السياسة والاقتصاد وما بينهما
يسار ناصر يسار ناصر

السياسة والاقتصاد وما بينهما

حُكي الكثير عن الترابط العضوي بين السياسة والاقتصاد، وصيغ العديد من النظريات الاقتصادية حول أهمية السياسة في تحديد (أو تخريب) الأهداف الاقتصادية لأي بلد أو منطقة. أهم هذه النظريات هي التي تحدد عكساً الاقتصاد كأولية تفرض السياسات وتحدد العلاقات الدولية (وتركيباتها السياسية) كنتيجة مباشرة للأهداف الاقتصادية للبلدان.

العديد من المفكرين يربطون الحروب العالمية بالحاجة إلى توسيع الأسواق الاستهلاكية والسيطرة على الموارد، أكثر منها كهدف سياسي لتغيير النظم الحاكمة أو تصدير الأفكار السياسية. حتى أن البعض يرى إلى الحروب الباردة كترجمة فعلية للصراع الاقتصادي ومحاولة إقفال أسواق محددة بوجه قوى أخرى.

ما أهمية هذه النظريات في حال عالمنا الحالي؟ وهل يمكن قراءة المستقبل السياسي لمنطقتنا عبر مراجعة الأهداف الاقتصادية المقبلة؟

العديد من مراكز الأبحاث العالمية تُعنى بنشر دراسات علمية واقتصادية محاولة من خلالها أن تستشرف المستقبل الاقتصادي عبر مراجعة الوقائع السائدة في عدد من البلدان والمناطق وتوقعات الأحجام الاقتصادية ودرجات النمو.

إذا قرأنا أحد هذه الأبحاث المنشورة من قبل أحد المراكز البريطانية (CEBR)، الذي يحاول أن يتوقع، عبر الدلائل، ما هي أكبر الاقتصاديات العالمية العام 2028. فإن أول ما يثير الاهتمام أن الصين ستصبح أكبر اقتصاد في العالم متخطية الولايات المتحدة. ونرى التراجع الكبير لفرنسا وإيطاليا ودول أوروبية أخرى. في منطقتنا فإن مصر والعراق ستنضمان إلى لائحة أكبر ثلاثين اقتصادا عالميا (مع وجود دائم للسعودية كأكبر مصدر للنفط الخام) وستخرج الإمارات العربية من الترتيب (بالرغم من استضافتها Expo 2020). بينما يرى البحث أن ضغط العقوبات على إيران لن يدعها قادرة على البقاء ضمن اللائحة.

إذا راجعنا بحثاً آخر وضعه مصرف HSBC للعام 2050 نرى أن مصر ستتخطى السعودية مع وجود قوي لإيران ضمن لائحة أكبر اقتصادات العالم، بالرغم من العقوبات الاقتصادية الحالية.

أما وضع قطر فبرغم كونها أحد أهم مصدري الغاز الطبيعي وستستضيف فعاليات عالمية كبرى ككأس العالم فإن العديد من المراقبين يرون أنها قد تعاني من أخطار التضخم المالي وتحدي إكمال مشاريعها الكبرى، ولكن كل هذا لا يؤهلها للائحة الاقتصادات الكبرى عالمياً.

إذا انتقلنا من قراءة الأرقام الاقتصادية لمحاولة فهم أهميتها من الناحية السياسية، مع تحليل وتشريح للواقع العالمي وإسقاطاته العديدة في عالمنا، فماذا نرى؟

أولاً: إذا أرادت الولايات المتحدة أن تحافظ على مركزها الريادي في العالم، فليس لها من بديل غير مواجهة الصين عن قرب، وليس عن بعد، كما جرت العادة حتى الآن. هذه المواجهة بشرت بها مجلة Foreign Affairs منذ العام 2009، حتى أن الكاتبين ناتان وسكوبل قد نقلا في العام 2012 عن الصين انها ترى أن الولايات المتحدة مصممة على إعاقة بروزها الكبير. إذا اقتربنا من الحلبة الجيوسياسية أكثر نرى أن بحر الصين أصبح حداً إقليمياً مهماً للولايات المتحدة والصين التي وضعت حاملة طائرات عاملة (هي الأولى لها) وأصبحت متشددة تجاه حدودها الإقليمية بحراً وجواً حتى مع دول كبرى أخرى كاليابان.

الاقتصاد هنا يحضر المسرح لمواجهة أميركية صينية في الجغرافيا الآسيوية، ومن هنا تفهم تراجع أهمية منطقتنا في الأجندة السياسية الأميركية، حيث إن أميركا تحاول أن تخرج من هموم العالم العربي والإسلامي وتسلم بأهمية دول عادتهما طويلاً كإيران وروسيا، مع محاولة لاحتواء وتقليم أظافرهما لمصلحة أمن إسرائيل والنفط (بالرغم من تراجع أهميتهما الاستراتيجية المباشرة لها) مع الامل أن لا تصبح هذه المواجهة حلبة عسكرية كبرى وتبقى كما هي باردة بالرغم من حماوة السباق الاقتصادي.

ثانياً: تراجع الدول الأوروبية في المجال الاقتصادي يجعلها ترى أن إمكانية عكس هذا المجرى مفتوح في المدى السياسي فقط. فعليها أن تجد أسواقاً جديدة ومصادر طاقة (بشرية استهلاكية وإنتاجية) لتصنع اقتصاداً نابضاً بالحياة وقدرة متجددة على النمو.

ولكن أين لها أن تجد أسواقاً كهذه؟ أفريقيا هي الهدف الأول لفرنسا كقوة استعمارية سابقة، بينما تبرز ليبيا التي تمثل الشيء نفسه لإيطاليا. مع أخذ بعين الاعتبار أن لهذين البلدين نظرة أمل إلى عالمنا العربي حيث إن فرنسا حكمت فيه سنوات طويلة بينما إيطاليا تحاول أن تجد موطئ قدم تعيد مجد علاقات جبل لبنان مع توسكانا.

هل لهذين القوتين أية فرصة لتطبيق استراتيجية النمو الاقتصادي عبر السياسة؟ حتى الآن نرى حدوداً ضيقة في التطبيق، ففرنسا تحاول بناء وجود قوى في الخليج (علاقات مميزة مع الإمارات وعلاقة تجارية مستحدثة مع السعودية) وتحارب في أفريقيا لمواجهة السيطرة الصينية المستجدة في القارة السمراء. وحتى أدوار فرنسا في سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة، يمكن قراءتها من هذه الزاوية. فهي تحاول وتناور لقطف دور سياسي، بينما الهدف هو بناء قاعدة اقتصادية جديدة تسمح بالنمو عكس توقعات مراكز الأبحاث. أما إيطاليا فتحاول أن تكون شريكاً جديداً لإيران (نقرأ محاولة نتنياهو أن يثني إيطاليا من أن ترفع عقوباتها عن ايران من هذا المنظار) لقطف مبكر لنتائج رفع العقوبات ومنافسة الشريك الأوروبي الأكبر (ألمانيا) في هذه السوق الكبرى. أما في ليبيا، فإن الفوضى السياسية لم تسمح لإيطاليا بأن تلعب الدور الذي ترغب بلعبه هناك.

علينا الانتظار لمعرفة مقدار نجاح أو فشل هذه البلاد في تقديم أهميتها الاقتصادية بغلاف سياسي.

ثالثاً: أما عالمنا العربي والإسلامي فهو في الوقت نفسه يمثل لاعبين وساحات لعب حيث السياسة والاقتصاد يأكلان من الطبق نفسه مع محاولات حثيثة للبعض أن يقلد القوى الكبرى ويفرض سيطرة سياسية على البعض الآخر لمصلحة اقتصادية قابلة للتصريف مستقبلاً (في حال النجاح بالإبقاء على سياساتها الحالية سائدة) فمثلاً تركيا، حاولت وتحاول أن تعيد مجد وقدرات السلطنة العثمانية عبر سيطرة اقتصادية وسياسية كاملة على البلدان السوفياتية السابقة الناطقة باللغة التركية، ولاحقاً عبر التوسع (التورط) بالحرب السورية لجعلها مدخلاً لحلم السلطنة الجديد. فالبرغم من أن لتركيا مركزاً محفوظاً في لوائح العامين 2028 و 2050 لأكبر الاقتصاديات، فإنها تحاول أن تنمو بسرعة أكبر علها تصبح حاجة اقتصادية كبرى في حال الشراكة مع أوروبا، أو مركز الشرق الجديد في الحال الأخرى. ولكن الفشل الكبير للسياسة التركية في سوريا قد ارتد سلباً على الاقتصاد التركي الذي يواجه أياماً صعبة.

يبقى أن نقرأ الأرقام التي ذكرناها عن مصر والعراق وإيران والخليج ونفهم مدى تأثيرها على السياسة الداخلية والخارجية لهذه البلدان؛ وكيف ترى بعض هذه البلدان المنافسة الاقتصادية القادمة ومدى تأثيرها على سياستها الإقليمية.

ما أهمية النظريات صاحبة سيطرة الصراع الاقتصادي في عالمنا الحالي؟ وهل يمكن قراءة المستقبل السياسي لمنطقتنا عبر مراجعة الأهداف الاقتصادية المقبلة؟

 

المصدر: السفير