باسم العلم 2| صنوبريات فلسطين الدخيلة
ميشيل مونجانتو ميشيل مونجانتو

باسم العلم 2| صنوبريات فلسطين الدخيلة

لقد نظرت الدول الأوربيّة المبكرة للأحراج بوصفها مصدراً لتوليد الربح من الأخشاب، وحول هذا المنظور الضيّق دار علم الأحراج وإدارة الغابات بأكمله. إنّ انتشار أشجار الصنوبر في فلسطين مرتبط بشكل وثيق بتراث الحراج الأوربي. في تشرين الثاني 2016، كان على أكثر من 60 ألف قاطن أن يخلوا منازلهم في مدينة حيفا، عندما هددت حرائق الغابات أطراف المدينة. وقد اندلعت مجموعة من الحرائق الأصغر حجماً على طول البلاد، قبل أن يتمكن رجال الإطفاء من السيطرة عليها. ولم يكن من المفاجئ مسارعة «حكومة الكيان» بإلقاء اللوم على الفلسطينيين، لكن السبب الحاسم في انتشار النيران كان انتشار أشجار الصنوبر في الأحراج التي تديرها «دولة الكيان»، وهي الأشجار القابلة للاحتراق بشكل كبير، وخاصّة في بيئة فلسطين الجافّة جدّاً.

تعريب: عروة درويش

يعود سبب وجود أشجار الصنوبر في فلسطين إلى كونها جزءاً لا يتجزأ من مشروع الاستيطان-الاستعماري الصهيوني. فكما هو موثق بشكل جيّد، قامت المجموعات الصهيونيّة شبه العسكرية بطرد حوالي 800 ألف فلسطيني من أراضيهم، وأغلبهم تمّ طرده قبل الإعلان رسمياً عن إنشاء دولة الكيان في 15 أيار 1948. شرعت دولة الكيان في حينه بخطّة لضمان إخفاء عمليّة التطهير العرقي العنيفة التي أدّت لإنشاء دولتهم، ولسدّ الطريق على اللاجئين الفلسطينيين بالعودة. ولهذا أخذ الكيان على عاتقه تقليص الوجود التاريخي الفلسطيني، وذلك عبر هدم أطلال القرى الفلسطينيّة التي تمّ طرد أهلها، وتدمير القرى القائمة، وذلك في خمسينيات القرن الماضي.

تمّ تمويل جزء من هذه الخطّة الشريرة عبر «صندوق تمويل اليهود الوطني»، وهو الذي كان يجمع المال منذ بداية القرن العشرين من أجل زارعة النباتات، والحفاظ على الأحراج في فلسطين. وقع الاختيار على أشجار الصنوبر لتمثيل «الاستثنائيّة الإسرائيليّة»، وجعل الأرض تبدو وكأنّها امتدادٌ لأراضي أوروبا التي حدثت فيها إدارة للأحراج بذات الطريقة من قبل.

وبقدر ما كان الكيان راغباً في محو حقوق الفلسطينيين على أرضهم، بقدر ما أظهرت عجالته في إنشاء أحراج الصنوبر قصر النظر في مشروعه الاستيطاني-الاستعماري. لقد كان الفلسطينيون، مثلهم في ذلك مثل بقيّة المجتمعات المحليّة الأصليّة، يعلمون بأنّ نجاتهم تعتمد على ارتباطهم بأرضهم وبفاكهتها. ولذلك فبدلاً من انتهاج المقاربان ناحية الأرض عبر عدسة السيطرة عليها وإخضاعها، سادت بينهم روح رعاية الأرض والمعرفة الوثيقة بمواسمها. فقد قام الفلسطينيون في ظلّ المناخ الصحراوي لبلادهم باستخدام الهطولات المطرية في المنطقة أفضل ما يمكن، سواء عبر زراعة الزيتون في مصاطب لحماية التربة من عوامل الحتّ والتعرية وللحفاظ على المياه، أو عبر استخدام الوسائل التقليدية في الحفاظ على رطوبة التربة قبل وصول موسم الصيف لذروته.

