الليبرالية الجديدة وصناعة الدول المثقلة بالديون
ميشيل شوسودوفسكي ميشيل شوسودوفسكي

الليبرالية الجديدة وصناعة الدول المثقلة بالديون

لا يخفى على أحد دور النهب والقمع الذي تلعبه مؤسسات دولية عدة، على رأسها البنك الدولي وصندوق النقد، ضد الدول التي وقعت في براثن الدَّين الاقتصادي. حول دور هذه المؤسسات في «انقلاب البرازيل» وفي غيرها من الدول، أجرت إذاعة «KPFA» حواراً مع الاقتصادي ميشيل شوسودوفسكي، ويمكن الاطلاع على ترجمته الكاملة على موقع قاسيون الإلكتروني.

إعداد وترجمة: جيهان الذياب

تطرح المادة الأخيرة الخاصة بك، «وول ستريت وراء الإطاحة بنظام الحكم في البرازيل» للنقاش، أن الهدف النهائي للانقلاب البرازيلي ضد ديلما روسيف هو السيطرة على الإصلاح الاقتصادي الكلي والسياسة النقدية. ما هو الدليل؟

الدليل هو: ما جاء لاحقاً. عندما شكل لويز ايناسيو دا سيلفا، الرئيس لولا، حكومته في عام 2003، عين الرئيس التنفيذي السابق لبنك وول ستريت، مصرف فليت بوسطن المالي والمصرفي العالمي، لرئاسة البنك المركزي البرازيلي. وكان ذلك مثل تعيين الثعلب مسؤولاً عن حظيرة الدجاج، إذا جاز التعبير. وما كان يزعج في ذلك هو أن التعيينات الرئيسية جميعها التي نفذتها حكومة حزب العمال التقدمي (PT) - وهي وزارة المالية، البنك المركزي، وبنك البرازيل، وهو بنك تنموي- تمت من قبل الليبراليين الجدد. في الواقع، قدَّم صندوق النقد الدولي الدعم لحكومة لولا دا سيلفا كما أنه هنأ حكومة لولا أيضاً على إجراءات التقشف، وما شابه.

هنريك دي كامبوس ميريليس، الذي كان رئيس البنك المركزي البرازيلي، وأيضاً الرئيس السابق لبنك فليت بوسطن المالي والمصرفي العالمي، قبل أن يرأس البنك المركزي البرازيلي، بقي في هذا المنصب حتى رئاسة ديلما روسيف، خلفاً للرئيس لولا. في الواقع، عينت ديلما روسيف مسؤولاً آخر بوزارة المالية لرئاسة البنك المركزي وأسقطت ميريليس من الحكومة.

الآن، هذه، من وجهة نظري، خطوة مهمة جداً لأنها كانت رسالةً موجهة لوول ستريت قائلةً: «نحن من يتخذ قراراً بشأن التعيينات الرئيسية في مجالات الاقتصاد والتمويل»، وأدى الانقلاب إلى تعيين حكومة مؤقتة برئاسة ميشال تامر.

إن ما فعلوه، بشكل أساسي، ما بين يوم وآخر كان تعيين وزير جديد للمالية، ليتبين أنَّ هنريك دي كامبوس ميريليس، سيء الصيت، الرئيس التنفيذي السابق في وول ستريت. حيث عين وزيراً للمالية. وهكذا، مرةً أخرى، وضعوا فريقاً من المسؤولين في المناصب الرئيسية.

ليست المسألة فقط في أن كامبوس ميريليس هو أحد موظفي وول ستريت. فهو أيضاً مواطن أمريكي. وقد عين كامبوس ميريليس أحد رجاله في البنك المركزي واسمه إيلان غولد فاين. كان ايلان غولد فاين كبير الاقتصاديين في واحدة من المؤسسات المالية الخاصة الكبرى، في البرازيل وتشاء الصدف أيضاً أن يكون «إسرائيلياً»، وأنه أيضاً صديق مقرب جداً من ستانلي فيشر، الذي كان في السابق في المركز الثاني في صندوق النقد الدولي، ثم أصبح حاكماً لبنك «إسرائيل»، ويشغل ستانلي فيشر حالياً المركز الثاني في مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي...

والآن، لدينا حاكم البنك المركزي الذي لديه علاقة شخصية وثيقة مع ستانلي فيشر، الرجل الثاني في مجلس الاحتياطي الفيدرالي. وكما هو معروف وموثق، فهو دائماً الرجل رقم اثنين، أي الآمر الناهي في نهاية المطاف، والذي يقوم بصياغة السياسات كافة. إذاً، هذه هي خلفية المشهد.

ما هي خطة «Real» الاقتصادية في البرازيل؟

إنها هامة جداً. في الواقع، خطة Real هي خطة في الأساس لتحويل عمليات الديون الداخلية جميعها إلى الدولار (دولرة)، بحيث ألا يملك البلد في الواقع سياسةً نقديةً. وهو يربط العملة الوطنية- الريال البرازيلي- بالدولار وهذا يعني أنه يجب أن تكون معتمدة من قبل معاملات الفوركس للحفاظ على هذا التكافؤ. ومن ثم ذلك يعني حقاً أنه إذا كنت ترغب في استخدام السياسة النقدية الخاصة بك لتعبئة الموارد الداخلية، فهي تتحول إلى الدولار.

أنت كتبت: «إن الهدف من الانقلاب كان إلغاء سيادة البرازيل في صياغة سياسة الاقتصاد الكلي» لماذا يقف وول ستريت أو الولايات المتحدة ضد سيادة الدولة؟

هذا سؤال مهم جداً، وعليها حقاً أن تهتم بالسياسة النقدية. في الواقع، تحدد السياسة النقدية سيادة البلاد. وهي قدرة البلد على تمويل مشاريعها التنموية بشكل فعلي. للقيام بذلك، عليك أن تكون قادراً على زيادة مستويات الدين الداخلي. ونحن نفعل ذلك في الولايات المتحدة وكندا وهلم جراً. نحن نستخدم عمليات الديون لتمويل البنية التحتية والطرق والمدارس والمستشفيات.

ولكن ما هو على المحك في البلدان النامية، هو أن العملة المحلية مرتبطة بالدولار، وفي أسواق العملة دُعمت من قبل الديون المقومة بالدولار (المدولرة)، والتي كان يجب أن يتم تكبدها لدعم العملة. ذلك أنه عند البدء في زيادة المعروض من النقود لتمويل التنمية- وهي آلية صعبة ومعقدة- عليك في الواقع أن تقترض بالدولار، ما يعنيه ذلك فعلياً، هو أن العملة المحلية هي فعلياً مجرد وكيل عن الدولار. إنها عملة (مدولرة)، بحيث إنه كلما كنت ترغب في بناء طريق أو جسر أو مجمع لتوليد الطاقة الكهرومائية باستخدام الموارد المحلية، سيتحتم عليك زيادة المديونية الخاصة بك، من حيث القيمة الدولارية. وبعبارة أخرى، يصبح الدين الداخلي ديناً خارجياً.

هذا هو في نهاية المطاف ما حدث في البرازيل، من خلال خطة الريال. في خطة الريال استخدم الريال كعملة برازيلية مع ربطها بالدولار الأمريكي، واستمر ذلك عن طريق دعم متواصل للعملة للحفاظ على هذا التكافؤ. ويعني ذلك أن البرازيل كانت تقيّد نفسها بدين من حيث الدولارات وفي كل مرة تزيد من مستويات الإنفاق، على سبيل المثال وهلم جراً، ستكون في نهاية المطاف مجبرة على الاقتراض بالدولار. ماذا يعني ذلك، لنعد إلى هذا السؤال: هو أن وول ستريت، التي تسيطر على السياسة النقدية وأعمال التنمية الداخلية جميعها وتمويل البنية التحتية والمدارس والطرق وهلم جراً، تطلب الاقتراض بالدولار للقيام بذلك.

سأعطيك مثالاً على ذلك. قررت فيتنام، في أعقاب تطبيع علاقاتها مع الولايات المتحدة، أن تبدأ مشروعاً كبيراً لإصلاح الطريق السريع الرئيسي في البلاد، الذي يربط العاصمة هانوي، في الشمال بمدينة هوشي منه، أو ما كان يعرف سابقاً باسم سايغون. ويطلق عليه الطريق رقم 1. في الساحل الشرقي للولايات المتحدة، يوجد أيضاً الطريق الذي يربط بين نيويورك وصولاً إلى ميامي.

