مَن الأفضل في قراءة الخريطة السياسية للشرق الأوسط؟
لا يمكن لروسيا والصين تقبل فرضية «الاستثنائية» في السياسة الخارجية للولايات المتحدة
فيتالي نعومكين فيتالي نعومكين

مَن الأفضل في قراءة الخريطة السياسية للشرق الأوسط؟

منذ فترة بات عدد من سياسيي الدول الغربية وخبرائها يتحدثون عن «تهميش» القضية الفلسطينية وتراجعها إلى المرتبة الثانية في الخريطة السياسية للشرق الأوسط؛ على خلفية صعود الأزمة السورية إلى المرتبة الأولى، وتأزم العلاقات بين إيران ودول الخليج العربي.

منذ فترة بات عدد من سياسيي الدول الغربية وخبرائها يتحدثون عن «تهميش» القضية الفلسطينية وتراجعها إلى المرتبة الثانية في الخريطة السياسية للشرق الأوسط؛ على خلفية صعود الأزمة السورية إلى المرتبة الأولى، وتأزم العلاقات بين إيران ودول الخليج العربي.
إنني واثق بأن القضية الفلسطينية بقيت محورية على الأقل بالنسبة للشرق الأوسط. أما اليوم حين تلوح واضحة في الأفق التسوية السياسية للأزمة السورية والقضاء على «داعش»، فإن أهميتها تزداد أكثر. كما تزداد أيضاً خطورة وظلم عدم حلها. ولن يحجبها دور العامل الكردي في التوازن السياسي الإقليمي الذي تزداد أهميته على خلفية الاستفتاء في كردستان العراق.
على العكس، يمكن الحديث عن اقتران هاتين القضيتين، أي: الفلسطينية والكردية. إذ بدا هذا على سبيل المثال من خلال تصريح بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة اليمينية الأكثر تشدداً في تاريخ إسرائيل، كأول رئيس حكومة من بين قادة الدول يعبّر عن موقف بلده الرسمي الداعم لفكرة تشكيل دولة كردية مستقلة في كردستان العراق. لم ير أغلبية المراقبين في ذلك إبداءً للتعاطف فقط الذي يكنه كثيرون من حيث المبدأ، بما في ذلك روسيا مع التطلعات القومية للأكراد، بقدر ما هو استمرار لمسار تقسيم وإضعاف الدول القومية العربية. لكن هذا كان قد سلط الضوء أكثر على عدم منطقية واتساق السياسة الإسرائيلية.
في الشرق الأوسط، هناك شعبان محرومان من دولتيهما: عرب فلسطين والأكراد. وإذا كانت إسرائيل تدعم بحزم سعي الأكراد للحصول على دولتهم، فلماذا لا تزال ترفض حق الفلسطينيين في ذلك رغم الدعم الكبير من المجتمع الدولي الذي يتجلى في قرارات مجلس الأمن، لمفهوم حق تقرير المصير الفلسطيني على شكل قيام دولتهم الخاصة؟
لا جدل في أن جزءاً من الذنب في ذلك يقع على عاتق الفلسطينيين أنفسهم، حيث إنهم منذ سنوات طويلة لا يزالون غير قادرين على التوصل إلى اتفاق بين بعضهم بعضاً، الذي يعتبر ضرورياً من أجل الاتفاق مع إسرائيل. وهو ما يترك خيبة أمل عميقة سواء لدى الفلسطينيين أنفسهم أو لدى أصدقائهم. ولم يكن من باب الصدفة نشر حسين آغا وأحمد الخالدي منذ فترة قريبة دراسة لهما في مجلة «نيويوركر» الأميركية بعنوان: «نهاية هذا الطريق: أفول الحركة الوطنية الفلسطينية». الفلسطينيون أنفسهم يحق لهم قول ذلك. إنه مقطع شجاع رغم أنه متشائم يتحدثون فيه عن أن «وطنية الأمس التقليدية» و«الحركة التحررية» لم تعودا أفضل الطرق للتعبئة والتعبير السياسي في عالمنا اليوم. لكن يبقى السؤال: ما الطريقة البديلة التي يمكن اقتراحها على الفلسطينيين لتكييف تطلعاتهم القومية والشرعية مع الواقع الجديد؟
قيادة السلطة الفلسطينية توصلت إلى نجاحات كبيرة في بناء الدولة وبسط الحياة الطبيعية في الضفة الغربية، لكن يبقى تجاوز الخلافات بين الفلسطينيين، والتوصل إلى إجماع وطني ضرورة حيوية ومهمة صعبة. إنها ضرورية لحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الذي زاد عمره على مائة عام. إنها مسؤولية كبيرة للغاية تقع على كاهل القادة الفلسطينيين.
لكن مسؤولية إسرائيل هي أكبر بصفتها دولة احتلال. وللتوصل إلى سلام مع الفلسطينيين يتوجب على إسرائيل من حيث المبدأ الموافقة على ضرورة تقديم تنازلات خلال عملية التفاوض والتي على الأغلب أن الحكومة الحالية غير جاهزة لتقديمها، وهي: الموافقة على إقامة الحدود مع الدولة الفلسطينية ضمن ما كانت عليه قبل حرب يونيو (حزيران) 1967 مع تبادل المساحات (مقايضات لأراضٍ)، والموافقة على حل يقبله الطرفان لمسألة عودة اللاجئين وقيام عاصمة الدولة الفلسطينية في القدس الشرقية.
على الأغلب، إن المجتمع الدولي كان باستطاعته القيام بأكثر مما هو عليه الحال. لكنه لا يستطيع أن يفرض السلام على الأطراف المتنازعة، رغم أن فكرة «فرض الحل» لا تزال تدور في عقول السياسيين. حتى الدول العظمى أيضاَ لم تتمكن من الاتفاق بين بعضها بعضاً.
الولايات المتحدة حيث النخب السياسية في حالة مواجهة داخلية من المستبعد أن تستطيع لعب دور الراعي الأساسي للتسوية الشرق أوسطية. من الممكن أن يقوم تعاون بين موسكو وواشنطن في مكافحة الإرهاب، وتسوية الأزمات في الشرق الأوسط (وهو قائم في بعض المسارات، وبالأخص في سوريا)؛ ذلك أنه يلبي المصالح الأساسية للطرفين. لكن يبقى العائق الأساسي هو التوتر الحاد في العلاقات بين الدولتين والخلاف حول المسائل الأساسية في النظام العالمي.
بالنسبة إلى روسيا وفي الدرجة نفسها بالنسبة إلى الصين التي بنت معها موسكو في الفترة الأخيرة تقارباً استراتيجياً عميقاً غير مسبوق، لا يمكنهما تقبل فرضية «الاستثنائية» في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. لا موسكو ولا بكين تريد أن تدير أميركا العالم. وهما تريان بأن أميركا لا تملك الإمكانيات للقيام بذلك. وفي الوقت نفسه، فإنه من دون التعاون مع واشنطن لا يمكن حل أي من القضايا الدولية المهمة، بما في ذلك قضايا الشرق الأوسط. ولقد أصاب البروفسور الأميركي روبرت رابيل (من فلوريدا) في تعليقه على كتاب هنري كيسنجر منذ فترة قريبة حين قال: «من الصعب التوفيق بين الطبيعة الاستثنائية للسياسية الأميركية والواقع الخشن للشرق الأوسط».
بالمناسبة، يتحدث عدد كبير من الخبراء الأميركيين المختصين بالشرق الأوسط عن عدم اتساق السياسة الأميركية في هذه المنطقة. السفير السابق للولايات المتحدة في مصر وإسرائيل دانيال كورتزر يتساءل في حديثه عن الحزم الذي أبدته واشنطن في مكافحتها للإرهاب بعد مقتل السائح الأميركي على يد الفلسطينيين (المقصود مشروع قانون تايلور فورس أكت): هل تخطط الإدارة الأميركية والكونغرس للقيام بما يشبه هذا الأمر على خلفية الاستمرار في النشاط الاستيطاني الإسرائيلي؟ لا يمكن معارضته بأن المستوطنات لا تزال عائقاً كبيراً في طريق تحقيق السلام، وأنه يجب على الولايات المتحدة أن تقرر كيف ستتعامل مع «المفسدين» من الطرفين.
الشرق الأوسط اليوم هو منطقة من الصعب التنبؤ بها. مجتمع الخبراء العالميين «غفل» عن «الربيع العربي»، و«غفل» أيضاً عن ظهور «داعش»، و«غفل» أيضاً عن إرسال القوات الجوية الروسية إلى سوريا وإعادة تقويم القدرات العسكرية للجيش السوري. كما أن هناك الأزمة القطرية وغيرها الكثير. ما الذي «يغفل» عنه الآن؟
كل يوم تتفجر شبكة الإنترنت بالأخبار القادمة من هذه المنطقة. الأخبار الأخيرة كانت حول – شراء تركيا منظومات صواريخ «إس – 400» الروسية، واتفاقات آستانة، وتصنيع إيران قنبلة ضخمة تزن 10 أطنان تحت تسمى بـ«أم القنابل». لكن يبقى السؤال: ما مدى التغيير الذي سيحدثه هذا كله في التوازن العسكري الاستراتيجي القائم حالياً في الشرق الأوسط؟
من جديد يزداد بزوغ روسيا في أفق العالم المعاصر والمضطرب. وكما لاحظ الباحث يوجين رومر من «مؤسسة كارينغي للسلام الدولي»: إن الحقبة حين كانت روسيا مشغولة بشكل أساسي في قضايا محيطها المباشر انتهت الآن ويزداد دورها بصفتها لاعباً فاعلاً في الشرق الأوسط الذي لا يبعد كثيراً عن حدودها. يمكن أن يروق للبعض وأن لا يروق للبعض الآخر ما تقوم به موسكو في المنطقة، لكن لا أحد يستطيع إنكار أن سياستها منطقية وأفعالها يمكن التنبؤ بها، ودائماً تؤخذ بالحسبان في هذه الأفعال مصالح شعوب المنطقة. في الوقت نفسه، وبحسب تعبير البروفسور الأميركي روبرت رابيل، فإن موسكو ومقارنة بالولايات المتحدة كانت دائماً الأفضل في قراءة الخريطة السياسية للشرق الأوسط.

فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو

*عن صحيفة «الشرق الأوسط»

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني