لا تزال فلسطين هي القضيّة
"عندما ينتفض الفلسطينيون من جديد، وسوف يفعلون، فقد لا ينجحون من المرّة الأولى. لكنّهم سينجحون في النهاية"
جون بيلغر جون بيلغر

لا تزال فلسطين هي القضيّة

يخشى أولئك الذين لا يستطيعون تورية الحقائق في أي مكان مُستعمر في العالم من السيادة الحقيقية للشعوب الأصلية، فهم لا يستطيعون إخفاء جريمة أنّهم يعيشون على أرض مسروقة.

تعريب: عروة درويش

يخشى أولئك الذين لا يستطيعون تورية الحقائق في أي مكان مُستعمر في العالم من السيادة الحقيقية للشعوب الأصلية، فهم لا يستطيعون إخفاء جريمة أنّهم يعيشون على أرض مسروقة.
تأتي عملية إنكار إنسانية الناس كخطوة تالية طبيعية، كما يعرف اليهود نفسهم هذا الأمر جيداً. يتلاقى تدنيس كرامة الناس وثقافتهم ومصادر فخرهم بشكل منطقي مع العنف.
مشيت في رام الله، بعد غزو أرييل شارون للضفّة الغربية عام 2002، في الشوارع حيث السيارات المحطمة والمنازل المهدمة. توجهت إلى المركز الثقافي الفلسطيني حيث كان الجنود "الإسرائيليون" يخيمون هناك حتّى رحيلهم في ذلك الصباح.
لاقتني هناك الروائية ليانا بدر، مديرة المركز، والتي كانت مخطوطات كتبه الأصلية متناثرة وممزقة على الأرض. لقد أخذ الجنود "الإسرائيليون" القرص الصلب الذي يحتوي روايات المركز ومسرحياته وشعره. لقد تمّ تحطيم وتلويث كلّ شيء تقريباً. 
لم ينج ولا كتاب واحد بصفحاته كلها، ولم ينج ولا شريطٌ واحد من أفضل مجموعات السينما الفلسطينيّة. لقد كان الجنود يبولون ويتغوطون على الأرض والمكاتب والمطرزات والأعمال الفنية. لقد لوثوا لوحات رسمها الأطفال بالبراز وكتبوا به: "ولدوا ليقتلوا".
وقفت ليانا بدر والدموع تترقرق في عينيها، لكنّها لم تنهار وقالت: "سنعيد الأمور إلى نصابها مرّة أخرى".

رفض الإذعان:
إنّ الذي يثير غضب أولئك الذين يستعمرون ويحتلون ويسرقون ويضطهدون ويخربون وينهبون هو رفض ضحاياهم للإذعان، ولهذا يستحق منّا الفلسطينيون الإجلال. لقد رفضوا الإذعان.
إنّهم يستمرون في الحياة. ينتظرون كفاحهم التالي. وهم يفعلون ذلك حتّى عندما يتعاون أولئك الذين يحكمونهم مع مضطهديهم.
لم يتوقف الصحفي محمد عمر عن إرسال التقارير في خضمّ القصف "الإسرائيلي" على غزّة عام 2014. لقد أصيب هو أسرته، ووقف معهم في طابور الحصول على الماء والطعام، وظلّ يرسل التقارير من تحت الأنقاض. عندما اتصلت به هاتفياً كنت أسمع صوت القنابل في الخارج. لقد رفض الإذعان.
كانت تقارير محمد، كما يتضح من صوره الفوتوغرافية، نموذجاً للصحافة المهنية التي جعلت تقارير وسائل الإعلام الطاغي البريطاني والأمريكي المذعنة والجبانة تشعر بالعار. إنّ فكرة البي.بي.سي عن الموضوعية – أي تضخيم أساطير وأكاذيب السلطة، وهي الممارسة التي تفتخر بها، تمّت تعريتها كلّ يوم من قبل أمثال محمد عمر.
لقد سجلت على مدى أربعين عاماً رفض الشعب الفلسطيني للإذعان لمضطهديه: ""إسرائيل" والولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوربي. إنّ بريطانيا لوحدها قد منحت منذ عام 2008 تراخيص تصدير أسلحة تحوي صواريخ وطائرات دون طيار وبنادق قناصة إلى "إسرائيل" بقيمة 434 مليون إسترليني (570 مليون دولار). إنّ أولئك الذين وقفوا صامدين دون أسلحة، أولئك الذين رفضوا الإذعان، هم من الفلسطينيين الذين كان لي شرف التعرّف إليهم.
لقد صحبني صديقي الراحل محمد جارالله الذي كان يعمل لصالح الأونروا إلى مخيمٍ للاجئين الفلسطينيين لأول مرّة عام 1976. لقد كان يوم شتاء قارس، وكان الأطفال يمضون إلى المدارس رغم الصقيع. كان يقول: "في أحد الأيام... في أحد الأيام...".
وصف لي مصطفى البرغوثي، وهو الذي لم يستطيعوا خفت صوت فصاحته، التسامح الذي كان قائماً في فلسطين بين اليهود والمسلمين والمسيحيين حتّى: "أراد الصهاينة إقامة دولة على حساب الفلسطينيين".
حكت لي الدكتورة منى الفرا، الطبيبة من غزّة، عن شغفها بجمع المال لإجراء جراحات تجميلية للأطفال الذين شوههم الرصاص والشظايا "الإسرائيلية". لقد دمّرت القنابل الإسرائيلية مشفاها عام 2014.
وعندما تتحرّك الأمم المتحدة فجأة وتعرّف "إسرائيل" كـ"دولة فصل عنصري"، كما جرى العام الماضي، يثور الغضب ليس ضدّ "دولة هدف وجودها الأساسي هو العنصرية"، بل ضد اللجنة التابعة للأمم المتحدة والتي تجرأت على كسر الصمت. إنّ فلسطين كما قال نيلسون مانديلا هي: "القضية الأخلاقية الأكبر في زماننا".
في "إسرائيل"، "دولة" الفصل العنصري المذنبة بجرائم ضدّ الإنسانية ومخالفة القانون الدولي أكثر من أي قوة أخرى، لا يزال الصمت قائماً بين أولئك الذين يعرفون ما يحدث، والذين تنصّ وظيفتهم على الحفاظ على السجل سليماً.
إنّ كلمة واحدة فقط كفيلة بتمكين هذا الصمت: "الصراع". يقولون "الصراع العربي-الإسرائيلي" كما يفعل الروبوت عند ترديد كلام ملقنه. عندما يشير مراسل البي.بي.سي المخضرم، وهو الرجل الذي "يعرف الحقيقة"، إلى "وجهتي نظر"، يكتمل هنا التشوّه الأخلاقي. ليس هناك صراع، وليس هناك وجهتا نظر. هنالك احتلال عسكري تفرضه قوة نووية مدعومة من قبل "أكبر قوة عسكرية على الأرض"، وهناك ظلم ملحمي.
قد تكون كلمة "الاحتلال" محظورة، لقد حذفت من القاموس. لكن لا يمكن حظر ذاكرة الحقيقة التاريخية: الطرد المنهجي للفلسطينيين من وطنهم. "الخطة D" التي دعا إليها "الإسرائيليون" عام 1948. يتحدّث المؤرخ "الإسرائيلي" بيني موريس عن قصّة سؤال أحد الجنرالات لديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء "إسرائيلي": "ماذا نفعل مع العرب؟". يروي موريس بأنّ بن غوريون أجابه: "أشار بيده بحركة قويّة تدل على الازدراء وقال: قم بتهجيرهم".
بعد مرور سبعين عاماً، يتمّ قمع هذه الجريمة في الثقافة الفكرية والسياسية في الغرب. أم أنّها أمرٌ قابل للنقاش، أم أنّها مجرّد أمر جدلي؟

دعم الظلم:
يقبل الصحفيون ذوو الأجور المرتفعة والذين ينتظرون رحلات الحكومة "الإسرائيلية" المليئة بالضيافة والإطراء بأن يتغاضوا عن احتجاجاتهم بشأن الاستقلال. لقد تمّت صياغة مصطلح "أغبياء نافعون" خصيصاً لهؤلاء.
لقد أصابني الذهول عام 2011 بالتساهل الذي قدمه أحد أشهر الروائيين البريطانيين: إيان ماك إيوان، وهو الرجل الذي استحمّ في توهّج التنوير البرجوازي، عندما قبل "جائزة أورشليم" للآداب في "دولة" الفصل العنصري. 
هل كان ماك إيوان ليذهب إلى مدينة "سن سيتي" في جنوب إفريقيا الفصل العنصري؟ لقد منحوا الجوائز هناك أيضاً، وكانت جميع النفقات مدفوعة. برّر ماك إيوان فعلته بكلمات مراوغة عن استقلال "المجتمع المدني".
تشكّل الدعاية التي يقدمها أمثال ماك إيوان، مع الصور والتحيات الرمزية مع مضيفيه، سلاحاً لقمع فلسطين. إنّها مثل السمّ الذي يدس بالدسم بشكل يومي. إنّ مهمتنا الأكثر أهمية تكمن في فهم وتفكيك الدعاية الرسمية والثقافية. فنحن نشارك بشكل أعمى الآن بحرب باردة ثانية، هدفها النهائي هو بلقنة روسيا وإخضاعها، وتخويف الصين.
عندما تباحث دونالد ترامب وفلاديمير بوتين على انفراد لأكثر من ساعتين أثناء اجتماع مجموعة العشرين في هامبورغ، حيث تركّز حديثهما في الغالب على ضرورة عدم دخول بلديهما في حرب مع بعضهما، كان المعترضون الأبرز على ذلك هم أولئك ممّن اغتصبوا حرية التعبير، مثل الكاتب السياسيّ الصهيوني في صحيفة الغارديان جوناثان فريدلاند:
"لا عجب بأنّ بوتين كان يبتسم في هامبورغ، فهو يعلم بأنّه نجح في تحقيق هدفه الرئيسي: أن يجعل من أمريكا ضعيفة مرّة أخرى."
لم يختبر دعاة الحرب هؤلاء حرباً أبداً، لكنّهم يحبون لعبة الحرب الإمبرياليّة. إنّ ما يدعوه ماك إيوان "بالمجتمع المدني" بات مصدراً غنياً للدعاية ذات الصلة. لنأخذ مصطلحين يستخدمهما حرّاس المجتمع المدني بكثرة: "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية". لقد تمّ تفريغ هذه المصطلحات النبيلة من معانيها ومن غرض وجودها.
لقد سطت الحكومات الغربية والمنظمات غير الحكومية التي تمولها والتي تدعي زيفاً حرصها على الأخلاق على حقوق الإنسان في فلسطين، مثلما فعلت مع "عملية السلام" ومع "خارطة الطريق". 
لهذا عندما تطلب الحكومات أو المنظمات غير الحكومية من "إسرائيل" أن "تحترم حقوق الإنسان" في فلسطين لا يحدث شيء، فجميعهم يعلمون بأنّ ليس هناك من شيء ليخشوه، وبأنّ لا شيء سيتغيّر. لننظر إلى صمت الاتحاد الأوربي من أجل استيعاب "إسرائيل" وهي ترفض أن تنفذ التزاماتها تجاه الفلسطينيين في غزّة، مثل إبقاء معبر رفح مفتوحاً. إنّه الإجراء الذي تمّ الاتفاق عليه كجزء من وقف القتال عام 2014. أو إنشاء ميناء بحري في غزة، وهو الذي تمّ الاتفاق عليه في بروكسل عام 2014، وقد تمّ هجره تماماً.
لقد وصفت لجنة الأمم المتحدة التي أشرت إليها من قبل، واسمها الكامل هو لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، "إسرائيل" بأنّ: "الغرض الأساسي من إنشائها" هو التمييز العنصري.

