الانتهازية اليسارية والأزمة السورية

الانتهازية اليسارية والأزمة السورية

الانتهازية اليسارية ظاهرة تاريخية ذات جذور اجتماعية لازم وجودها تاريخياً حركات اليسار عموماً والحركة الشيوعية خصوصاً. خاصتها الأساسية هي تبني مواقف سياسية يمينية الطابع من ناحية الجوهر ولكن مخرّجة بقالب (يساري) عبر إطلاق شعارات سياسية “أقصوية” لا تسمح موازين القوى على الأرض بتحقيقها، وغالباً ما تعتمد على استبدال التكتيك بالاستراتيجية.تستخدم هذه القوى عموماً ما يمكن أن يطلق عليه “الطريقة الانتهازية اليسارية” مستعينة بتكنيكات شبه موحدة تاريخياً في صياغة خطابها وتخريج مواقفها. أهم عناصر هذه الطريقة:

- التعويض عن “أقصوية” شعاراتها وعدم سماح موازين القوى بتحقيقها بسيادة طابع تقديس الشعب وطاقاته وإعطائها طابع ما ورائي. إن سيادة هذا الطابع يتعدى كونه مجرد تقديس ساذج للعفوية إلى كونه تغطيةً وإخفاءً للأدوات والتحالفات التي يستوجبها تحقيق شعارات ومواقف الانتهازية اليسارية. إن ما يختفي وراء عبارات تقديس الشارع وقدراته هو فقدان الثقة بقوى الشعب وإمكاناته الموضوعية.

- التأكيد اللغوي و الخطابي على معاداة الإمبريالية، بأسلوب أشبه بالتطهر الأخلاقي و”رفع العتب” كتعويض عن تلاقي جوهر مواقفهم السياسية مع الدول الإمبريالية والقوى الدائرة بفلكها.

- إعلان مواقف سياسية “صحيحة” ولكن في وقت متأخر، إذ إن إعلان الموقف السياسي ليس تطهراً وتسجيل نقاط وتبرئة ذمم، إنما يحدد عامل الزمن أصالة هذا الموقف من انتهازيته.

سنتناول في هذه المادة أحد كتاب الفكر اليومي “اليساري” سلامة كيلة بوصفه نموذجاً عن الانتهازية اليسارية المعاصرة، الكاتب الذي يشكل ظاهرة إعلامية تبحث لها عن مكان على الأرض وتحديداً في أوساط “اليسار” الذي تخضع قواه، كما كل القوى السياسية، لعملية فرز في ضوء عودة الفاعلية السياسية للجماهير العربية. في هذا السبيل سنعالج موقف الكاتب من القضايا الأساسية في المسألة السورية، المسألة التي شكلت إحدى أكثر المواضيع إشكالية بين القوى السياسية في المجتمع العربي، والتي جرى ويجري على أساسها عملية فرز وإعادة تعريف بالقوى السياسية المختلفة على ضوء مواقفها مما يجري.

مهام الحراك الشعبي:

كان الكاتب من أوائل الذين تشبثوا بشعار «إسقاط النظام» في سورية كتكثيف للمهام الآنية للحركة الشعبية ومعادل لرحيل الأسد مبشراً، دون كلل أو ملل، بقرب سقوط النظام منذ اللحظات الأولى لرفع هذا الشعار حتى اللحظة الحالية. ولم يبخل على منتقدي هذا الشعار من موقع حرصهم على الحركة الشعبية، بمختلف أشكال الشتائم، فعلى سبيل المثال يقرر الكاتب بأن: (الشعب المنتفض ليس في لحظة «حوار سياسي» لكي يناقش إمكان إسقاط النظام، بل قرر إسقاط النظام، ولم يخرج إلى الشارع إلا من أجل ذلك، وهو يعيش «حالة ثورية» طالما انتظرت الأحزاب حدوثها، ووضعت الجميع أمام خيارين: إما الاندماج بالشعب، أو«التفذلك» السياسي بشأن إمكان أو عدم إمكان إسقاط النظام. وحتى إن كان التقدير يشير إلى الاستحالة، فليس من الممكن الوقوف على الحياد، بل لا بد من الاندماج بالانتفاضة).

إذاً فالكاتب يضع القوى الثورية أمام خيار وحيد، وإلا التفذلك، والمتمثل بالتقاعد عن وظيفتها العضوية اتجاه الحركة الشعبية المتمثلة بصقلها سياسياً من خلال صياغة رؤى وشعارات سياسية تتطابق ومصالحها وإن كانت تتعارض مع مزاجها الآني والمتغير. إن المنطق الذي يتعامل به الكاتب مع الحركة الشعبية الناشئة في سورية هو ما سبق أن انتقده لينين كبير ثوريي القرن العشرين على أنه (إلتصاق بدبر الجماهير) كتوصيف لتقديس عفويتها.

بداية وبعيداً عن التحليل وكما يقول المثل “الوقائع أشياء عنيدة”، فإن تجربة سنة ونصف أوضحت بما لا يدع مجالاً للشك عدم سماح موازين القوى الداخلية بتحقيق شعار إسقاط النظام كما طُرح، أي رحيل الأسد كمهمة آنية، إلا عبر دفعة من الخارج وهذا ما يوضحه عدم تبلور ميزان القوى الخارجي لمصلحة تحققه (هذا إذا ما افترضنا أن هذا هو المطلوب، وهذه هي الثورة).وبذلك وُضعت الأهلية والنضج السياسي للقوى التي أصرت على هذا الشعار موضع تساؤل، مقابل إحقاق الواقع للقوى التي انتقدت هذا الشعار من موقع حرصها على عملية التغيير الجذرية والشاملة.

