نظام "الفرادة" يغرق في تناقضاته
محمد المعوش - لبنان محمد المعوش - لبنان

نظام "الفرادة" يغرق في تناقضاته

يبدو أنه من خارج التاريخ يسير وهو الفريد الذي يستعصي على التغيير، هكذا يحاولون إظهاره وعبثاً يحاولون، وكيف يكون كذلك وهو النظام العفن إلى حد التفتت في كل مستوياته؟!

منذ نشأة لبنان في صيغته الطائفية، وعقل قوى البورجوازية التابعة كقوى مسيطرة تدرك أزمة هذا النظام- نظامها، وتحاول عند اهتزازه أن تحميه من السقوط، أي من تغييره كنظام سيطرة لها. أزمته المباشرة في عدم قدرته على أن يكون له دولة متكونة قادرة على إعادة إنتاجه، بسبب من البنية الطائفية لهذه الدولة، التي تتفكك في الوقت ذاته وهي تحاول إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية التبعية، بسبب من طبيعة هذه البورجوازية كقوى تابعة للامبريالية لم تمكنها من أن تكون قوة صاعدة بل في أزمة منذ نشأتها.

هكذا كان لبنان من الدول التي عرفت مبكراً الأزمات السياسية وظهور تناقضات حادة، طرحت مسألة تغيير النظام مبكراً. فبعد استقلاله الشكلي بثلاثين عاماً تقريباً شهد هذا البلد "الصغير" صراعاً حاداً، سياسياً واقتصادياً طرح مسألة تغييرالنظام على البحث، من قبل قوى التغيير الوطني حينها، وفي صلبها اليسار. فما كان من البورجوازية وقتها إلا أن فجّرت الحرب الأهلية واستعانت بالاحتلال وقوى الأطلسي وأمريكا لحماية هذا النظام في محاولتها الفاشية.

وبسبب العديد من العوامل وأساسها التوازنات في لبنان والمنطقة والعالم وقتها الذي لم يكن يسير في صالح التغيير الاجتماعي الجذري، وكذلك في كيفية خوض الصراع من قوى اليسار والقوى الوطنية ككل لم يسر هذا النظام نحو تغييره، بل أعيد إنتاجه بما يتلائم مع توازن القوى الذي نشأ وقت الحرب، عبر إعادة توزيع السلطة على الأساس الطائفي ذاته ما بين قسم من القوى المتصارعة وقوى السلطة ما قبل الحرب الأهلية.

مناورة تاريخية للنظام عمقت أزمته

لم تكن إعادة تشكيل السلطة بالشكل الذي هي عليه اليوم إلا تعميقاً لأزمة النظام السياسي، فبالرغم من عدم التغيير في بنية النظام السياسي الطائفي إلا أن كسر هيمنة القوى المسيطرة متمثلة بـ"المارونية السياسية" وقتها كان من شأنه تظهير تناقضات النظام إلى الواجهة، التي عبر عنها بـ"التوافقية"، التي تعبر عن إعادة تجديد النظام بعد الصراع تحت شعار "لا غالب ولا مغلوب" (لم يقدر اليسار أن يكون جزءاً من الصيغة بالقوة لعوامل عديدة، منها ممارسته السياسية خلال مرحلة الصراع، ولا هو قَبِل كذلك بها في صيغتها الطائفية).
الصيغة "التوافقية" كان من شأنها أن زادت من تفكك النظام السياسي، فهي، وحسب الدولة الطائفية التي تفرض ضمنياً هيمنة "طائفة" على "الطوائف" الأخرى، غير ممكنة فعلياً. فهذه الهيمنة لم تعد ممكنة بسبب من توازن القوى ما بعد الحرب، وبالتالي كانت التوافقية صراعاً دائماً ما بين قوى السلطة في محاولتها أن تأخذ لنفسها حيزاً من السلطة.

اشتداد الصراع وتعطل الدولة

منذ اتفاق الطائف وحتى بداية الألفية الثالثة كان الصراع ما بين مكونات السلطة ملجوماً بفعل قوة من خارج النظام (سورية حينها) أبقت عليه مستمراً من دون نفي الأزمات خلال تلك الفترة، ولكن كان لاشتداد أزمة الامبريالية وهجومها في مطلع الألفية، وكجزء من هجومها الذي تمثل بضرب النفوذ السوري في لبنان أن كشف أزمة السلطة بوضوح، ودخل لبنان في حالة مأزق سياسي حاد ومكشوف تحول إلى أزمة ملموسة في العام 2008 بشكلها المسلح، أنتجت اتفاقاً سياسياً في (اتفاق الدوحة)، لم يكن إيقافاً للأزمة، بل إيذاناً بتطورها، فشهدت تصاعداً قوياً بعد اشتداد الهجمة الامبريالية على المنطقة، وكانت ذروته بعد 2011، مرحلة الانتقال إلى المسار العدواني في استغلال تناقضات الأنظمة العربية (سورية منها). فسقط بذلك توازن القوى السابق داخل لبنان وتعطلت السلطة السياسية (البرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية)، وخصوصاً أن الصراع العالمي الذي يحكم بالضرورة الصراع ما بين القوى في لبنان انفتح اليوم بسبب من طرح النظام العالمي نفسه في شكله الحالي موضع البحث.