النشاط الشعبي:
يفهم الملايين هذا الأمر: ما لا تستطيع الحكومات في لندن وواشنطن وبروكسل و"تل أبيب" السيطرة عليه هو أنّ الإنسانيّة على مستوى الشارع تتغيّر كما لم تفعل من قبل.
ينشط الناس في كلّ مكان ويصبحون أكثر وعياً في كلّ مكان من وجهة نظري. بعضهم انخرطوا بالفعل في حراكٍ مفتوح. لقد وحدت شناعة برج غرينفل في لندن المجتمعات بعضها مع بعض في مقاومة نابضة بالحياة على المستوى الوطني تقريباً.
وبفضل حملة الشعب، يدرس القضاء اليوم الدليل على احتمال مقاضاة توني بلير لارتكابه جرائم حرب. وحتّى لو فشل هذا الأمر فلا يزال يمثّل تطوراً حاسماً. فهو يفكّك حاجزاً آخر بين الجمهور واعترافه بالطبيعة البشعة لجرائم سطوة الدولة، وللتدنيس المنهجي للإنسانية الذي ارتكب في العراق وفي برج غرينفيل وفي فلسطين. 
لا تزال هذه النقاط المتفرقة بحاجة إلى وصلها مع بعضها.
بالنسبة للكثيرين في القرن الحادي والعشرين، لقد اعتمد سطو الشركات على "الديمقراطية" على ممارسة الاحتيال من خلال الدعاية الملهية: على اصطناع أحداثٍ تهدف إلى إضعاف إحساسنا بالاهتمام بالآخرين وبالاتحاد معاً من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والوصول للعالمية.
لقد تمّ تمزيق الطبقة والجنس والعرق، وأصبحت الشخصنة هي السياسة والإعلام هو الرسالة. لقد تمّ تقديم تعزيز البرجوازية على أنّه خيار سياسي "تقدمي"، لكنّه لم يكن يوماً كذلك. إنّه تعزيز للامتيازات وللسطوة. لقد وجدت النزعة للعالمية جمهوراً لها بين الشباب. فلننظر إلى مؤيدي زعيم حزب العمّال البريطاني جيرمي كوربين وللاحتجاجات على سيرك "مجموعة العشرين" في هامبورغ.
يمكننا عبر فهم حقيقة وحتمية العالمية، وعن طريق رفض الاستعمار، أن نفهم نضال الفلسطينيين. لقد صاغها مانديلا هكذا: "نحن نعلم أيضاً بأنّ حريتنا غير مكتملة دون حرية الفلسطينيين".

قضيّة تاريخية:
يقع الظلم التاريخي في فلسطين في قلب شرق المتوسط. وإلى أن يتم حلّ هذه المشكلة، وإلى حين حصول الفلسطينيين على الحرية والوطن، لن يكون هنالك سلام في المنطقة أو ربما في أيّ مكان آخر.
تتحرّك الأحداث بسرعة الآن. إن حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات التي تستهدف "إسرائيل" تنجح يوماً بعد يوم. وتؤيدها المدن والبلدات والنقابات والهيئات الطلابية بشكل متسارع. لقد فشلت محاولات الحكومة البريطانية بتقييد المجالس المحلية عبر المحكمة ومنعها من إنفاذ حملات المقاطعة.
ليست هذه قشّة في مهب الريح. فعندما ينتفض الفلسطينيون من جديد، وسوف يفعلون، فقد لا ينجحون من المرّة الأولى. لكنّهم سينجحون في النهاية عندما ندرك بأنّهم نحن، وبأنّنا هم.