أما من حيث المبدأ، فإن المنطق العلمي والثوري لا يحتم أن يبتدئ التغيير الجذري والشامل بتغيير رؤوس ورموز السلطة في كل زمان ومكان. فالهدف هو تغيير بنية النظام أي منظومة العلاقات الاقتصادية السياسية التي تنتج وتعيد إنتاج التمثيلات الشخصية لها، والذي لن يمر دون تغيير رموز وشخصيات، ولكنه لا يشترط ذلك التغيير إلا وفقاً لضرورات تغيير البنية، أي أن أي تغيير في الرموز لن يكون ذا معنى إذا بقيت المنظومة على حالها. إن المحدد الوحيد للتكتيكات الثورية التي بمحصلتها يتم إنجاز تحويل بنية النظام هو ميزان القوى على الأرض بمكونيها الداخلي و الخارجي. ففي المسألة السورية تتفاعل وتتشابك عدة عوامل تضع مسألة الإصرار على رحيل «رموز السلطة» مقدمة للتغير موضعاً للتساؤل ومن بينها:

- إن الفصل بين النظام أو السلطة وجهاز الدولة في كثير من دول “العالم الثالث” و تحديداً في دولة كسورية، هو فصل نظري لا يتطابق أبداً مع واقع الأمر، ويعبر عن جمود في فهم العلم الماركسي وفي إسقاطه على الواقع السوري. فالاستقلالية النسبية لجهاز الدولة السوري عن الطبقات الاجتماعية (تحديداً في سياق الأزمة السورية) تبلغ مستوى عالياً. إن هذا التأكيد يفترض تغييرات بالتكتيكات المطلوبة لما يسمى بـ «تغيير السلطة مع الحفاظ على جهاز الدولة».
- تعقد الاصطفافات السياسية داخل جهاز الدولة السوري الذي لا يشكل كتلة صماء متجانسة، إذ أنه يحوي على قوى قادرة على لعب دور في عملية التغيير، هذا الدور الذي لا يمكن دونه تجنب تدمير جهاز الدولة.
- انحراف الاصطفافات السياسية الشعبية على أسس غير وطنية والتي كان أحد عوامل تكونها منذ اللحظة الأولى هو شعار إسقاط النظام بحد ذاته، وردود فعل مختلف الأطراف عليه.
- التناقض السياسي بين النظام السوري وتحالفاته الإقليمية من جهة مع الولايات المتحدة والقوى الإقليمية الدائرة في فلكها من جهة أخرى تحديداً في ما يخص القضايا السياسية للمنطقة. إن هذا التناقض دفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ مواقف مغايرة في سورية مقارنة بتونس ومصر، الأمر الذي تجلى عبر عملها مع أوروبا وأدواتهما الإقليمية على استغلال القمع الذي مارسه النظام والاصطفافات السياسية اللاوطنية من أجل عزل سورية عن محور المقاومة والممانعة وإجهاض عملية التغيير الجذري كحد أدنى، أو تدمير سورية دولة ومجتمعاً كحد أقصى إن استطاعت إلى ذلك سبيلا.

إن التغيير الجذري والشامل لمنظومة العلاقات الاقتصادية والسياسية في سوريا لا يمكن أن يتم إلا من خلال عملية سياسية تتفاعل على جبهتين :

- إن الشعب السوري بأغلبيته الكادحة هو الحامل الاجتماعي الأساسي لعملية التغيير الجذري والذي لا يمكن دون فاعليته وضغطه تحقيق التغيير المنشود. إن هذا الحامل لن يقوم بوظيفة الحامل الاجتماعي للتغيير إلا من خلال تنظيم الفاعلية السياسية لقوى الشعب السوري كل الشعب السوري عبر اصطفافات سياسية عابرة لثنائية “مؤيد” و “معارض” (التي بدأت جماهير الشعب السوري بالانفضاض عنها بتسارع كبير) حول شعارات جامعة تعكس مضمون التغيير الجذري الذي يحقق مصالح سواد الشعب السوري.

- الذهاب إلى حوار وطني تحت سقف رفض العنف من أي طرف ورفض التدخلات الخارجية والعمل على فرز كل من قوى جهاز الدولة (العملية الضرورية جداً من أجل تجنب تدميره)وقوى المعارضة من أجل تهميش وامتصاص وإنهاء كل القوى المرتبطة ب “الغرب” الإمبريالي و القوى الساعية لإدامة العنف والقوى الليبرالية التي تريد الحفاظ على بنية العلاقات الاقتصادية أينما كان موقعها سواء بالمجتمع أو بجهاز الدولة باتجاه بناء اصطفاف قوى سياسية عابرة لثنائية “معارضة”- “نظام” الوهمية.

إن القوى المعارضة التي ترفض الحل السياسي و البدء بالحوار تحت حجج مختلفة على رأسها اشتراط رحيل الرئيس السوري كمدخل للعملية السياسية قد انتهت إلى ممارسة نفس المقولة التي سبق وأن انتقدت النظام عليها «الأسد أو نحرق البلد» وتشكل بذلك أحد العوامل التي أدت و تؤدي إلى رفع تكاليف عملية التغيير المطلوبة التي يدفعها الشعب السوري دماً ووحدة وطنية.

