الفضائيات وتشويش العقول
آمال موسى آمال موسى

الفضائيات وتشويش العقول

مهما حاولنا التقليص من تأثير وسائل الإعلام اليوم وخاصة منها القنوات التلفزيونية في كيفية بناء الأفراد لتصوراتهم وفهمهم للأشياء والظواهر والعالم، فإن الواقع يحبط محاولتنا، ويؤكد لنا أن وسائل الإعلام تؤدي اليوم وظائف أساسية في التنشئة الفكريّة الرمزيّة لمجتمعاتنا.

طبعاً المشكلة ليست في التأثير في حدّ ذاته، بل إن الخطاب الإعلامي السمعي البصري في معظم بلادنا تشوبه على مستوى اللغة المستعملة مشكلات عدّة تزيد من حدة ما نعانيه من مظاهر تأزم فكري وثقافي. أي أن هذا الخطاب الإعلامي يفتقد إلى الوعي بأهمية دوره الوظيفي في تأمين التنمية الذهنية الرمزية للأفراد.
وكي لا يكون كلامنا عاماً سنتوقف في هذا المقال عند مظهرين خطيرين في لغة الخطاب الإعلامي العربي، ونقصد أولاً ظاهرة اعتماد لغة ذات تواصلية محدودة مع العلم والمعرفة: لغة غير عالمة وغير عارفة، وثانياً ظاهرة هيمنة الصراع الآيديولوجي بين النخب على لغة الخطاب الإعلامي الذي تحول إلى فضاء للتجاذب.
هناك شبه إجماع اليوم على أن الخلافات والتوترات والصراعات إنما هي نتاج معارك ثقافية قيمية بالأساس. وكل فاعل في الجدل والخلاف الثقافيين يسعى إلى فرض ثقافته ورؤيته للعالم ومشروعه للتغيير الاجتماعي. واللغة هي في الوقت نفسه حاملة لهذه المشاريع والقيم وأيضاً مرآة عاكسة لكيفية انتظام تفكير أصحابها.
هناك اليوم معجم مفاهيمي معين يتسم بكثافة تواتر مفاهيمه في الخطاب الإعلامي. وهذه الكثافة عرفت تزايداً كمياً من ناحية الاستعمال. وهي مفاهيم أصبحت مركزية في الخطاب السياسي والثقافي وأيضاً الإعلامي باعتباره ناقلاً للخطابين المشار إليهما وأيضاً معيداً لإنتاجهما. من هذه المفاهيم نذكر مفاهيم الحداثة والعلمانية واللائكية والعقلانية والسلفية والجهادية والعنف والإرهاب والمدنية والمواطنة والإسلام السياسي... وكما نلحظ هي مفاهيم من مرجعيات مختلفة، وتنتمي إلى سياقات فكرية وحضارية ودينية وثقافية مختلفة، وتمثل جوهر الصراع القيمي الثقافي ليس في البلدان العربية فقط بل في العالم أيضاً.
غير أن الملاحظ أن لغة الخطاب الإعلامي في وسائل الإعلام بشكل عام، والسمعي البصري بشكل خاص، تتسم بنوع من الفقر المعرفي، وتتطاول على مفاهيم دقيقة ومحورية ومتشعبة المعاني، وتستعملها استعمالاً غير دقيق وغير مراقب معرفياً. بل كثيراً ما تنقل لغة الخطاب أو كلامه سوء فهم للمفاهيم المشار إليها ولغيرها، وأيضاً هناك عدم تعمق وضعف استيعاب وعدم بذل لجهد معرفي، وهو ما تكشف عنه التعليقات والأسئلة المصوغة.
كثيراً ما يتم إنتاج لغة فقيرة معرفياً في لحظة صراع ثقافي قيمي بامتياز. وكما نعلم فالمفاهيم تضيء درب الفكرة والتفكير، وهنا نتساءل إلى أي مدى يمكن للغة تستعمل عشوائياً ودون دقة وصرامة معرفية مفاهيم مركزية في الخطاب الاجتماعي العام يمكن أن تكون لغة مساعدة في العقلنة أو تعبيراً عن العقلنة. نعتقد أنه عندما تكون لغة الخطاب الإعلامي ضعيفة الصلة بالمعرفة والفكر فإن لغة الخطاب تكون لا فقط ضعيفة بل ستقوم بوظيفة التنشئة المعرفية بشكل منحرف، وستكون هذه اللغة ناقلة للضبابية والتشويش الدلالي ومنتجة لسوء الأفهام.
