عن أفريقيا التي سلبها الغرب
جان كلود بيساي جان كلود بيساي

عن أفريقيا التي سلبها الغرب

إثر التسويق الإعلامي المتزايد وقلق واشنطن، ولاسيما بعد أن خسرت مواقعها أمام فاعلين كبار جدد- سراً في البداية، ثم بصورةٍ علنيةٍ أكثر فأكثر، أصبحت «إفريقيا ضرورةً استراتيجيةً كبرى بالنسبة لأمريكا». بهذه العبارات، لخّص الجنرال جيمس جونز أسباب الاهتمام المتزايد الذي أولته الولايات المتحدة، لمجمل القارة الإفريقية في العقد الماضي، ووضّح أهمية الاعتراف في أسرع وقتٍ ممكن، بأنّ مسائل الأمن الإفريقية ستجثم أكثر فأكثر على أمن الأراضي الأمريكية.

يشدد جونز، على أن القارة الأمريكية تشهد عدم استقرارٍ سياسي داخلي المنشأ، تفاقمه المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، الناتجة بدورها عن عوامل متعددة منها: معدل الولادات المرتفع، المسائل الزراعية والمشكلات البيئية، التنقل الكثيف للسكان والأوبئة.. تغذي هذه العوامل كلها الإرهاب وانعدام الأمن.

بعد التذكير بأنّ «مكافحة الإرهاب» هي: الشعار العريض لوجود منظمة الـ«أفريكوم»، إثر أحداث الحادي عشر من أيلول، وبعد تقديم التفويض الأمريكي الذي منح للأفريكوم، سنتطرق إلى نشاطاته في إطار TSCTI وAPS وتسلسله الهرمي. أخيراً سنرى، أنّ تأسيس هذه القيادة، خلال العقد الماضي يمثّل تحدياً للأمريكيين، مثلما يمثّل خط انكسار بالنسبة لأمم القارة. هنالك عامل مفاقم، هو أنّ فاعلين جدداً قد سبقوا تجدد المباحثات المباشرة مع الأوروبيين الذين أصبحوا خلف حليفهم الأمريكي، وأصبح «النسر الأمريكي» يجد نفسه في صراع مباشر مع القطب الصاعد.

مكافحة الإرهاب

بعد استغلال الولايات المتحدة لمختلف الأزمات الإنسانية، والأوضاع السياسية الخطيرة في (الصومال، ليبريا، سيراليون، السودان)، قررت تبني «إجراءاتٍ وقائية»، سواء في شمالي إفريقيا أو في إفريقيا الغربية والقرن الإفريقي، حيث يمكن للدول كلّها أن تُستخدم كملاذاتٍ مختارة لـ«المجرمين والإرهابيين القادمين من أفغانستان والشرق المتوسط».

منذ العام 2004، أكّد خبراء أمريكيون: بأنّ إفريقيا، بـ«مناطقها الرمادية»، تتحول إلى قاعدة خلفية للإرهاب. في إطار مبادرة بلدان الساحل (التي تغير اسمها إلى برنامج مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، أو TSCTI، بميزانيةٍ بلغت 500 مليون دولار لخمس سنوات)، تقدّم واشنطن التدريب والتجهيزات لبلدانٍ، كان عددها أربعة في البداية (مالي، موريتانيا، تشاد والنيجر)، ثمّ وسّعت هذا الترتيب ليشمل بلدان المغرب العربي الثلاثة، مشجعةً على التعاون المشترك فيما بينها مثلما في مناورة لوك 2005.

وفي ما وراء الساحل، تقاربت الولايات المتحدة مع أكبر منتجي النفط في إفريقيا الغربية وخليج غينيا، وهما: العملاقان، النيجر وأنغولا، وكذلك ساو توميه وبرنسيب (STP). وبعد تاريخ الحادي عشر من أيلول المفصلي، أولت واشنطن أهميةً استراتيجية للقرن الإفريقي (HOA)، الواقع على الطرف الغربي لـ«قوس عدم الاستقرار» الذي يضم الموارد الاستراتيجية التي تتنافس عليها الولايات المتحدة مع باقي دول العالم.

وعلى هذا النحو كانت إفريقيا، مرشحة لتتحول إلى «ساحة المعركة التالية ضد الإرهاب». حيث نَوَت واشنطن «إشاعة النظام» في «المناطق الخضراء»، تلك «المناطق التي تفلت إلى هذا الحد أو ذاك من سيطرة الدولة». من وجهة نظر واشنطن، يعتبر الساحل والقرن الإفريقي «ساحة المعركة الجديدة»، حيث أدت إجراءات «مكافحة الإرهاب» التي جرى تطبيقها أمريكياً منذ العام 2000 إلى تطورٍ في الوضع، تجلى في إضعافٍ واضح للدول وللبنى التحتية فيها، مستفيدة من المتطرفين وللمجموعات الإرهابية الجديدة: «الطالبان السود» في نيجريا، وجماعة «تبليغي» في إفريقيا الغربية، المتمركزة بصورةٍ خاصة في البلدان المنتجة للنفط.