وهذا المأزق هو بسبب أساسي منه أن القوى المتصارعة لا تعبِّرعن مسار تغيير النظام السياسي، بل من على أرضيته تخوض الصراع السياسي.

ترافق الأزمة السياسية مع أزمة اقتصادية بنيوية

بسبب من نموذج الليبرالية الاقتصادي المتبع في لبنان وبسبب طبيعة الاقتصاد كاقتصاد خدمات وريع اشتدت حدة الأزمة الاقتصادية- المالية في لبنان على ضوء اشتداد الأزمة الرأسمالية العامة، في ظل ارتفاع حدة النهب للقوى الاجتماعية وسياسة الخصخصة، وغياب شبه كامل للدولة في جميع القطاعات (الخدمات، الأمن، التعليم، الغذاء، الصحة...) إضافة إلى ارتفاع حدة الفساد في الدولة كونها القطاع "المنتج" الكبير (المال العام)، إلى جانب أزمة التوظيف (بطالة عالية وتحديداً في أوساط الشباب بعد توقف المخرج النسبي لتصدير الشباب الى الخارج) وانخفاض كبير في مستوى المعيشة لفئات اجتماعية واسعة. ونسبة دين عام مرتفع قارب 70 مليار دولار أمريكي في ظل انخفاض معدلات الاستثمار وتراجع الإنتاجية للقطاعات الخدمية والاستهلاكية بالتوازي مع انخفاض مستوى معيشة القوى الاجتماعية والأزمة الأمنية المستمرة منذ 2005 وحتى الآن، إلى جانب تداعيات الأزمة في سورية (التهجير، الصراع المسلح على الحدود...) أزمة عُبِّر عنها حراكاً نقابياً (هيئة التنسيق أبرزها) وعمالياً مختلفأ.  

الأزمة الايديولوجية

كان للأزمة السياسية والاقتصادية أن عبرت عن نفسها في "تعطل" اجتماعي بسبب من انسداد الأفق الاجتماعي أمام أغلبية القوى الاجتماعية التي تعيش وضعاً معيشياً مأزوماً (التوظيف، السكن، نمط الحياة التهميشي، والاغتراب بسبب من تقدم الليبرالية في لبنان على غيرها من الدول العربية اقتصاداً وثقافة...) إلى حد يكاد يبلغ عدم قدرة المجتمع على إعادة إنتاج نفسه، وكذلك كان لطول الأزمة السياسية في البلاد ما بعد الحرب (حوالي عشرين عاماً بشكل مستمر وواضح ومرتفع الوتيرة) وما رافقها من خطاب سياسي يومي تحريضي وغير تحريضي، بسبب من كون إشراك القوى الاجتماعية في السياسة هو نتيجة ضرورية لمسار الصراع في لبنان ما قبل الطائف، وبحكم عدم تكون نظام مركزي استبدادي في لبنان كما باقي الدول العربية، كان من شأنه أن أرهق الوعي الشعبي ودفعه إلى النفور النسبي وتحديداً بسبب الوصول الدائم إلى ذروة المعركة بعد تحريض مرتفع، والتي يخال فيها للناس أنها ستحسم، ولكنها لم تكن لتحسم في أي من المرات (المظاهرات "المليونية" أبرز دليل) وخصوصاً في ظل فشل أي من القوى المتصارعة عن تحقيق أهداف "النصر" الداخلي، وكل ذلك انعكس انكشافاً لـ"اللعبة" السياسية والنفاق المعتمد، عززه الفرز الطبقي الموضوعي الذي ساهمت به المعركة التي خاضتها هيئة التنسيق إضافة إلى تردي الوضع الاجتماعي بشكل عام.

كله ساهم في تكون أزمة أيديولوجية على مستويين: الأول، مستوى التعطل النسبي لأداة الخطاب السياسي الذي تم تعميمه منذ التسعينات إيهاماً للقوى الاجتماعية بأنها جزء من الصراع السياسي (سياسة إغراق الوعي باللغة السياسية من خلال الإعلام اليومي وفرض النقاش السياسي من منطق السلطة نفسها)، وهو ما أدى بالقوى الاجتماعية إلى الابتعاد إلى حد الغثيان عن منطق الحديث اليومي السياسي. وتحاول القوى المتصارعة أن تجتذبها إليه من جديد من خلال التجديد في طبيعة المعارك وشكلها، ولكن سرعان ما يزول مفعولها. 
أي أنه تعطل نسبي في منطق الصراع "الطائفي" بسبب من عوامل عدة، منها الفرز الاجتماعي النسبي الموضوعي الذي حصل وانكباح الحياة الاجتماعية بالتوازي مع استنفاد الخطاب السلطوي اليومي لنفسه لناحية طول الأزمة وظهور الطابع غير الحاسم للقوى المتصارعة على مستوى الداخل التي هي ما أن تشتد في صراعها حتى تقترب من التسوية وتطرحها، ما دفعها الى الظهور بمظهر المخادع للأغلبية.