المظهر الثاني لمشكلات اللغة الموظفة في الخطاب الإعلامي الراهن يتمثل في تحول اللغة إلى أداة صراع آيديولوجي بدل الانقلاب على الوهمي والآيديولوجي، بقدر ما تراجع تأثير الآيديولوجيا في المجتمعات الأوروبية بشكل عام وإعلان موتها بقدر ما عرفت الآيديولوجيا انتعاشة بعد حدوث ما يسمى الثورات العربية. الآيديولوجيا حضرت في سياق استراتيجيات البحث عن الاعتراف والدفاع عن الذات أمام الخصم الآخر. لذلك فالآيديولوجي يتلبس إلى حد كبير بالخطاب الإعلامي ويتحكم في مضامينه ولغته.
ولمّا كانت الآيديولوجيا مظهراً صراعياً في معظم المجتمعات العربية بين نخب علمانية تحديثية وأخرى إسلامية خصوصاً بعد إعلان الإسلام السياسي المشاركة في الحكم في أكثر من بلد عربي، فإن اللغة في الخطاب الإعلامي طبعت بالتغييرات الحاصلة، وأصبحت ذات محمول آيديولوجي. لذلك فهي لغة ذات بعد مؤدلج ومحكومة بالميولات الآيديولوجية لمستعمليها. وإذا ما ربطنا الآيديولوجيا بما هو فوق الواقعي وما تقوم عليه من أحادية النظرة ومن عنف في الاعتقاد، فإننا نستنتج آلياً غياب الجانب الموضوعي أحد شروط العقلنة والعقلانية والخطاب المنخرط في مسار العقلنة ومشروعها غير المحدود في الزمن وفي تراكم معالجة اللاعقلاني. ومن ثم فإن اللغة المهيمنة على ذلك الخطاب الإعلامي تفتقر إلى الحياد والنسبية باعتبار كونها لغة تمثل أداة في الصراع الآيديولوجي. لذلك كثيراً وفي إطار ضرورات الصراع الآيديولوجي مع الخصم أو الخصوم ما يتم تعنيف المقام التداولي للمفهوم المستعمل في الخطاب الإعلامي وسياقه داخل الجملة الذي ورد فيه. فنلحظ تعنيف المفاهيم وأحياناً نزعهاً من سياق تداولها في تركيب الجملة الأصل. بمعنى آخر تغليب التوظيف الآيديولوجي لمفاهيم معينة على سياق المعنى داخل خطاب الخصم الآيديولوجي.
كما أن المعروف أن الموضوعية تقتضي نقل المقولات والتصريحات كما هي بشكل يكتمل فيه المعنى، لأن في إخراج بعض الكلمات والمفاهيم من سياقها تحريفاً لها وانحرافاً بها عن المعنى العام والخاص. فاللغة المؤدلجة هي عامل غير مساعد في مسار العقلنة لما يعتريها من دوغمائية حتى لو كانت الآيديولوجيا المعتمدة في القنوات التلفزيونية «ناعمة»، وتعتمد أسلوب الجرعات كما وصف ذلك عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، الذي لم يتوان عن وصف التلفزيون بكونه «آلة غسل دماغ جماعي لشعوب الأرض».
نحتاج إلى لغة إعلامية تساعد على تنمية العقليات، وتجعل طريقة التفكير لدى الإنسان العربي تنتظم عقلانياً.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني

 
آخر تعديل على الخميس, 16 أيار 2019 23:00