أدوات «إسقاط النظام» و التدخلات الخارجية :

أما من ناحية أدوات تحقيق هذه “المهمة الآنية” أي مجموع الممارسات و التحالفات اللازمة لتحققها فالكاتب يبني موقفه المعلن على أن “توسيع المشاركة الشعبية” بالاحتجاجات هو أمر كفيل بإسقاط النظام دون أن يوضح سبل توسيع هذه المشاركة. ويصر الكاتب حتى الآن على إمكانية توسيع المشاركة الشعبية خلف شعار “إسقاط النظام” رغم أن تجربة سنة و نصف أظهرت بما لا يدع مجال للشك أن هذا الشعار لن يكون جامعاً. من حيث المبدأ إن التجربتين المصرية و التونسية أوضحت لكل ذي بصيرة بأن حجم المشاركة الشعبية بالحركة الاحتجاجية ليس كافياً وحده لبلوغ ما يدعى “إسقاط النظام” على الطريقة الكرنفالية وإنما هو عامل من عوامل أخرى على رأسها موقف المؤسسة العسكرية و دور الدول الكبرى و اللاعبين الإقليميين وحجم واتجاه تأثيرهم على أطراف الصراع.
لفهم جوهر موقف سلامة كيلة من الحدث السوري تحديداً فيما يخص أدوات «إسقاط السلطة» أو «إسقاط النظام» وبعيداً عن عبارات الغزل غير العفيف لطاقات الشعب السوري وإمكاناتها بالتغيير الذاتي لا يمكن إلا التوقف عند موقفه من التدخل الخارجي إذ يعلن الكاتب أنه ضد التدخل الخارجي من أي يكن. فهل فعلاً يعارض الكاتب كل أشكال التدخل الخارجي ؟

الموقف من الدور الروسي الصيني :

ينال الدور الروسي الصيني من الأزمة السورية نصيباً كبيراً من مقالات الكاتب خلال فترة الحدث السوري ذاهباً حد اعتبار الدور الروسي دوراً إمبريالياً إذ يقول “روسيا، كما أشرنا في مقال سابق، لا تريد التنازل عن وضعها «الاستراتيجي» في سوريا، ويبدو أنّ الأزمة الأميركية فرضت أن تعترف تلك الأخيرة بالدور الروسي. ولذلك فإنّ التدخل «الإمبريالي» يتحقق من خلالروسيا، التي يبدو أنّها من يمكن أن يصوغ الوضع، ربما بالتفاهم مع إيران وتركيا” ! (الإنتفاضة السورية و التدخل الدولي جريدة الأخبار العدد af`g الخميس ab كانون الثاني b`ab) (الفقرة الأخيرة من هذه المقالة تعالج مسالة صحة وصف روسيا بالإمبريالية).

-إن جوهر الموقف الروسي الصيني بالمسألة السورية والذي تجلى عبر تصويتهم بالفيتو c مرات في مجلس الأمن ومبادراتهم السياسية المختلفة هو صد محاولات الولايات المتحدة الأميركية و أوروبا لفرض تغيير على مقاس مصالحهم سواء عبر التدخل العسكري المباشر بمباركة مجلس الأمن أو من خلال فرض تسوية سياسية على مذاقهم. إذ أن هاتين الدولتين تلعبان دوراً سياسياً في ممانعة وتأريض الأجندة “الغربية” الإمبريالية والتي حدها الأدنى جعل سوريا جزءاً ملحقاً من معسكر “الاعتدال” العربي (من خلال تسوية سياسية دولية) و حدها الأعلى تدمير الدولة والمجتمع السوريان (التدخل العسكري المباشر و الغير مباشر).

إن الموقف الروسي الصيني لا يمكن فهمه إلا في سياق تشكل خارطة جغرافية سياسية جديدة في العالم إذ يعزى دورهما الدولي الجديد المتبلور على ضوء المسألة السورية إلى تبلور إرادة بمواجهة الولايات المتحدة الأميركية نتيجة عدوانية الأخيرة اتجاههما واستهدافهما سياسياً و اقتصادياً في إطار سعيها لحل أزمتها الاقتصادية المستعصية هذا من ناحية و من ناحية أخرى نتيجة التراجع المستمر للولايات المتحدة و أوروبا على الصعيد الدولي مما يعني نشوء فراغ جيوسياسي تحاول روسيا و الصين ملؤه. فمن حسن حظ الشعب السوري و حركته الشعبية الناشئة تبلور هذه الجغرافية السياسية الجديدة الأمر الذي أبعد شبح التدخل العسكري المباشر حتى الآن.

إذاً إن فهم معارضة الكاتب للدور الروسي الصيني تتم من خلال فهم وظيفة هذا الدور المتمثلة بمنع كل أشكال التدخل الخارجي الغربي العسكري المباشر منها أو السياسي أي إن ما يغيظ الكاتب تحديداً في الموقف الروسي هو أنه يمنع ”الدفعة الضرورية” من الخارج من أجل «إسقاط النظام» بالطريقة الكرنفالية التي يتبناها وهو ما يضع موقفه المراوغ ومزايداته اللفظية التطهرية موضع النفاق و إلا فعليه أن يشرح لنا هذا التناقض بموقفه بين رفض التدخل الخارجي الخارجي لفظياً و سيل انتقاداته للموقف الروسي الصيني!!. طبعاً الكاتب يقدم إجابة هزلية على تساؤلنا هذا إذ يقول  سنلمس بأنّ للروس هدفاً من ذلك [...] هو الحفاظ على تردد المترددين، وتخوّف المتخوفين، من الشعب، لكي لا تصل الانتفاضة إلى مواقع وفئات تفرض حسم الصراع ضد السلطة) ! (سوريا : الموقف الروسي و براغماتية المصالح جريدة الأخبار العدد aeib الخميس bb كانون الأول b`aa)

العقوبات الاقتصادية على سوريا و«توسيع المشاركة الشعبية»

كما سبق ذكره فإن «توسيع المشاركة الشعبية» بالنسبة للكاتب هو السبيل المعلن إلى «إسقاط السلطة» أو «إسقاط النظام» دون أن يعلن الكاتب بشكل صريح وواضح ما هو السبيل لتوسيع تلك المشاركة. إلا أنه ليس من العصي على المتابع أن يستنتج باطن رؤيته لسبل التوصل لذلك. إذ سبق وأن عزى الكاتب سبب عدم مشاركة أهالي حلب و دمشق بالحركة الاحتجاجية لاستفادتها من السياسات الليبرالية المتبعة في العقد الأخير (وطبعا هذا تحليل اقتصادوي و خاطئ فالطبقة الوسطى قي دمشق و حلب كانت من أشد المتضررين من هذه السياسات) بالمقابل وفي سياق تبشيره بأن السلطة «لم تعد قادرة على الاستمرار» إثر حدوث ما سمي حينها بإضراب التجار كتب (فالفئات التجارية في دمشق وحلب خصوصاً باتت ترى أنّ الركود الاقتصادي والتضخم يوديان بوضعها، ويقودان إلى انهيارها. كذلك الفئات الوسطى التي كانت مستفيدة من النمط الاقتصادي الذي شكلته الرأسمالية الحاكمة (النمط الريعي)، تجد أنّ استمرار الوضع على ما هو عليه يدمّر وضعها. لذلك بات لسان حالها يقول «بدنا نخلص»، أي «لا بد من الرحيل»، ما دامت السلطة لم تستطع إنهاء الانتفاضة…يعني ذلك أنّ خيار الرحيل بات عام) ( المصدر السابق). إذا فمن الواضح أن الكاتب يرى بتردي الأوضاع الاقتصادية و المعيشية لمختلف فئات الشعب السوري عامل «توسيع المشاركة الشعبية».

المهم هنا هو ملاحظة أن السبب الأساسي لتردي الأوضاع الاقتصادية هو العقوبات الاقتصادية ال”غربية” و ال”عربية” على الاقتصاد السوري والتي كانت وظيفتها منذ البداية تذويق المجتمع السوري شتى أشكال المعاناة المعيشية اليومية كوسيلة لرفع مستوى التوترات الاجتماعية ودفع حالة الاستياء إلى أقصاها لدفع الشعب السوري للقبول بأي مخرج من هذه الأزمة وبأي وسيلة. إذاً الكاتب يعول بشكل لا لبس فيه على العقوبات الاقتصادية الغربية على الاقتصاد و الشعب السوري كوسيلة ل «توسيع المشاركة الشعبية» ولا يستغرب انتقاد سلامة كيلة للعقوبات الاقتصادية فهذا النوع من المواقف التطهرية ليس إلا جزء من فلكلور التلطي للانتهازية اليسارية في تخريج مواقفها السياسية اليمينية.

الموقف من التسلح :

في صلة مع موضوع التدخل الخارجي لا بد من معالجة موقف سلامة كيلة من تصدر ظاهرة التسلح للمشهد السوري. بداية تجدر الإشارة إلى أن السياسي لا يحاسب على مواقفه مما يتناول بالتحليل و المعالجة و حسب و إنما أيضاً على تجاهله لظواهر تفقأ العين و تؤثر بشكل كبير على مجريات الحدث كما ظاهرة التسلح في صفوف المعارضة. إذ أن هذا التجاهل لا يمكن أن يفسر سوى على أنه موافقة ضمنية على هذه الظاهرة لا يمكن الإجهار بها أو انتظاراً لتجلي الغمام لمعرفة نتائجها و أثرها على مسار الحدث السوري لتأييدها في حال نجحت أو رفضها في حال أفولها دون أن يفوت “بناديق” السياسة في الحالة الأخيرة تحميل النظام السوري وحده مسؤولية انتشار التسلح. فرغم كثافة كتابات سلامة كيلة لم يتناول حتى الآن بأي مقالة موقعة باسمه موضوع التسلح و إن كان قد أشار إليه إشارات عابرة جداً دون تحديد أي موقف.

بعيداً عن التكهنات فالمؤكد أن سلامة كيلة ليس ضد ظاهرة التسلح و هو يخطو خطو قوى المعارضة المتطرفة في تحميل مسؤولية هذه الظاهرة للنظام كغطاء لعدم معارضتهم لهذه الظاهرة وتعويلهم عليها والتنصل من إعطاء موقف واضح منها دون أن يذكروا مسؤولية القوى الإقليمية الدائرة بالفلك الأميركي عن ظاهرة التسلح تمويلاً و تسليحاً (بالحدود التي تؤدي إلى استمرار الاقتتال دون أن تحسم المعركة) وتنسيق جزء من هذه المجموعات استخباراتيا مع الأجهزة الإقليمية والدولية في تنفيذها لعمليات اغتيال لكوادر علمية وعسكرية هي كودار سوريا الشعب. فإذا كان صحيحاً أن الخيار الأمني القمعي للنظام بالتعامل مع المحتجين السلميين قد أمّن الأرضية لنشوء العمل المسلح كرد فعل إلا أن هذا العمل لما كتب له التحول إلى ظاهرة تتسيد المشهد السوري لولا الدعم اللوجستي والمخابراتي للغرب الإمبريالي و الدول الإقليمية الدائرة بفلكه. لا بل إن الكاتب يستهزئ من كل من يشير إلى ارتفاع مستوى التدخل الخارجي العسكري غير المباشر عبر دعم المجموعات المسلحة إذ كتب: ( الوضع الدولي لا يشير إلى أي إمكانية لتدخل عسكري أو حتى تسليح المعارضة، و«النخب» تنطلق من أنّ التدخل العسكري قائم، والتسليح في أعلى مراحله) ( هل تسقط الانتفاضات العربية النخب الرثة أيضا ؟ جريدة الأخبار العدد afhf الاربعاء ah نيسانb`ab).

