ماركس ضد سبنسر | اقتصاد الأرض المسطحة ونهاية العالم المسحور
غسان ديبة غسان ديبة

ماركس ضد سبنسر | اقتصاد الأرض المسطحة ونهاية العالم المسحور

«إن المجتمع البورجوازي الحديث هو كالساحر الذي لم يعد يعرف كيف يسيطر على قوى العالم السفلي الذي استحضره»
البيان الشيوعي

يقول كارل ساغان، العالم الفيزيائي الراحل، في كتابه «العلم كشمعة في الظلام»، إن الظلامية لا تزال تسيطر على العقل البشري حتى في الدول المتقدمة علمياً وتكنولوجياً كالولايات المتحدة، فتؤمن غالبية الناس بالتنجيم والسحر ونظريات المؤامرات وإلى ما هنالك من أمور لا صلة لها بالعلم أو بالواقع.
في هذا الإطار، وفي مناظرة تلفزيونية الأسبوع الماضي، قال لاري سامرز، الاقتصادي الأميركي الشهير، إن الاقتصاديين الذين يدعون إلى رفع الفوائد اليوم في الولايات المتحدة يمارسون ما سماه «اقتصاد الأرض المسطحة». إن هذا الاقتصاد يتناسى التقدم العلمي الذي حصل في فهم السياسات الواجب اتباعها في حالات الركود، وإن الاقتصاديين الذين يدعون الى مثل هذه السياسات يمارسون العلم السيئ كالذين لا يزالون يؤمنون بأن الأرض مسطحة بعد حوالى 2500 عام على اكتشاف الإغريق لكروية الأرض.
فهم يحاولون أن يدفعوا باتجاه اعتماد ما برهنته النظرية والتجربة أنه خطأ جسيم، وهو رفع الفوائد في ظل الركود الاقتصادي، بالاضافة الى التقشف. في المقابل، يقول سامرز وغيره إنه بسبب الركود الطويل الأمد الناتج من نقص الطلب الذي يتحكم بالاقتصادات الرأسمالية، فإن الحاجة الآن هي الى التوسع المالي عبر الإنفاق الحكومي.
نضيف إن «اقتصاد الأرض المسطحة» ليس خطأً علمياً واقتصاداً بائداً فقط، بل هو يعكس مصالح الريعيين، الذين هم مستعدون لأن يستمر الاقتصاد العالمي في الركود، مضحين بمستقبل مئات الملايين من الشباب والعائلات المعطلين عن العمل أو الذين مداخيلهم متدنية ولا تكاد تكفي قوتهم اليومي أو من الطبقة المتوسطة التي تعيش دائماً على الحافة.
أمران في لبنان هذا الأسبوع يعكسان أشكالاً من اقتصاد الأرض المسطحة. الأول، ذهاب لبنان مرة أخرى للاستدانة بالعملة الأجنبية بفوائد مرتفعة، والثاني قانون استعادة الجنسية اللبنانية الذي قدمته كتلتا القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر. في النقطة الاولى، لن أسهب لأن الكثير من الحبر والعرق قد أريق حول هذا الموضوع، ولا تزال هذه السياسة هي هي. أما قانون استعادة الجنسية فهو يقارب اقتصادياً من ناحية «استفادة» لبنان من «الثروة الاغترابية»، وفي الوقت نفسه لا يتطرق القانون إلى الواجب الاقتصادي الذي تتطلبه استعادة الجنسية وعلى رأسها أن تكون المواطنة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بدفع الضرائب. بالتالي، هل سيقولون للمغتربين إنهم يستطيعون أن يحصلوا على الجنسية من دون الالتزام بهذا الواجب؟ من هنا، يمكننا أن نسأل: هل المغتربون فقط هم ثروة للبنان على الطريقة الشاعرية؟ أم هي فقط خطة شعبوية لإعادة التوازن الديموغرافي؟ لا بأس بالاثنين إذا كانت استعادة الجنسية مرتبطة كما يتعلم اللبنانيون في كتب التربية المدنية بجميع (أشدد جميع) الحقوق والواجبات! ومن ضمنها الحقوق والواجبات الاقتصادية ليس فقط بالمعنى «الريعي» الشائع، أي أن «نستفيد» من تدفق الودائع والأموال إلى لبنان. إن المودعين المغتربين الآن وغيرهم أو المغتربين ــ المجنسين، إذا أقر القانون، يربحون وسيربحون من هذه الودائع بشكل كبير جداً، فالفوائد مرتفعة جداً في لبنان إذا قورنت بالكثير من البلدان، وبالتالي لا فضل لهم إن هم فعلوا ذلك. وهنا سيكون الامتحان للبنانيتهم إن هم اختاروا استعادة الجنسية مع علمهم بأنهم سيخضعون للنظام الضريبي اللبناني بالمبدأ، وطبعاً ضمن اتفاقيات الازدواج الضريبي الموقعة بين لبنان وبعض الدول، وحتى في هذه الحالة يتطلب ذلك تبادل المعلومات حول الدخل والثروة للأفراد .
إن المغتربين سيكونون فعلاً ثروة إذا كانت جنسيتهم ستجعلهم ينخرطون فعلياً في الاقتصاد. أما أن يصبحوا كتلة أخرى، بالإضافة الى العاملين الآن في الخارج، خارج الواجب الاقتصادي، فإن ذلك سيزيد من ازدواجية الاقتصاد حيث لبنانيو الخارج يشكلون النخبة الاقتصادية، بينما أغلب اللبنانيين في الداخل يعانون من مداخيل متدنية نسبة الى كلفة المعيشة التي ترتبط أكثر فأكثر بالرساميل المتدفقة. المفارقة أنه في الوقت الذي نبحث فيه عن «الثروة» في المغتربين، فإن الدولة تحتفل بـ»تأمين» رواتب العسكريين وكأنها دكان صغير استطاع كيف ما كان تأمين أجور موظفيه! المفارقة الأكبر والأكثر إيلاماً أن فقراء لبنان بدأوا يلقون جنسيتهم جانباً ويبحثون عن جنسية سورية مزورة يعبرون بها بحر إيجة الى أوروبا، هناك لا يبحثون عن ذهب وثروة وإثبات حقائق بل يبحثون عن خبزهم كفاف يومهم وعن كرامة وأمان افتقدوهما وعن أرض لا يعيث فيها حكامها وأغنياؤها فساداً وتسلطاً.
أما في العالم، ففي عام 1980 انتقد جورج بوش الأب سياسات جانب العرض المقدمة من رونالد ريغان، والتي اعتمدت على إعفاء الأغنياء من الضرائب من أجل تحفيز الاستثمار، وسماها اقتصاد السحر الأسود (voodoo economics). لكن في الثلاثين سنة التي تلت ذلك الانتقاد، دخلت الولايات المتحدة ومعها العالم بما هو أسوأ من ذاك «السحر الأسود»، إذ أصبح العالم كله مسحوراً بالدين والأسواق المالية وما عرف بالمشتقات المالية، ولكن الحلم ــ الكابوس انتهى في 2008 بعدما انقلب السحر على الساحر بأكثر مما تصور ماركس نفسه، واستفاق العالم على حطام الرأسمالية المالية. اليوم، تحاول هذه الرأسمالية عبر اقتصاديي بلاطها أن تعيد سيطرتها عبر إعادة الحياة الى مفاهيم عفا عنها الزمن، ولكن في ظل هذا الظلام المعرفي الذي تغذيه المصالح الريعية بدأ العمال والموظفون والشباب وكل من يعيش من قوة عمله ومن فكره بالاقتناع أن الاشتراكية هي الحل، كما يحدث الآن في الولايات المتحدة واليونان وإسبانيا وبريطانيا وأميركا اللاتينية، وبذلك لن يطول الليل. وفي خضم هذا النضال، أضاء العالم بذلك أكثر من مليون «شمعة في الظلام».


المصدر: جريدة الأخبار
العدد ٢٧٣٣