أمّا المشاريع الصهيونيّة في فلسطين فكانت مدمرة دون شك للمجتمعات المحليّة التي تأثرت كذلك بزوال النباتات والحيوانات المحليّة في فلسطين. وكما يظهر لنا مثال أشجار الصنوبر، فهناك رغبة واضحة في إظهار أنّ القدرة «الإسرائيليّة» على تحويل الصحاري القائمة، إنما هي نصر للعلم والمعايير الأوربيين. يتجلّى هذا تقريباً في جميع قطاعات «المجتمع الإسرائيلي»، وخصوصاً فيما يتعلق بالزراعة. فالأساطير «الإسرائيليّة» حول جعل الصحراء تزهر، يحجب في الحقيقة أنّ الدولة تحتكر استخدام الموارد المائيّة (وذلك حتّى في مستوطناتها) من أجل خلق سوق تصديري لبضائعها الزراعية إلى أوروبا. ويتمّ الحفاظ على سوق المنتجات الزراعيّة «الإسرائيليّة» هذا بشكل اصطناعي، عبر حرمان الفلسطينيين من موارد مياههم.

لكن ما هي تأثيرات هذه الزراعة «الإسرائيليّة» المدعومة اصطناعياً، والتي تستهلك الكثير من الموارد؟ يستمرّ الكيان بهلك القسم الأعظم من الموارد البيئيّة، وذلك عبر خلق وضع لا يمكن فيه استخدام واتباع الوسائل الزراعيّة الفلسطينيّة التقليديّة، وهذه الموارد تبدأ من التربة وتصل إلى المياه الجوفيّة تحت الأرض. وهناك ضمن الإجبار على اعتماد الوسائل «العصرية» في الزراعة، بعض الحوافز للفلسطينيين ليتعلموا ويحافظوا على الزراعة التقليدية، وهي الحوافز التي تؤدي بهم إلى الاعتماد بشكل كلي على الشركات الكيميائيّة التي تورد لهم البذار والأسمدة.

وكما لاحظ المهندس الزراعي الفلسطيني سعد داغر، فإنّ إحدى تأثيرات «الزراعة الإسرائيليّة» على فلسطين هي تقليصها لعدد الفلاحين، وللخسارة المستمرة لممارسات الزراعة المحليّة. يعاني الفلسطينيون في تلبية احتياجاتهم الغذائيّة، وقد تقلص التنوع الزراعي بشكل كبير جدّاً. أعلن داغر بأنّ ما يزيد عن 98 إلى 99% من زراعات التين واللوز الفلسطينيين قد اختفت.

  • الحفاظ على المعرفة الأصليّة وخلق سبل لنجاتنا الجماعية:

بالنسبة للساعين إلى الحصول عن أجوبة على كيف يمكننا تجسيد مجتمع متحرر تالٍ للرأسمالية في هذا المجال، فيجب أن نملك أولاً الرغبة والتصميم بإعادة التدقيق والتمحيص في بعض ما يحمل اسم «حقائق» علميّة. ويجب ثانياً أن نحترم المعرفة والممارسات المحلية الأصلية، خصوصاً تلك تدلنا على كيفيّة عيش الناس بتناغم مع الأرض، وليس إلى كيفيّة السيطرة عليها.

هناك موضة تميل لتسويق الممارسات العلمية والمعاصرة بأنّها صيغ المعرفة الوحيدة «الصالحة». وعندما استخدمت هذه الممارسات لدعم الاستعمار والمغامرات الرأسمالية، مالت لتصوير الممارسات المحليّة بأنّها ناقصة، وعليه فقد هيئت السبيل أمام تبني الطرق «المثالية» بالجملة.

إن خطأنا في نسيان وإهمال المعرفة المحلية الأصلية هو أننا سنصوغ مستقبلنا بحيث يكون محدوداً بشكل كلي بالمتطلبات الرأسمالية. لكنّ الواقع أنّ الرأسمالية والاستيطان الاستعماري يسببان أزمات اصطناعيّة في الموارد، ممّا يجعل القليل من الناس (وكذلك النباتات والحيوانات) قادرين على النجاة. إنّ المقاربات المحليّة في الزراعة متجذرة في الأشخاص الذين يعيشون في تناغم مع الأرض ومع ما يمكن أن تعرضه، وتجسّد معاملة أكثر عدلاً وحبّاً للأرض ولسكانها.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني