّن غير ذلك.

ومن الجدير بالذكر أنّ فرنسا، أكبر المتضررين من رفض دفع الديون الأجنبية، حصلت على أكثر من مالها عند استيلائها على الذهب الروسي الموجود في ألمانيا ضمن مدفوعات الأخيرة كتعويضات للحرب العالمية الأولى. لكنّها استمرّت رغم ذلك بفرض الحصار، وهي من أعلمت واشنطن في 1928 لتمنع تنفيذ عقد شركة أمريكية قبضت ذهباً روسياً.

 

الردّ السوفييتي

رغم أنّ معاهدة فيرساي الموقعة في 1919 قد ألغت معاهدة بريست-ليتوفسك مع ألمانيا، وخوّلت وفقاً للمادة 116 الحكومة السوفييتية بطلب التعويض من ألمانيا. إلّا أنّ الحكومة السوفيتية رفضت طلب التعويض أو إجراء أيّ اقتطاع أو ضمّ لأقاليم ألمانية. وصبّت اهتمامها على استعادة الأقاليم التي استولت عليها الإمبراطورية الألمانية من روسيا القيصرية.

ووفقاً لحق الشعوب في تقرير مصيرها، قامت الحكومة السوفييتية التي استعادت هذه الأراضي بإعادتها إلى الشعوب البلطيقية والبولندية والأوكرانية والروسية.

وقّعت الحكومة السوفيتية معاهدات مع دول البلطيق: إستونيا وليتوانيا ولاتفيا في 1920 منحتها فيها استقلالها. وأعادت من خلال هذه المعاهدات التأكيد على رفضها دفع الديون الأجنبية من خلال تضمين المعاهدات بنداً يعفي الدول المستقلة حديثاً من أيّ مسؤولية عن الديون ويعيد المسؤولية لروسيا وحسب. بل قامت علاوة على ذلك بمنح هذه الدول تعويضات عن الانتهاكات والأضرار التي سببها النظام القيصري من خلال مصادرته للمواد الثقافية والأكاديمية والشخصية وأضرار الحرب نتيجة انخراطه في الحرب العالمية الأولى. فتحت معاهدات السلام هذه الباب واسعاً لعمليات التجارة بين روسيا وهذه البلدان.

تكرر الأمر مع أوكرانيا وبيلاروسيا. لكنّ الضربة الأكبر للغرب كانت بتوقيع معاهدة مع بولندا، والتي اعتبرها الغرب حليفة للقوى الرأسمالية، ودولة مفتاحية في عزل روسيا.

وفي 1921 وقعت الحكومة السوفييتية معاهدة صداقة مع إيران «فارس»، تنازلت من خلالها عن أيّ مكتسبات استعمارية حازتها أثناء الحكم القيصري. والأهم أنّ المعاهدة ألغت كافة الديون التي تدين بها فارس للحكومة القيصرية، واعتبرتها ديوناً لم يكن هدفها التنمية بل إخضاع فارس. وفتحت التجارة بين البلدين.

بعد عدّة أسابيع قامت الحكومة السوفييتية بالمثل بإعفاء تركيا من أيّ ديون ومسؤوليات تجاه روسيا نتيجة أيّ اتفاق تمّ توقيعه مع الحكومة القيصرية.

 

محاولة إنقاذ المرابين

قامت الحكومات الغربية على إثر رفض الحكومة السوفييتية دفع الديون، بمنح حاملي سندات الدين الروسية حقّ استبدالها بسندات وطنية بنسب تعويض متفاوتة، وصلت في اليابان إلى حدّ تعويض حاملي السندات الروسية بنسبة 100% عن قيمة سنداتهم.

كانت نسبة 40-45% من سندات الديون الروسية مملوكة لمضاربين فرنسيين يبيعونها ويشترونها في أسواق الأسهم. وأثناء الحرب قامت الحكومة الفرنسية بدفع معدلات الفائدة البالغة 5% عن هذه الديون لحامليها. وعندما سقط القيصر ووصل البلاشفة للسلطة، اضطرّت الحكومة الفرنسية من جديد لدفع فوائد السندات لحامليها.