ما حدث هو أن هذا المشروع كان لإصلاح الطريق، ولهذا كان عليهم أن يعرضوا مناقصةً دوليةً لشركات البناء القادمة- عقود كبيرة بعدة ملايين من الدولارات- ولإصلاح الطرق كانوا يحتاجون إلى رؤوس الأموال الأجنبية. ولكن في الواقع، ما ستفعله رؤوس الأموال الأجنبية هو التعاقد من الداخل مع الشركات المحلية التي ستقوم ببناء الطريق. ما يحدث في ظل هذا النوع من الآلية هو التحول من الدين الداخلي إلى الديون الخارجية. أنت لا تحتاج إلى جلب رؤوس الأموال الأجنبية لإصلاح الطريق، أو حتى لبناء طريق. التكنولوجيا متوفرة ، والدراية متوفرة أيضاً، وأنت لا تحتاج إلى ذلك الاستثمار الكبير من حيث رأس المال أو المواد. كل شيء موجود في البيئة المحلية.

وهذا يعيق الآليات. فوراً، بمجرد تطبيع هذا البلد، تقول هذه المؤسسات المالية: «حسناً، نحن سنقدم لكم المال في إطار مشروع البنك الدولي لبناء الطريق، ولكن يجب أن يكون هنالك عرض مناقصة لشركات المقاولات الدولية وما إلى ذلك، ثم عليك استخدام المال الذي نقدمه لك، لتدفع لهذه الشركات»، وهكذا تصبح هذه البلدان مدينةً وغير قادرة على إدارة عمليات الديون الداخلية تحت رعاية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وقد رأيت هذا في العديد من البلدان.

هناك ما يسمى PIP، برنامج الاستثمار العام، وهي قائمة من المشاريع، ويدخل البنك الدولي في نهاية المطاف من خلال هذه القائمة، ويمكنه اختيار تمويل ما يريده من هذه المشاريع ، وأن يتجاوز الحكومة في اختيار المشاريع الاستثمارية.

وذلك في النهاية هو جوهر السيادة الاقتصادية. إنها قدرة البلد على استخدام الأدوات النقدية لتمويل التنمية، وتنتفي هذه القدرة تحت العلاقات السائدة التي تربط هذه الدول مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والدائنين.

حسنا، من الصحيح أنه إذا تمكن البلد من أن يصدر ديونه داخلياً سيتمكن من التحكم في تلك السياسة وآثارها. ولكن إذا تم تصدير ديونه خارجياً، فسيفقد السيطرة لمصلحة الغير، أليس كذلك؟

تماماً. لقد صغتها بالضبط. هذه هي طبيعة تلك العلاقة. وحالما يرتبطون بهذه المؤسسات المالية الدولية، التي تراقب مشاريعهم الاستثمارية وتوفر لهم التمويل اللازم، ثم أن هذا التمويل خارجي، وبالدولار، وبالتالي سيخضعون للشروط المفروضة من قبل الدائنين التي تحمل طابعاً سياسياً. وهكذا، سوف يقولون: «حسناً. لقد ساعدناكم على بناء هذا الطريق ولديكم الآن ديون بقيمة 50 مليون دولار أو 100 مليون دولار. عليكم سداد هذا الدين الآن». ثم تقول الحكومة: «حسناً، ليس لدينا أي أموال لسداد الدين». ثم يجاوبونهم: «سنقدم لكم المال ولكن عليكم أن تقبلوا سياسة معينة بالشروط التي سنفرضها- وبعبارة أخرى، تغلقون المستشفيات والمدارس الخاصة بكم وستعملون بهذه الطرق التقشفية». ثم يطالبونهم بالخصخصة. وهكذا في الواقع، فإن عملية صنع الدول المثقلة بالديون، هو مفتاح السيطرة على سيادتها.

الآن، تختلف هذه الآليات في الاتحاد الأوروبي إلى حد ما. هنالك معاهدة ماستريخت الشهيرة، التي تعود إلى ما قبل منطقة اليورو، ومعاهدة ماستريخت وضعت الأساس حيث لا يمكن للدول الأعضاء تمويل تنميتها بشكل فردي من عمليات البنك المركزي، ولكن في نهاية المطاف، بالطبع، لديهم البنك المركزي الأوروبي، وهذا يخلق الظروف الضرورية لجعل الدول الأعضاء، وخاصةً الأضعف مثل اليونان وايرلندا والبرتغال في وضع سابقاتها ذاته، ويمكن الانتقاص من سيادتها لأنهم لا يستطيعون استخدام مواردهم. وليس لديهم عملةٌ وطنيةٌ لتمويل تنمية الدولة. ثم ما يحدث هو أن يتم أخذ ممتلكاتها والخصخصة والفقر وهلم جراً.

وهذا ما نراه يحدث في بلدان أوروبية عدة. اليونان، بطبيعة الحال، هي المثال الهام الذي حدثت فيه هذه الآلية. والبنك المركزي الأوروبي في الواقع يلعب الدور المماثل في بعض الجوانب لدور صندوق النقد الدولي، ولكن في سياق آخر، بالطبع. صندوق النقد الدولي تصرف على هذا النحو فيما يتعلق البرازيل، ولكنه في الآونة الأخيرة قام بالعملية أيضاً، فيما يتعلق بدول مثل اليونان والبرتغال.

ما هي الجهات الفاعلة في الشركات الرئيسة فيما كان يسمى بـ«النظام العالمي الجديد»؟

أود أن أقول، بصفة عامة: إن الشركات الفاعلة الرئيسة في النظام العالمي الجديد، أولاً وقبل كل شيء هي: وول ستريت، والتكتلات المصرفية الغربية، والتي تشمل أيضاً المنشآت البحرية، وجزر كايمان، وغيرها. لقد تحدثنا كثيراً عن ذلك في أوراق بنما، ولكن في الواقع يتم التحكم في تلك المواقع البحرية كلها، من قبل المؤسسات المصرفية الكبيرة. وبطبيعة الحال، فهي مرتبطة أيضاً بغسل الأموال والمخدرات وما شابه.

المجمع الصناعي العسكري، على الأقل كما دعاه أيزنهاور، وتجمع ما يسمى (مقاولي الدفاع)، إنهم ليسوا متعاقدين في مجال الدفاع، هم متعاقدون في مجال الحرب- الأمن، وشركات المرتزقة، التي تتسابق دولياً على عقود مع وزارة الدفاع الأمريكية والشركات الأمنية الخاصة الكبيرة مثل G4S، والتي بشكل ما كانت على علاقة أيضاً بأحداث أورلاندو.

ثم لديك، بالطبع، شركات الطاقة، والنفط والطاقة العملاقة الأنجلو- أمريكية. وهم مهمون جداً. ثم لديك التكتلات في مجال التكنولوجيا الحيوية التي تتحكم بشكل متزايد بالزراعة والسلسلة الغذائية وشركة مونسانتو بالطبع، جزء من ذلك. وشركة كارجيل وشركات المواد الغذائية الكبرى هي جزء من ذلك.

ثم تتداخل مع التكتلات في مجال التكنولوجيا الحيوية لديك شركات الأدوية الكبرى، وشركات بيغ فارما، وأود أن أقول هنا: إن تلك الشركات الدوائية الكبيرة تتداخل أيضاً مع المجمع الصناعي العسكري، لأنهم أيضاً منتجو الأسلحة الكيميائية والبيولوجية. ثم لديك، بالطبع، عمالقة الاتصالات، وتكتلات وسائل الإعلام، والتي هي جزء من الذراع الدعائية للنظام العالمي الجديد.

هناك تداخل كبير بين مختلف هذه الفئات العريضة جداً، ولكن أعتقد، في الأساس، وكتلخيص لذلك، وول ستريت والتكتلات الغربية المصرفية، المجمع الصناعي العسكري، والنفط والطاقة العملاقة الأنجلو-أمريكية، والتكتلات في مجال التكنولوجيا الحيوية، شركات الأدوية الكبرى وتكتلات وسائل الإعلام العالمية.

 

*ميشيل شوسودوفسكي: اقتصادي ومؤسس ومدير ومحرر في «مركز البحوث حول العولمة» الذي أسس في مونتريال، مقاطعة كيبك الكندية. وهو مؤلف 11 كتاباً منهم: «عولمة الفقر والنظام العالمي الجديد»، و«الحرب والعولمة: الحقيقة الكامنة خلف أحداث 11 أيلول»، و«حرب أميركا على الإرهاب، وعولمة الحرب: حرب أميركا الطويلة ضد البشرية».