راهنية تشى غيفارا وأوضاع الشعوب العربية - 3
مسعد عربيد مسعد عربيد

راهنية تشى غيفارا وأوضاع الشعوب العربية - 3

ناقشت في الجزء الأول من هذه الدراسة راهنية تشى غيفارا في عالم اليوم وعرضت تصورًا لمدخل منهجي في دراسة فكره وإرثه. وفي الجزء الثاني حاولت رسم السمات والركائز العامة التي تميّز به كمفكر ثوري وأممي، وفي حلقة اليوم أستكمل عرض هذه السمات والركائز.

14) إيثار الغير على النفس: كان غيفارا في فكره وممارسته رمزًا وتجسيدًا لأفكار وقيم وقدوة إيثار الغير على النفس وهي صفة نادرة تتضمن أفكارًا وقيمًا عسيرة التطبيق ولا يقوى عليها كثيرون، وتحتاج، من أجل تعلّمها وتطبيقها في الحياة الفردية والاجتماعية، إلى ارتقاء في الوعي والتزام بالإنسانية وهو ما يتطلب تحوّلات عميقة وطويلة الأمد في العلاقات الإنتاجية والاجتماعية.[1] من الأمثلة على هذه الصفة الثورية النادرة لدى غيفارا نسوق واقعة استشهاده. فقد استشهد غيفارا بعد إصابته بجروح بليغة ونفاذ ذحيرته وتعطل بندقيته في أرض جرداء خالية من الأشجار مما سهل اكتشافه ومجموعة من رفاقه والقضاء عليهم ووقوعه في الأسر، واغتياله في اليوم التالي، بأمر من وكالة الاستخبارات الأمريكية وتواجد عملائها في تلك اللحظة، في مدرسة ريفية متواضعة في نفس المنطقة. ويذكر العالمون بهذه الحادثة أن غيفارا عندما أدرك خطورة حالته، وفي التفاتة إيثارية مثلى أعطى مسدسه لأحد رفاقه السالمين وأمره بالخروج من الطوق وهكذا فعل.

 15) الموت المبكر: على الرغم من أن موت تشى غيفارا المبكر اختزل حياته ونضوجه الثوري والماركسي وحال دون المزيد من عطائه، إلاّ أنه استطاع عبر حياته القصيرة أن يقدم مفاهيم ماركسية تُعتبر من أكبر المساهمات في الفكر الثوري في القرن العشرين.

 16) نقد الماركسية السوفيتية: لقد أضفتُ هذه السمة وإعتبرتها من السمات الرئيسية لفكر تشى غيفارا ومساهماته في الماركسية لعدة أسباب:

 أ) لقد جاء هذا النقد مبكرًا ونافذًا في الرؤية وفي توقع ما لم يكن آنذاك على بال الكثيرين: إنهيار نمط الإنتاج السوفييتي والدولة السوفيتية وتجربتها الاشتراكية. ولم تأت هذه الرؤية مبكرة فقط في السياق التاريخي للدولة السوفيتية وتعاظم قوتها الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية[2]، أو سياق العلاقات السوفيتية – الكوبية، بل، ولعله الأهم، جاءت مبكرة في مرحلة التحول الاشتراكي في كوبا وبحث هذا البلد عن سبل التنمية. ففي خضم "الجدل الكبير" El Gran Debate الذي احتدم في كوبا في سياق البحث عن سبل التحول الاشتراكي وبناء الاشتراكية، تلمس غيفارا مخاطر محاكاة النمط السوفييتي[3]، وعبّر علنًا عن معارضته لتطبيق هذا النمط في كوبا وعن قلقه وتنبؤه بفشله.

 ب) أما الاعتبار الأهم فيأخذ بنا إلى الصورة الأشمل، وهو أن غيفارا، في نقده للنمط السوفييتي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبناء المجتمع الاشتراكي والشيوعي[4]، تجاوز النقد الاقتصادي إلى فضاء التنمية الاجتماعية والإنسانية لكوبا وللإنسانية جمعاء. وبهذا المعنى، كان هذا النقد ضرورة للتأسيس للمجتمع والقيم والأخلاقية الاشتراكية؛ بعبارة أخرى كان ضرورة لخلق "الإنسان الجديد" والسعي نحو شيوعية جديدة ومختلفة إضافة إلى أخلاقية شيوعية جديدة، إذ رأى غيفار أنه سيتعذر خلق هذا الإنسان ضمن البنى والمفاهيم والعلاقات الإنتاجية والطبقية السائدة في ظل النمط السوفيتي.

 خلاصة القول أن غيفارا رأى الطريق إلى "الإنسان الجديد" والمجتمع الجديد من خلال شيوعية جديدة ومختلفة لا تتأسس على أرضية النمط السوفييتي ومحاكاته في كوبا أو في أي مكانٍ آخر.

ج) كان غيفارا يرفض الدوغما في الماركسية كما في السياسة والمجتمع، وقد وقف ضد النظريات المتجمدة والميول البيروقراطية، وحرص أن يظلّ خارجها في ممارسة مسؤولياته الحكومة والحزبية. كما أنه أصرّ بعناد على أن سبل التنمية والنهوض بالمجتمع والبحث عن الحلول لمشاكله يجب أن تنطلق أساسًا من واقعه وخصوصياته وأن يلبي احتياجات شعبه، لا أن يحاكي نظامًا آخرًا وُلد في سياقٍ آخر. كان غيفارا ينظر إلى الماركسية ككائن حي في سيرورة مستمرة وحثيثة نحو التطور والتقدم والانعتاق من الظلم والاستغلال، لذا رفض أن يعتبرها دوغما ستاتيكية أو عقيدة متحجرة، كما رفض أن يتوقع منها أو أن يطالبها بتقديم الحلول لكل المشاكل في المجتمع والفكر. فحراك المجتمع، كما رآه، في دينامية مستمرة ويتمخض دومًا عن مشاكل وتحديات جديدة لم تواجهها البشرية من قبل، وهذه بدورها تستدعي حلولًا جديدة ومختلفة.

 15) غيفارا وخصوصية أميركا اللاتينية: عندما تعجز أبواق الإمبريالية عن الإقرار بالتأثيرات الأممية لأفكار وقدوة تشى غيفارا، نراها تلوذ بأميركا اللاتينية وتدّعي بأن تأثيراته بقيت محصورة في تلك القارة، وأنها كانت دومًا سلبية ومدمرة لاقتصادات تلك البلدان، وهي ادّعاءات بعيدة عن الحقيقة. ولعل مبعث هذه الادعاءات يكمن في أن الإمبريالية قلقة جدًا من تأثيرات غيفارا على مجمل الأوضاع والتطورات في أميركا اللاتينية، ولذا لم تستطع أن تخفي هذا القلق.

 نعم، لقد كانت أميركا اللاتينية البيئة الطبيعية والموقع الرئيسي لفعل غيفارا وإرثه وتأثيراته الفكرية والثورية، ولا شك أن محاربة الظلم وتحقيق العدالة الاجتماعية في تلك القارة كانت القضية المركزية في فكر غيفارا ونضاله – وهو ما يؤكد خصوصية أميركا اللاتينية في فكره واستراتيجيته النضالية - إلا أن هذا لا ينفي أن تكون أفكار غيفارا وتأثيراته قد عمّت الكرة الأرضية ووصلت قلوب وعقول كافة الشعوب المظلومة.

 في هذا المقام، يجدر بنا أن نَذْكر بعضًا من تأثيرات إرث تشى غيفارا وصدى أفكاره في أميركا اللاتينية ودورها في نهوض حركات ثورية عديدة في تلك القارة، عبر العقود التي تلت استشهاده، ناهيك عن أن أفكاره لا تزال حاضرة بقوة في صفوف القوى الاجتماعية والسياسية في أميركا اللاتينية والحركات الساعية إلى المشروع الاشتراكي، وفي مخططات التكامل القائمة مثل ألباALBA (البديل البوليفاري لأميركا اللاتينية والكاريبي)، الذي يقوم على أساس التعاضد والتكامل ومحاولات توحيد بلدان أميركا الجنوبية والتنسيق بينها (مشروع وحدة اميركا الجنوبية UNASUR) وصولًا إلى تأسيس "منظومة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي CELAC" التي تضم كافة بلدان القارة وتستثني الولايات المتحدة الأميريكية وكندا من عضويتها، كبديل عن "منظمة الدول الأميركية" رديفة جامعة الدول العربية سيئة الصيت. ومن بين هذه التطورات وصول قوى يسارية إلى السلطة من خلال الانتخابات والصراعات المسلحة في العديد من بلدان تلك القارة، وانتخاب زعماء سياسيين معروفين بميولهم لأفكار تشى غيفارا ودعمهم لها. نذكر على سبيل المثال أوغو تشافير (فنزويلا)، سلفادرو أييندى (تشيلى)، إيفو موراليس (بوليفيا) ورفائيل كورييا (الإكوادور). وليس المقصود هنا، أن كل هؤلاء الزعماء ماركسيون أو ثوريون، ولكن يمكننا الجزم بأن المشترك الذي يجمع بينهم هو القناعة الراسخة بالنضال من أجل مصالح شعوبهم وتنميتها والقضاء على الفقر والجوع والتخلف، والتمسك بسيادة بلادهم ورفض محاولات الإخضاع والهيمنة الإمبريالية الأميركية والتي كانت حتى ماضٍ قريب الأمر المعتاد والمألوف بل والمقبول في تلك القارة. كما أننا لا نقصد أن الإمبريالية الأميركية وسياساتها الإمبراطورية التي تسلطت على تلك القارة لقرنين من الزمن، قد أصبحت "أكثر تفهمًا" لمصالح تلك الشعوب أو أنها تصالحت معها، أو أن نضال هذه الشعوب قد أصبح سهلًا أو أكثر سهولة، بل على العكس من ذلك فإن نضال هذه الشعوب في سبيل التغيير الثوري يزداد صعوبة وتعقيدًا، إذ أنها أدركت أن عدوها لا يتمثل في الإمبريالية الأميركية وحدها، بل في العملاء المحليين والأوليغاركيات الحاكمة. إلا أنه من المؤكد، أن شعوب القارة اللاتينية، تمامًا كما حالة شعوبنا في بعض البلدان العربية، لم تعد تقبل بحكام مثل بينوشه في تشيلى أو حسني مبارك ومحمد مرسي في مصر.

 في الجزء القادم ننتقل الى مناقشة أهم التحديات التي يواجهها فكر غيفارا اليوم.

نشرة كنعان الالكترونية