ومن المهم أن نعلم بأنّ الكثير من حاملي السندات الروسية – ورغم فرصة تحميل خساراتهم للشعب – لم يقبلوا باستبدالها بسبب نسبة الفائدة المرتفعة فيها قياساً بالوطنية، آملين بقدرة حكوماتهم على فرض الأمر على الحكومة السوفييتية. إنّه المثال الأفضل على خيال رأس المال وانفصاله عن الواقع.

في تشرين الأول 1922عقدت القوى الغربية الكبرى – باستثناء الولايات المتحدة – مؤتمراً في مدينة جنوى حضرته الحكومة السوفييتية. كان يهدف إلى: إقناع الحكومة السوفييتية بالكفّ عن الدعوة للثورة حول العالم والعودة عن قرارها برفض دفع الديون وتعويض الشركات الأجنبية عن الأصول التي تمّ تأميمها.

اعتقدت القوى الغربية بأنّه وتبعاً للدمار الذي خلفته الحرب الأهلية في روسيا وللوضع الاقتصادي المتردي، فسيكونون قادرين على تركيع الحكومة السوفييتية.

لكنّ الحكومة السوفيتية أعلنت بأنّها مستعدة لدراسة الإقرار بجزء من الديون فقط «التي أخذت حصراً قبل بدء الحرب العالمية الأولى» مقابل شروط لم يكن للدول الغربية أن تقبل بها مطلقاً، منها:

  • تسديد الديون بجدول تضعه الحكومة السوفيتية يأخذ بالحسبان تعويض حاملي السندات الصغار أولاً، وتسديد فوائدها يبدأ بعد 30 عاماً،
  • عقد الديون الجديدة على أساس دولة مقابل دولة دون السماح بعقد صفقات فاسدة مع مؤسسات مالية خاصة وسيطة كالتي حصلت في أيام القيصر ونشرت الثورة وثائقها،
  • ألا يشترط دفع الديون القديمة بواسطة الجديدة، وهي العملية التي راكمت الديون على القيصر في المقام الأول،
  • تعويض السوفييت عن الأضرار التي تسبب بها هجوم القوى الكبرى على الثورة،
  • تشجيع الدول لشركاتها الخاصة للاستثمار والتنقيب في مناطق روسيا النائية.

وبعد عدد من العروض والردود فشل المؤتمر بسبب رفض السوفييت الخضوع.

 

كلّ السلطة للسوفييت

بدءاً من 1923 بدأت الدول بالاعتراف بالحكومة السوفييتية وعقد الاتفاقيات والمعاهدات معها. ربّما أبرزها تمّ توقيعها في 1924 مع المملكة المتحدة، حيث اعترفت بحق الاتحاد السوفييتي بالحصول على التعويض نتيجة الدمار الذي سببه التدخل البريطاني في الحرب الأهلية. بل والأكثر من ذلك أنّ المملكة المتحدة منحت السوفييت قرضاً. مع ملاحظة أنّ الحكومة التي أتت بعد ذلك بأشهر رفضت التصديق على مسألة التعويض، رغم أنّ بعض الشركات البريطانية تخلّت عن المطالبة بالتعويض عن تأميم أصولها في روسيا وعادت للعمل.

وبدءاً من 1926 بدأت المصارف الخاصة الأوربية والحكومات بمنح القروض للاتحاد السوفييتي، وذلك رغم الغضب الأمريكي الصريح من هذه العمليات. ثمّ في 1933 قامت الولايات المتحدة في عهد الرئيس روزفلت بالاعتراف بالحكومة السوفييتية وأنشأت بنك الواردات والصادرات لتمويل الإتجار مع الاتحاد السوفييتي.

وبعد أشهر من ذلك، عرضت فرنسا على الاتحاد السوفييتي قرضاً لشراء المنتجات الفرنسية.

 

وممّا يثير الحزن أنّه وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، قام رئيس الاتحاد الفدرالي الروسي بوريس يلتسين في عام 1997 بتوقيع اتفاقية مع فرنسا دفع بموجبها مبلغ 400 مليون دولار كتعويضات لحاملي سندات الدين الروسية التي رفض الاتحاد السوفييتي دفعها. ورغم أنّ هذا المبلغ لم يمثّل سوى 1% من قيمة الديون المطالب بها، إلّا أنّ دلالاته السياسية كانت واضحة.

 

مصدر الجزئين: Russia – Origin and consequences of the debt repudiation of February 10, 1918