وحدة القيادة

في العالم 2008، وللمرة الأولى، ينشئ الأمريكيون قيادةً موحدةً كبيرة لتنسيق عمليات الانتشار العسكرية والنشاطات المدنية الأمريكية المختلفة في القارة الإفريقية. سيجد البرنامج العسكري الأمريكي بؤرته الجغرافية في «أفريكوم». وكانت ثلاثٌ من أصل القيادات الخمس القتالية الموحدة الحالية تتضمن مناطق تتقاطع في إفريقيا، وكان هذا التقسيم الاصطناعي يتمفصل جغرافياً ووظيفياً: (جزء من إفريقيا يتبع لليوكوم Eucom قيادة أركانه في شتوتغارت، ألمانيا، وجزءٌ آخر يتبع للسنتكوم Centcom قيادة أركانه في تامبا، فلوريدا، والجزء الأخير يتبع للباكوم Pacom قيادة أركانه في هاواي).

ولخّص رايان هنري، نائب الوزير الأساسي لشؤون الدفاع، الأمر بقوله: «نحن نأخذ على عاتقنا مسؤولية منطقة القارة الإفريقية ونوكلها لقائدٍ جديد- المقصود أفريكوم- لن يهتم إلا بالمسائل الإفريقية 24 ساعة يومياً، 7 أيام في الأسبوع».

نشوء «أفريكوم»

بعد إعلان الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش، عن تأسيس القيادة الأمريكية الجديدة لإفريقيا «أفريكوم» في شباط 2007، أطلقت رسمياً في الأول من تشرين الثاني من العام نفسه. والهدف: جعل القيادة عملياتية بالكامل (FOC) في الأول من تشرين الأول 2008 كحدٍ أقصى. عبر إنشاء الولايات المتحدة لقيادة سادسة تشير تسميتها بوضوح إلى المنطقة الجغرافية المستهدفة، جعلت زيادة تواجدها في برّ «إفريقيا المفيدة» وعلى سواحلها، بل فيما ورائها، أمراً رسمياً، إن كانت هنالك ضرورة لذلك.

لكنّ المدى الجغرافي لهذا التواجد المتزايد وديمومته، ما يزالان مثار سجال. يمثّل «أفريكوم» بالنسبة لمناصريه، فرصةً لكلٍ من إفريقيا والولايات المتحدة، لتعزيز روابط التعاون المتواجدة أصلاً في المجال الأمني. كما أنّ تعريف «التهديدات» التي تمس أمن هذه البلدان يبقى غائماً.

كما أنّه جرى النظر لـ«أفريكوم» بوصفه أرضاً تجريبية يفترض فيها إتاحة اندماجٍ أفضل للنشاطات المدنية ـ العسكرية الأمريكية. وفي هذا السياق، كان يتساءل البعض: إن كان جدول أعمال «أفريكوم» مثيراً للشكوك، فيقولون: ألا تقع مسؤولية المسائل التي يفترض بـ«أفريكوم» معالجتها على عاتق مجلس الأمن الدولي؟ إلى أي حدٍ يتعدى «أفريكوم» على مجال عمل الأمم المتحدة؟ هل سيتعاون مع أعضاء آخرين في «المجتمع الدولي» (روسيا، الصين، فرنسا، الاتحاد الأوروبي...)، أم أنه على عكس ذلك سيعمل وحيداً وربما يدخل معهم في منافسة؟ هل ستتمكن الدول الإفريقية، أو يتوجب عليها مواصلة اللجوء إلى خدمات الشركات العسكرية الخاصة، في حال لم تنجح في جعل أداتها العسكرية احترافية؟

أياً كان الوضع، فإن لـ«أفريكوم» مثالبه. وهنا، يبرز الانشغال الآخر، أو بصورةٍ أدق، سبب الوجود الحقيقي لخلق هذه القيادة الجغرافية الجديدة: الرهانات الاقتصادية، ولاسيما تلك المتعلقة بالطاقة.

اليوم، وبعد انقضاء حوالي العقد على إنشاء «أفريكوم»، يتبين جلياً استنتاجان مهمان، أولاً: فشل الرهانات الأمريكية، منذ عهد بوش إلى عهد أوباما، في سلب القارة الإفريقية، والاستفراد فيها إلى الأبد. حيث أن اللبنة الأساسية للوجود الأمريكي في إفريقيا، والمتمثلة في منظمة «أفريكوم» قد تضعضعت بشكل لا لبس فيه. وثانياً: إن هناك فرصة حقيقية اليوم أمام دول القارة الإفريقية، بقواها السياسية، لمواصلة العمل على إنشاء المنظمات التنسيقية السيادية، التي تجري اليوم في عملية مركبة للاستفادة من واقع التوازنات الدولية الجديدة، مما يشكل حبل خلاص للقارة التي جثمت على صدرها أنياب القوى الاستعمارية ردحاً طويلاً من الزمن.

 

آخر تعديل على الجمعة, 05 تموز/يوليو 2019 19:46