بالمحصلة و بتركيب أجزاء الصورة نجد أن أدوات «إسقاط النظام» الحقيقية بالنسبة لسلامة كيلة هي مختلف أشكال التدخلات الخارجية من المساومات السياسية على المذاق الإمبريالي الأميركي والأوروبي والتي تفشلها حتى الآن الصين و روسيا إلى العقوبات الاقتصادية على الشعب و الاقتصاد السوري كأداة ل ”توسيع المشاركة الشعبية” إلى التدخل الخارجي العسكريعبر دعم وإمداد المجموعات المسلحة. أي أن عبارات التفخيم والجلالة بحق الشعب والتأكيد على قدراته الذاتية تتكشف لدى الكاتب قنوطاً بمقدرات الشعب السوري كل الشعب السوري بتحقيق التغيير الجذري والشامل بعيداً عن الأجندات الإمبريالية والرجعية. إن غزل الكاتب غير العفيف بحق الشعب السوري ليس إلا جزءاً من فلكلور الانتهازية اليسارية بتخريج و تبطين مواقفها اليمينية بقوالب ”يسارية”.

بين الديماغوجية و الاقتصادوية و قصر الماركسية

إن كتابات سلامة كيلة حافلة بالديماغوجية والتعديات الصريحة على الفكر الماركسي وذلك في سياق محاولة الكاتب إعطاء لبوس و شرعية أيديلوجية ”يسارية” لمواقفه السياسية اليمينية. كمثال على ذلك نأخذ مسألتين هما اقتصادوية تحليل الكاتب فيما يخص عوامل نشوء الثورة و توصيفه للدور الروسي في سوريا و العالم بالدور الإمبريالي:

-أوهام التحليل الاقتصادوي لعوامل نشوء الحالة الثورية:

عند بداية الاحتجاجات الشعبية في مدينة درعا السورية كتب سلامة كيلة أولى مقالاته المتعلقة بسوريا والتي عنونت «سورية أيضا..لم لا ؟» (مقالة نشرت على موقع الأفق الاشتراكي ) ليجيب إيجاباً على إمكانية تكرار المشهد المصري التونسي في سورية. يستند الكاتب في مقاله لعوامل نشوء ثورة في سورية إلى قراءة اقتصادوية (هذا غير أنه يقوم بقراءة خاطئة للمعطى الاقتصادي) إذ يقرر بأن (عمق اللبرلة الاقتصادية ونتائجها الاجتماعية في سورية وصل لمستويات مثيلاتها في كل من مصر و تونس: فقد جرت تحولات اقتصادية عميقة خلال السنوات الماضية كانت أسرع من كل السنوات التي بدأ فيها “الإصلاح الاقتصادي” سنة aihf و أدت إلى النتائج ذاتها في سوريا و مصر). بعد قيامه بسرد نتائج اللبرلة على الواقع الاقتصادي الاجتماعي في سورية يستنتج (وهي الحالة المثالية لكل انفجار اجتماعي يفضي إلى ثورة). بعد عدة أشهر يعود الكاتب ليعلق (ما يجب ملاحظته أولاً هو أنّ الانتفاضة كانت «قبل أوانها»،فقد تعممت اللبرلة في سوريا قبل سنوات قليلة. إذاً، لقد تفجّر الوضع السوري «قبل الأوان»، لكنّه تفجّر”. ولقد فرض ذلك نشوء مشكلات، في الواقع لا بد من ملاحظته) (الانتفاضة السورية مشكلة الشعارات و الأهداف 1/3, جريدة الأخبار ا لعدد adhd الاربعاء a` آب b`aa).

-بداية يطرح تساؤل حول تناقض موقف الكاتب فهل اكتشف خلال فترة الأشهر القليلة الفاصلة بين الموقفين أن اللبرلة لم تصل لعمق ما وصلته في كل من تونس و مصر؟؟ أم أنها ديماغوجية فظة تقوم على تكييف و انتقاء و تحريف الحقائق حسب السياق لتبرير موقف مسبق ؟ أياً يكن فهذا و ذاك بعيد كل البعد عن الصرامة العلمية الماركسية.

أما من ناحية المضمون يقوم هذا التحليل على اقتصادوية فظة ترى بعذابات الجماهير طريق”الخلاص” الذاتي النخبوي إذ أنه يقوم على منطق «كلما خربت.. عمرت!» أي كلما ساء الوضع الاقتصادي لعموم الجماهير وازدات معاناتها اكتملت عوامل “الحالة المثالية لكل انفجار اجتماعي يفضي إلى ثورة”. تخلط هذه الرؤية بين الحالة الاحتجاجية و الحالة الثورية فإذا كانت الأولى مقدمة للثانية فتحول الحالة الاحتجاجية إلى حالة ثورية ليس حتمية فالحالة الاحتجاجية عبر التاريخ كانت هي القاعدة و الحالة الثورية هي الاستثناء. إن شروط تحول الحالة الاحتجاجية إلى حالة ثورية هي تراكم الحد الأدنى من مستوى الوعي السياسي الأمر الذي يتشكل أثناء الحركة الاحتجاجية ولكن ليس بالضرورة بالسرعة و بالاتجاه المطلوبين، إذ يتأثر ذلك بحال الحركة السياسية السابق لنشوء الحركة الاحتجاجية ومقدرته على تسريع نضوجها الثوري و تجنيبها الانحراف عن الصراط “مصالح عموم الجماهير” بالإضافة لضغط عناصر الثورة المضادة من قوى خارجية و قوى تدعي المعارضة عبر مختلف الوسائل من إعلام و مال وتضليل. يضاف إلى هذا وذاك عامل مستوى وطابع تنظيم الحركة الجماهيرية الأمر الذي يتأثر بالعوامل السابقة و يجري تبلوره في خضم الحالة الاحتجاجية و لكن ليس بالضرورة بالاتجاه و السرعة المطلوبتين !

إن الآثار السلبية للبرلة وماينتج عنها من سوء للوضع المعيشي على الحركة الاحتجاجية في دول “العالم الثالث” عموماً و في منطقتنا خصوصاً ودورها في تأخير أو منع تحولها إلى حالة ثورية يتأتى من الحقائق التالية :

- إن العلاقة بين الوعي و الواقع من وجهة نظر ماركسية هي علاقة ديالكتيكية الطابع ومعقدة و متغيرة (تتغير بتغير مستوى التراكم المعرفي ليتغير الوزن النسبي للوعي) فإذا كان الواقع هو المحدد للوعي فإن دور الوعي في عملية التحكم بالواقع وتغييره هو دور حاسم. إن اللبرلة بضربها للأساس المادي للحياة المادية للجماهير تضيق الهوامش على تقدم الوعي بمختلف أشكاله بما فيها السياسية يضاف إلى ذلك ترافق الليبرالية غالباً في دول العالم الثالث بمختلف أشكال القمع الفظ و التمييع “الناعم” للحياة السياسية. من ناحية أخرى فإن اللبرلة الاقتصادية تحمل معها منظومة قيمها التي تفرض تغييراً في طابع العلاقات الاجتماعية وفي الوعي المطابق لها لتنتج أخرى هجينة تحمل عناصر التخلف السابق لكن بقوالب “عصرية”. فإذا كان الواقع الاجتماعيبمعطياته الاقتصادية والسياسية يدفع إلى تكون حالة احتجاجية فإن طابع الثقافة و مستوى الوعي السائدين على كل المستويات في المجتمع المعني تلعب دوراً مهماً في تأخير وإعاقة أو تسريع و تسهيل عملية التغيير وتلعب دوراً حاسماً في تحول الحالة الاحتجاجية إلى حالة ثورية.

- تخرج اللبرلة من عملية الإنتاج وهوامشها جزء أساسي من السكان لتنتج بذلك فئة المهمشين ( العاطلين عن العمل) الذين لم يجدوا لهم مكاناً في المنظومة الاجتماعية القائمة فترتفع نسب الاحتقان الاجتماعي بينهم الأمر الذي يتجلى بتكون حالة سخط و حقد على المجتمع ككل وليس على النظام الاقتصادي السياسي الذي همشهم. كل ذلك يترافق مع مستويات جهل مرتفعة في صفوف هذه الفئة تجعلها أهم الفئات المرشحة لتكون وقوداً لقوى الثورة المضادة، إذ يسهل التحكم بتلك الفئات من أي طرف كان دولياً أو إقليمياً أو حتى السلطة نفسها. في هذا السياق يدخل نشاط الاستخبارات الدولية والإقليمية في صفوف هذه الفئة عبر ما يسمى بالحركات السلفية و التكفيرية و استخدامهم وقوداً لأجنداتهم القذرة المعادية لمصالح الجماهير.

- إن حالة الإفقار التي تخلقها الليبرالية وغياب دور جهاز الدولة الاجتماعي لصالح سواد الشعب يخلق الأرضية الموضوعية لتنامي الروابط الاجتماعية ماقبل الوطنية من طائفية و قومية و عشائرية والوعي المطابق لهذا النوع من الروابط. إذ تمتلك هذه الإطارات أنظمة “أمان اجتماعي” تلعب دوراً مهما في الملء الجزئي للفراغ الذي ينشأ نتيجة تقاعد جهاز الدولة عن دوره الاجتماعي لصالح السواد الأعظم من الجماهير. إن تنامي الدور الاجتماعي لتلك الإطارات يعني تنامي الروابط الاجتماعية المبنية على الأسس الطائفية و الإثنية الدينية (والتي تصل جهاز الدولة بحد ذاته) على حساب الانتماء الوطني و هو ما يخلق الأرضية لتفعيل التناقضات الثانوية لحظة الانفجار الاجتماعي مما يؤدي من جهة إلى حرف الاصطفافات السياسية الشعبية باتجاه اصطفافات غير وطنية و من جهة أخرى يؤدي إلى إعاقة تطوير أشكال تنظيم الحراك الشعبي على أسس وطنية كفيلة بتحقيق مصالح عموم الجماهير مما يجعل الطريق سهلاً أمام قوى الثورة المضادة التي تستفيد من تنامي دور التناقضات الثانوية هذه لتحرف مسار الصراع.

طبعاً كل ما تم ذكره لا يكافئ عدم إمكانية تحول الحالة الاحتجاجية إلى حالة ثورية بسبب اللبرلة وإنما يسلط الضوء على مجموعة من الإشكالات التي تفترضها اللبرالية والتي تلعب دوراً بإعاقة وربما بمنع تحول الحالة الاحتجاجية إلى حالة ثورية!! الأمر الذي يبين سطحية التعميم الذي يقرر بأن اللبرلة تخلق (الحالة المثالية لكل انفجار اجتماعي يفضي إلى ثورة). إن التحليل الاقتصادوي لعوامل تكون حالة ثورية هو تحليل سوى أنه غيرعلمي و نخبوي لفئات انفصمت عن الواقع، فئات ترى بعذابات الجماهير طريقاً وقرباناً لخلاصها الذاتي.

2- حول “الإمبريالية” الروسية !

