ماذا بعد بن شالوم برنانكي؟
د. زياد حافظ د. زياد حافظ

ماذا بعد بن شالوم برنانكي؟

وافق مجلس الشيوخ الأميركي على تعيين جانت يلين كرئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي الأميركي أي الحاكمة للمصرف المركزي الأميركي. وعند كتابة هذه السطور أعلن البيت الأبيض ترشيح ستانلي فيشر نائبا للمجلس الاحتياطي الاتحادي. ماذا يعني ذلك؟ إن خروج بن شالوم برنانكي، الرئيس الحالي حتى آخر كانون الثاني، بعد تربّعه على عرش مجلس الاحتياط الاتحادي لمدة ثماني سنوات لا يعني نبذ سياسات نقدية جديدة بل المجيء بوجه جديد يستطيع أن يسوّق بفعّالية أكثر لسياسات قائمة تخضع لانتقادات واسعة ومحقة. لكن النخب الحاكمة ليست بوارد تغيير المسار القائم طالما ليس هناك من مسائلة ومحاسبة جدّية من قبل الكونغرس الخاضع لسيطرة اللوبيات المختلفة.

الملفت للنظر هو أن من يقود السياسة النقدية الأميركية من ملّة واحدة منذ الوني غرينسبان وبن شالوم برنانكي ووصولا إلى جانت يلين وستانلي فيشر حاكم البنك المركزي الإسرائيلي! نعم، وهو يحمل الجنسية الأميركية والإسرائيلية. من المفارقة الغريبة أن يصدر عن الرئيس الأميركي تقريظا عن كفاءات فيشر وخبرته كحاكم المصرف المركزي الإسرائيلي ليتولّى منصب نائب الرئيس لمجلس الاحتياطي الاتحادي. والمقصود هنا الانتماء العقائدي في الاقتصاد الذي يؤمن ب "قوّامة" المال على الاقتصاد. كما أنها تحبّذ السياسات النيوليبرالية التي تعتبر أنه بإمكان إنتاج الثروة من لا شيء والسياسات المالية التي لا تخدم بالضرورة الاقتصاد الفعلي بل المؤسسات المالية المنكّبة على إنتاج الثروات الافتراضية الريعية عبر المضاربات المالية والسمسرة والصفقات. وهذا التوجه له وجهان. الوجه الأول عقائدي هو تسخير الدولة لمصلحة القلّة وتفكيك دورها في إعادة التوازن إلى مكوّنات المجتمع التي اختلّت بسبب الفجوات المتفاقمة بينها. أما الوجه الثاني فهو سيطرة فئة محدّدة من النخب على مقدّرات الدولة ومفاصل القرار عبر التمويل الهائل التي تمكّنه تلك السياسات وتمركز الثروة والسلطة بيدها. بعض الخبثاء يعتبرون أن تلك السياسات سوف تدمّر الدولة ومعها المجتمع الأميركي أو على الأقل جعلها لقمة سهلة الابتلاع لمن يملك المال!

وعلى ما يبدو فإن سياسات بنك الاحتياط الاتحادي ستستمر مع جانت يلين وخاصة في استمرار طبع النقد من جهة وبيع سندات الخزينة من جهة أخرى لتمويل المؤسسات المالية وللجم التضخم في آن واحد. فطباعة النقود تعني ازدياد الدين العام لأن النقد المتداول هو في الأساس دين على المصرف المركزي شراء سندات الخزينة تساهم في زيادة السيولة. أما شراء السندات فتساهم في تخفيف السيولة المتداولة أي بمعنى آخر يقوم المصرف المركزي بعمليتين متناقضتين في آن واحد لتحقيق أهداف مختلفة في النوع والزمان. فتمويل المؤسسات المالية حاجة فورية بينما تخفيف السيولة للتخفيف الضغط التضخّمي حاجة آجلة نوعا ما. لسنا هنا في إطار مناقشة "حكمة" تلك السياسات المتناقضة بل التركيز على أن السياسات القائمة والتي ستستمر مع يلين تكرّس النموذج الاقتصادي المعمول به والذي وصل إلى طريق مسدود حيث البطالة ما زالت متفشية رغم التلاعب بأرقام البطالة وحيث النمو ما زال بطيئا في معظم القطاعات الإنتاجية باستثناء البورصة التي شهدت نموا قياسيا عام 2013 حيث ارتفعت أسعار الأسهم بنسبة 27 بالمائة.

إن النخب المسيطرة على المقدّرات المالية والاقتصادية في الولايات المتحدة ما زالت تراهن أن النمو يأتي من خلال السياسات النقدية التي تموّل نشاطات المؤسسات المالية المنكبّة على المضاربات المالية. وهي تحتاج أيضا إلى المزيد من التخفيف الرقابي. لم تقدم السلطات الرقابية خلال وبعد أزمة 2008 على مسائلة ومحاسبة المسؤولين في المؤسسات المالية ومؤسسات التصنيف الائتمان التي ساهمت في تضليل المستثمرين حول "صحة" الأوراق المالية التي تصدرها المؤسسات المالية وتبيعها في الأسواق وتراهن على انخفاض أسعارها في نفس الوقت بينما تؤكد للمستثمرين ارتفاعها وديمومة مردودها! 

السؤال الذي يطرح تلقائيا هو لماذا الإخفاق في المؤسسات الرقابية؟ هل هي صدفة أما سياسة متعمدة؟ الإجابة بالنسبة لنا هي أن نفوذ اللوبيات المالية داخل النظام الحاكم في أميركا يستطيع تقويض التشريعات الرقابية وتحويلها إلى تشريعات منزوعة المخالب. فكلفة الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة عام 2012 وصلت إلى 6 مليارات دولار موّلتها مختلف المجموعات الضغط أي اللوبيات الناشطة. فأي مسؤول أميركي من الرئيس إلى أصغر مسؤول منتخب مدين بوجوده للمال الذي جعل وصوله إلى المركز ممكنا. فكيف يمكن التصوّر أن الإدارة الأميركية ومعها الكونغرس يستطيعان إصدار تشريعات لا تخدم مصالح مموّلي الحملات الانتخابية؟ وتوجد دراسات عديدة تفيد بأن تخفيف شدّة الأنظمة الرقابية على المؤسسات المالية سياسة معتمدة منذ ولاية ريغان غير أن الذي ساهم بشكل فعّال في خلع مخالب تلك الأنظمة هو الرئيس الأسبق كلنتون الذي ما زال يحظى بتأييد واسع من قاعدة الحزب الديمقراطي!

الجدير بالذكر هو أن الاحتياط الاتحادي ضخّ مليارات من الدولارات في النظام المصرفي والمالي لتفعيل العجلة الاقتصادية وذلك منذ نهاية ولاية بوش الابن وبداية ولاية أوباما. غير أن النظام المصرفي والمؤسسات المالية لم تقم بتقديم القروض للمشاريع التي تخلق الوظائف وتدعم الاقتصاد الفعلي. فعلى ما يبدو كان هناك قرارا غير معلن لإفشال الولاية الأولى للرئيس أوباما وتقويض فرصه في الفوز بولاية ثانية. غير أن حساب الحقل اختلف عن حساب البيدر وفاز أوباما رغم الضغط الصهيوني وبعض الدول العربية التي راهنت بشكل معلن على المرشح الجمهوري ميت رومني. المهم هنا أن الحملة ما زالت مستمرة على الرئيس أوباما خاصة بعد إجهاضه لمشاريع حزب الحرب في الولايات المتحدة في ضرب كل من ايران وسورية وحتى لبنان وحزب الله. الحملة على أوباما طابعها داخلي ولكن يقينها خارجي حيث الجهات المموّلة لتلك الحملة هي نفسها التي موّلت المرشح الجمهوري. الهجوم اليوم مركّز على قانون الضمان الصحي المعروف ب "اوباما كير" ولكن رغم ذلك يستطيع الرئيس الأميركي تجاوزها بشكل فعّال قبل الانتخابات النصفية التي ستّجرى في تشرين الثاني 2014. هذا ما يمكن استشرافه من متابعة عدّة مواقع منها "النيو ريبابليك" ومواقع تابعة للحزب الديمقراطي. ما يساعد الرئيس الأميركي تضعضع الوضع داخل الحزب الجمهوري الذي ما زال يبحث عن شخصيات جذّابة تستطيع قيادة الحزب إلى الفوز عام 2016.

يفهم من ما سبق أنه لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة تتداخل القضايا الخارجية مع الملفّات الداخلية ولذلك يصبح مفتاح فهم التطوّرات في الملفّات الداخلية ما يحصل على الصعيد الخارجي كما أن فهم ما يحصل على الصعيد الخارجي يعود إلى الصراعات الداخلية سواء كانت بين الحزبين المتحكّمين بالحياة السياسية أو حتى داخل الحزب الواحد أو الإدارة.

عودة إلى قضية السياسات النقدية فإنه من المتوقع استمرار تلك السياسات إلى أن تقع كارثة مالية جديدة. استطاعت القيادات الأميركية تجاوز عقدة

"سقف الدين" التي هددّت بإفلاس الإدارة الأميركية في تشرين الأول 2013 إلاّ أن قضية تفاقم الدين العام ما زالت مشكلة جوهرية لا تستطيع النخب الحاكمة مقاربتها بشكل جدّي أو على الأحرى ليست لديها الجرأة على اتخاذ القرارات المؤلمة بتخفيض مستوى المعيشة والتراجع عن الطموحات الإمبراطورية ونفقات وزارة الدفاع. نلفت النظر أن وزارة الدفاع تلعب دورا رئيسيا في دفع عجلة الاقتصاد الأميركي. فهي التي تشجّع الجامعات الأميركية والشركات التصنيع وشركات التكنولوجيا المتطورة على القيام بأبحاث ساهمت في الحفاظ على ريادة الولايات المتحدة في الحقل التكنولوجي. كما أن هناك أكثر من خمس مائلة ألف مقاول يتعاملون مع وزارة الدفاع. فإذا اعتبرنا أن معدّل التوظيف في تلك الشركات بحدود المائة عامل فإن العاملين في تلك الشركات يصل عددهم إلى حوالي خمسين مليون عامل.

في هذا السياق التحوّلات التي حصلت في البنية الاقتصادية الأميركية من إعادة توطين الصناعات التقليدية خارج الولايات المتحدة والتركيز فقط على شركات المجمع العسكري الصناعي داخل الولايات المتحدة والسيطرة على التكنولوجيا هي ما تفسّر السياسات المالية والاقتصادية القائمة. النخب الحاكمة اعتبرت أن تفوّق الولايات المتحدة يكون في التسليح والسيطرة المالية والتكنولوجيا وخاصة تكنولوجيا المعلومات. أما ما يحصل في المكوّنات الأخرى للاقتصاد الفعلي الأميركي فهو ناتج عن ذلك التركيز وعدم الاكتراث بمشاكلها. طبعا، سيكون لتلك السياسات الاقتصادية تداعيات اجتماعية وخيمة وقد بدأت تظهر إلاّ أنها لم تصل إلى الحجم الذي يهدّد الوجود. فالقضية لم تعد مسألة إذا بل مسألة متى!

 

المصدر: التجديد العربي