وكل طرف من القوى المتصارعة يحاول الظهور اليوم بمظهر باني الدولة (مشروع الدولة، محاربة الفساد،...) والذي يظهر مكشوفاً أيضاً إلى حد ما للقوى الاجتماعية. فالشعب اللبناني تمرس طوال الأعوام الخمسة والثلاثين الماضية، ما بعد الحرب، بالألاعيب السياسية التي تواجه صعوبة اليوم في التأثير به.

والمستوى الثاني هو تعطل الايديولوجية الليبرالية بما تعنيه من نمط حياة تم تعميمه خلال العقود الماضية وهو ما أظهر فشله بسبب الاصطدام بواقع النظام الطبقي الاستغلالي والذي أظهر زيف الأوهام التي تم زرعها في عقول الأجيال الصاعدة عن مستقبل يتم فيه تحقيق الحاجات، فعانى الناس من تعطل على مستوى وعيهم في مسار حياتهم اليومية بالتوازي مع أزمة معنوية حادة أعطت طابع الفراغ الفعلي لليوميات وتكرارها المتشيئ والمؤلم في العمل والعائلة والعلاقات الاجتماعية والتعليم والإبداع والعاطفة... وهو ما يستدعي نمطاً جديداً من الحياة بشكل شامل يطرح إرضاء الحاجات الاجتماعية المادية والمعنوية.

أزمة مفتوحة؟

إن انعقاد الأزمات الثلاث (السياسية والاقتصادية والأيديولوجية) أصبح يعني وبقوة أن مسألة تغيير النظام مطروحة بشكل جدي وسريع، وهناك مأزق تعيشه جميع قوى السلطة لناحية عدم قدرتها على الخروج من الأزمة، بل هي تحاول التعايش معها يومياً إلى حد أن لغتها أصبحت مأزومة وبشكل واضح لا حاجة للكشف فيه عن الضمني والمستتر، فهل هي أزمة مفتوحة؟

 إن الخروج من المأزق يعني تفعيل الصراع من خارج منطقه السلطوي ودخول قوى التغيير الجذري إلى الصراع السياسي عبر تمثيلها أغلبية القوى الاجتماعية المتضررة من خلال التعبير عن مصالحها بنمط حياة جديد كلي لم يعد تكفي فيه الطروحات الاقتصادية وحيدة الجانب، بل من خلال طرح اجتماعي سياسي ثقافي شامل يطال مختلف جوانب الحياة ويخفف من حدة المعاناة على المستوى الأمني أولا، وإنهاء كل التهديدات الإرهابية من جهة، والعدوان الإسرائيلي من جهة أخرى، ويزيل انعاكسات التهميش الاجتماعي وتعطل النموذج الليبرالي من الحياة وما يرافقه من أزمات اجتماعية ونفسية ومادية للقوى الاجتماعية، وخصوصاً أن ميزان القوى العالمي المتحول لغير صالح الامبريالية- الأمريكية تحديداً- يسير نحو توازن يطرح أفقاً جديداً آخر للعالم في مضمونه باتجاه حل تناقضات الامبريالية (المالية- الاقتصادية، البيئية- الصحية، الاجتماعية، الثقافية...)، هذا الحل الذي لن يكون بالتأكيد إلا بشكل نقيض للإمبريالية. وهذا التوازن في المعادلات السياسية العالمية يعني أنه لا بد للبنان كبلد متاُثر حكماً أن يخضع بالضرورة للتحولات من حوله وأن يتلاقى معها، وهذا ما يعني ضغطاً خارجياً موضوعياً على قوى السلطة في السير بهذا الاتجاه، وحيث بعض القوى داخلياً خاضعة لهذا التحول دون تعارض معه بالعام. تحول لا بد أن يلاقيه مسار صراعي داخلي يتلاءم مع خط السير العام هذا للتاريخ، وهو ما يعني مسؤولية جدية في حمل هذه المهمة التاريخية اليوم، لا أقل منها. إن تغيير النظام نحو آخر وطني تحرري اجتماعي أصبح ضرورة ملحة وملموسة، داخلياً ولها ما يتناغم معها في العالم. هذا النظام الذي أصبح يتهدد المجتمع في بقائه، والشعب في حياته.