يذهب سلامة كيلة أشواطاً بعيدة في محاولته الشرعنة الأيدلوجية لمواقفه السياسية عامداً إلى قولبة و قصر العديد من المفاهيم الماركسية. أبرز تلك التعديات الفظة على الفكر الماركسي هو توصيفه للدور الروسي الدولي الجديد وتحديداً في المسألة السورية بالإمبريالي، إذ يقول: (والروس من خلال تمسكهم بالسلطة ودفاعهم المستميت عنها يخسرون كل ما حاولوا تحقيقه على صعيد عالمي. كل ذلك دون أن يربحوا سوريا. وروسيا بذلك توضح أنها أصبحت إمبريالية، لكن من دون أن تستطيع ممارسة الإمبريالية على نحو صحيح، يفضي إلى خدمة مصالح رأسماليتها )(دمشق بين الجبهتين الداخلية و الخارجية, جريدة الأخبار العدد afib الأربعاء be نيسان b`ab ). إذاً فروسيا إمبريالية و معيار كاتبنا “الماركسي” العتيد في تحديد صفة الامبريالية هو ما يسميه ”تمسكهم بالسلطة و الدفاع المستميت عنها” فهل هذا معيار ومحدد صفة الإمبريالية من وجهة نظر ماركسية ؟

بعيداً عن “زبد و رغي” كتّاب الفكر اليومي فالإمبريالية منظومة علاقات اقتصادية سياسية تسم المرحلة العليا من تطور علاقات الإنتاج الرأسمالية العالمية و التي بدأت بالتبلور في نهاية القران التاسع عشر و سماتها الاقتصادية الأساسية كما حددها لينين في كتابه الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية :
1) ازدياد تمركز الإنتاج الصناعي لحد نشوء الاحتكارات الكبرى 2) اندماج الرأسمال الصناعي بالرأسمال المالي 3)تصدير رؤوس الأموال 4) تقاسم الأسواق العالمية بين الاحتكارات الكبرى 5) حروب تقاسم و إعادة تقاسم العالم بين الدول الإمبريالية الكبرى بشكل يعكس تغيراً جغرافياً في المراكز الاقتصادية والسياسية الدولية.

إن مركز الثقل الاقتصادي والسياسي للإمبريالية كبنية يتركز في عدد قليل جداً من البلدان هي التي يطلق عليها صفة البلدان الإمبريالية. إذ تستحوذ الاحتكارات الإنتاجية والمالية لهذه الدول على حصة الأسد من الانتاج العالمي وتتحكم بدورة الانتاج وإعادة الانتاج وتشكل مصب الجزء الأكبر من أرباح عملية الانتاج العابرة للقارات، كما أنها تلعب الدور الأساسي في عملية تصدير رؤوس الأموال وتدويرها في زوايا الكرة الأرضية الأربع. تقوم هذه الدول بالتمثيل السياسي لمصالح احتكاراتها على المستوى الدولي و التي تصل لحد خوض حروب استعمارية تصل حد التصادم ما بين الدول الإمبريالية نتيجة تغير الوزن النسبي لكل منها. في هذا السياق يطرح سؤال : ما هو موقع روسيا من عملية الانتاج العالمية اليوم ؟ ماهي حصتها من الاحتكارات الدولية الكبرى ؟ ماهو دورها في عملية تصدير رؤوس الأموال ؟ وهل يمكن قراءة دورها الدولي الجديد حتى الآن على أنه جزء من عملية إعادة تقاسم العالم بين الدولالإمبريالية؟ وهل يصح بالتالي إطلاق صفة الامبريالية عليها ؟ إطلالة سريعة على أهم مؤشرات الاقتصاد الروسي ذات الصلة بخصائص الامبريالية كفيلة بتبيان فظاظة توصيف روسيا بالامبريالية.

دور روسيا في الانتاج العالمي و حصتها من الاحتكارات الانتاجية و المالية الكبرى

في عام 2010 بلغ الناتج الاجمالي الروسي 1,479,823 مليون دولار أي ما يعادل 2.3% من الناتج الإجمالي العالمي بالمقابل بلغ الناتج الإجمالي للولايات المتحدة الأميركية في نفس العام 14,546,302 مليون دولار (أي ما يقارب 10 مرات حجم الإنتاج الروسي) أو ما يعادل 23% من الانتاج العالمي. أما الاتحاد الأوروبي فقد بلغ إنتاجه الإجمالي لعام 17,196,091 مليون دولار (أي 11.6 مرة حجم الانتاج الروسي) أي ما يعادل 27.3 % من حجم الإنتاج العالمي (هذه الأرقام مستخرجة من المجموعة الإحصائية لمنظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية).

إذاً مقارنة بسيطة للانتاج الروسي مع مثيليه الأوروبي و الأميركي تسمح لنا باستيضاح حجمه ودوره الهامشي في عملية الإنتاج العالمي.على أن طابع الاقتصاد والإنتاج الروسي هو طابع ريعي بامتياز حيث تستحوذ قطاعات الطاقة والصناعات الاستخراجية على الجزء الأكبر من الإنتاج الروسي. هنا تفيد العودة إلى مؤشر مستوى تعقيد الاقتصاد والذي يعبر عن درجة تعقيد عملية انتاج البضائع في الاقتصاد المعني ومستوى انتاجيته، إذ يعد هذا المؤشر أداة مهمة لمعرفة دور البلد المعني في إنتاج السلع الأكثر حساسية من حيث قدرتها بالتأثير على تدفق السلع بالأسواق العالمية وتحديد طابع عمليات الانتاج في الدول الأخرى ويأتي على رأس هذه الصناعات صناعة وسائل الإنتاج التي تعد صفة مميزة للدول الامبريالية. إذاً بالعودة إلى هذا المؤشر لا نجد لروسيا أي ترتيب بين العشر اقتصادات الأولى الأكثر تعقيداً، إذ يبلغ ترتيبها ال 18 ولا نجد لها أية حصة وموقع بين المصدرين الخمس الأوائل لأكثر عشر سلع تعقيداً على المستوى العالمي (طبعا على رأس تلك الدول أميركا، بريطانيا، ألمانيا، اليابان..). من ناحية أخرى فإن حصة روسيا من الاحتكارات الإنتاجية والمالية هامشية تقتصر على كونها شريك في احتكارات الطاقة العالمية من خلال شركة غازبروم مع غياب تام لحصة روسيا من الاحتكارات المالية.

إذاً إن دور وحصة روسيا في عميلة الإنتاج العالمي و من الاحتكارات الإنتاجية و المالية الكبرى هو دور هامشي لا يمكن أن يرقى بأي معيار علمي ماركسي لمستوى دور امبريالي.

دور روسيا في عميلة تصدير رؤوس الأموال

أما على صعيد دور روسيا في تصدير رؤوس الأموال وبالعودة إلى إحصاءات منظمة الأمم المتحدة للتجارة و التنمية يتضح أن تراكم الاستثمار الروسي في الخارج حتى عام 2011 بلغ 362,101 مليون دولار في عام أو 1.7% من حجم الاستثمارات الأجنبية في العالم. بالمقابل يبلغ تراكم الاستثمارات الأجنبية في روسيا في 457,474 مليون دولار لعام 2011 أي أنها تسجل عجزاً في الاستثمارات الأجنبية قدره 95,373 مليون دولار حتى عام 2011. أي بكلام آخر إن روسيا بلد مستورد صافي لرأس المال وليست مصدراً له !
بالمقابل بلغ حجم الاستثمارات الأجنبية للولايات المتحدة الأميركية و أوروبا في الخارج في عام 2011 على التوالي 4,499,962 مليون دولار 10,443,870 مليون دولار، أي أن حصتهما معاً من الاستثمار الأجنبي الخارجي في العالم تشكل 70.6% من حجم الاستثمارات الأجنبية في العالم على أنهما مصدّرين صافيين لرأس المال !!! إذاً بالأخذ بعين الاعتبار كون روسيا بلد مستورد صاف لرأس المال وحجم استثماراتها الخارجية الهزيل مقارنة مع الإمبرياليتين الأميركية و الأوروبية يتضح بأن دور روسيا في عملية تصدير رؤوس الأموال لا يمكن أن يرقى بأي معيار ماركسي علمي إلى دور دولة امبريالية.

الدور الروسي الدولي الجديد

بعيد انهيار الاتحاد السوفيتي خضعت روسيا لحكم زمرة تابعة للمركز الامبريالي العالمي، بالمقابل ومنذ بدايات العقد الفائت اتخذت روسيا موقع الدفاع في مواجهة الدور الأميركي في فضاء دول الاتحاد السوفيتي الهادف إلى عزل روسيا عن عمقها الإقليمي على طريق تفكيكها وهو ما عبرت عنه صراحة وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت: إذ تعتبر روسيا بالنسبة للولايات المتحدة خطرا كبيرا حتى كدولة رأسمالية إذا ما توافرت بها الإرادة السياسية لاستعادة دورها الدولي وإن بشكل جديد. إذاً فروسيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي تشكل مادة للتآمر الامبريالي “الغربي” الهادف لتقسيمها و تقاسمها.

أما الدور الدولي الروسي الجديد و الذي تبلور تحديداً في المسألة السورية فلا يمكن اعتباره سوى تحولاً في طريقة مواجهة الأجندة الأميركية ضدها، تحولاً من الدفاع الخجول إلى الدفاع الصريح لا بل الهجوم، تحولاً جرى تحت ضغط العدوانية الأميركية اتجاهها من ناح و من ناحية أخرى بسبب تراجع دور الولايات المتحدة الأميركية الدولي تحت ضغط أزمتها الاقتصادية الاجتماعية الكبرى مما وسع هامش مناورة دول مثل روسيا والصين وغيرهما على أن هذا التناقض هو تناقض بين رأسماليين. إن نفي صفة الامبريالية عن الدور الروسي الدولي لا يعني توهم الدور الروسي الجديد كمكافئ لدور الاتحاد السوفيتي سابقاً كما يحلو لكاتبنا أن يتهم كل من يثمن الدور الروسي في سوريا تحديداً في منع التدخل الامبريالي” الغربي” حيث يقول: (هناك (من اليسار) من لا يزال يعتقد بأنّ الصراع هو بين روسيا «الاشتراكية» وأميركا، وهو هنا مع روسيا) (الامبريالية سياسة أم اقتصاد سياسي ؟ جريدة الأخبار العدد ageb الاثنين i تموزb`ab). و هي الطريقة الأقل مصداقية في مصارعة الخصم والتي يضطر لها السياسيون الضعفاء إذ تعتمد على مسخ وجهة نظر الخصم وتحريفها و من ثم مهاجمة ذلك الموقف المسخ.

بالمحصلة لا يمكن إلا لمفكري الفكر اليومي الديماغوجيين أن يعتبروا روسيا إحدى الدول الإمبريالية و لا يمكن إلا لسياسي مأزوم في سياق تبرير مواقفه بأي ثمن أن يعتبر الدور الروسي الجديد دوراً إمبريالياً.

نهاية إن المحدد الأساسي لهوية القوى السياسية هو مواقفها و ممارستها السياسية و ليس اليافطات الأيديولوجية والمزاودات الخطابية التي تعرف بنفسها من خلالها. إن الانتهازية اليسارية بتقديسها الخبيث للعفوية و سعيها الانتهازي لخطب ود مزاج جزء من الشارع السوري و ليس مصالحه، وتبنيها مواقف لا تختلف من حيث الجوهر عن مواقف مجلس اسطنبول سيء الذكر من رفض للحل السياسي والتعويل على مختلف أشكال التدخل الخارجي وتأييد العمل المسلح وتبريره. إذاً إن الانتهازية اليسارية تتكشف كنقيض صوري لقوى اليسار البالية التي خونت الجماهير وطالبتهم ب” النضج والحصافة السياسية “، حيث لم ترى بحراكهم ومنذ اللحظة الأولى سوى مؤامرة فرمت الوليد الجديد مع المياه الآسنة.

 

آخر تعديل على الجمعة, 27 أيلول/سبتمبر 2013 17:34