الشيخوخة تهدد بتعطيل المحرك الألماني: هل فقدت عربة أوروبا حصانها الأسود؟
وسيم إبراهيم وسيم إبراهيم

الشيخوخة تهدد بتعطيل المحرك الألماني: هل فقدت عربة أوروبا حصانها الأسود؟

لن تنهار المستشارة أنجيلا ميركل هذه المرة، ولن تبلل دموعها طاولة زعماء الدول الصناعية الكبرى كما حدث قبل عامين. ولّت تلك الأيام السوداء من الأزمة المالية التي جعلت الدنيا سوداء في وجهها، ونجت منطقة اليورو من التفكك لتخرج العملة الموحدة سالمة.

لكن حضور ميركل لاجتماعات «مجموعة العشرين»، المنعقدة حالياً في أستراليا، لن يكون نزهة أبداً. ستكون مجدداً تحت ضغوط الاقتصادات العالمية الأخرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. اقتصاد بلدها على وشك الانكماش، واستمراره في المقدمة يحتاج علاجاً لحزمة مشاكل جدية.

مشكلة الأقطاب الآخرين هي أن القاطرة الألمانية لا تستطيع الآن جر عملاق اقتصاد الاتحاد الأوروبي المنهك. حقيقة كونه الاقتصاد الأكبر في العالم، ويشكل ربع إنتاجه الاجمالي، تجعل من غير المسموح بتباطئه وجموده. لا أحد يريد رؤية المرض الياباني يتكرر هنا، مع نمو بطيء يتجمد في حدود واحد في المئة.
لكن قبل كل ذلك، ألمانيا ليست في أفضل أحوالها. بات كبار الاقتصاديين فيها يقولون لصناع السياسة إنه يجب المكابرة وهي مجرد «وهم». هذا الوصف الأخير كان محور كتاب نشره مؤخراً الاقتصادي الألماني الشهير مارسيل فراتشر، تحت عنوان «الوهم الألماني»، واستقبلته الصحافة الأوروبية بحفاوة كبيرة. العنوان المستفز والمحتوى الانتقادي، لم يمنعا نائب المستشارة ورئيس الحزب الاشتراكي زيغمار غابرييل من القول إنه يجب أن يكون «مقرراً إجبارياً»، لكونه يشكل «إغناءً للنقاش السياسي والاقتصادي».
حينما قدم البروفسور فراتشر كتابه للصحافة العالمية في برلين، ترك الجميع في حيرة بعدما سألهم: هل تعرفون من هو البلد الأوروبي الذي بات النمو فيه أقل من متوسط البلدان الأخرى؟ البلد الذي يكسب 60 في المئة من سكانه الآن أقل مما كانوا يكسبون في العام 2000؟ الذي ازداد فيه الفقر؟ ترك الجميع يخمن خطأ، قبل أن يقول بعد صمت: إنها ألمانيا.
صحيح أن ألمانيا تعيش أوضاعاً أفضل بكثير مقارنة مع نهاية التسعينيات، حينما كانت توصف بأنها «رجل أوروبا المريض»، لكن الازدهار يشكل وجهاً واحداً لحقيقة ما حدث. الوجه الآخر ينقله فراتشر بالتفصيل في كتابه، لكنه يلخص العلة بالقول: «لقد فقدنا تواضعنا وصرنا نعيش حالة نشوة. هذا خطير لأنه يجعلنا عمياناً أمام الأخطاء وكسالى أيضاً».
يجادل البروفسور حول ما يقدّم على أنه أبرز ملامح النجاح الاقتصادي الألماني، وهو تقليل البطالة بحدود 40 في المئة. جرت إصلاحات واسعة لسوق العمل، جعلته «مرناً» ومشجعاً للشركات بالدرجة الأولى. النتيجة كانت خلق عدد هائل من الوظائف، لكن كثيراً منها كان عبارة عن وظائف خلبية، تسمى «ميني جوب» (عمل جزئي لا يستدعي أي التزامات جدية من أرباب العمل). لذلك يقول البروفسور إن الوجه الآخر للازدهار هو «ازدياد مخاطر الفقر»، بالإضافة إلى «عدم مساواة هائلة مقارنة ببقية أوروبا».
ينبغي التذكير دائماً بأن الانتقادات لا تتقصد التهويل، وهي في النهاية موجهة للحفاظ على مكانة بلد هو ثالث أكبر قوة صناعية مصدرة في العالم. هذا الوضع لا ينظر إليه كامتياز فقط، بل كمسؤولية تجاه الاقتصاد العالمي، وبالدرجة الأولى تجاه منطقة اليورو التي لا تزال تعاني تبعات الأزمة المالية.
تراجعت التوقعات بشكل كبير بالنسبة إلى نمو الاقتصاد الألماني. المفوضية الأوروبية تتوقع له أن ينمو العام المقبل بنسبة واحد في المئة، وهي نفس النسبة المتوقعة لمجمل منطقة اليورو، مع أن الحسابات قبل ستة أشهر كانت تقول إن برلين ستحقق ضعف هذا الرقم.
لكن الضغوط على المستشارة الألمانية، لا تقارن بما عاشته خلال قمة «العشرين» مدينة كان الفرنسية أواخر العام 2011. كان المطلوب منها أن تنتهك استقلال سياسات المصرف المركزي الألماني، تحت ضغوط شديدة من الرئيس الأميركي باراك أوباما والفرنسي السابق نيكولا ساركوزي. أدى ذلك إلى انهيار المرأة الحديدية، فصارت تبكي وتردد أمامهم «هذا ليس عدلاً، لا أستطيع فعل ذلك. سيكون هذا انتحاراً». هذه المشاهد نقلتها صحيفة «فايننشيال تايمز» الأميركية، استناداً إلى تسريبات من مسؤولين كبار حضروا الاجتماع العاصف.
لكن قبل الأزمة وبعدها، ستبقى ألمانيا تعيش معضلة تناقص اليد العاملة، مع مجتمع يعاني شيخوخة متواصلة. يشير إلى ذلك الباحث الألماني ميخائيل فيلغموت، من مركز الأبحاث «أوبن يوروب» (أوروبا المنفتحة). ينقل تقديرات الخبراء بأن ألمانيا تحتاج إلى حوالي 400 ألف مهاجر سنوياً من ذوي الكفاءات، كي يسدوا الفجوة الناتجة عن الهبوط السكاني.
هذه الشيخوخة تكلف الكثير، خصوصاً لمن يعملون. 21 في المئة من مواطني ألمانيا (81 مليون نسمة) هم الآن فوق 65 عاماً، وهذا يعني أن على كل عامل أن يعيل ثلاثة مسنين، وفق نسبة الإعالة التي تقدر الآن بـ31 في المئة، ويتوقع أن تصل إلى 57 في المئة في العام 2045.
النتيجة التي يصل إليها فيلغموت، بعد مروره على مجمل العثرات الاقتصادية، هي أن مشكلة ألمانيا في «الديموغرافيا والرضى الزائد عن النفس، والرسالة هي أنه: لا يمكن التعويل على ألمانيا».
يحضر هذا النقاش في وقت تحتفل فيه أوروبا بمرور 25 عاماً على سقوط جدار برلين، الحدث الذي يرونه أساساً لانطلاق مشروع الاتحاد الأوروبي. لكن في مقابل مؤتمرات المحتفلين في البرلمان الأوروبي، نصب النواب المعارضون لمشروع الاتحاد ما يشبه خيمة عزاء. أحد أبرز الحاضرين فيها كان الرئيس التشيكي السابق فاتسلاف كلاوس، وهو آخر رئيس وزراء لجمهورية تشيكوسلوفاكيا قبل تفككها في العام 1993، كنتجية لانهيار الجدار وبعد الاتحاد السوفياتي.
حينما سألت «السفير» كلاوس عن تقييمه لوضع اقتصاد أوروبا وألمانيا، وهو استاذ اقتصاد في النهاية، كان مصراً على أن العربة المعطلة لا يمكن حتى لأفضل الأحصنة جرها. قال بامتعاض «لا أعتقد أن الاتحاد الأوروبي يمكنه أن ينمو تحت هذه الظروف، ولا أعتقد أن المانيا يمكنها أن تساعده».
بعيداً عن دعاية مناهضي الاتحاد الاوروبي، يعيش التكتل بالفعل أياماً صعبة. سابقاً كان يقال إنه يسير بمحرك ثنائي الدفع، من برلين وباريس. لكن فرنسا انكفأت الآن، وهي تكافح لتصحيح عجز موازنتها. إيطاليا أيضاً تطلب مهلاً أطول من بروكسل لتصحيح الموزانة، مع ديون هائلة. إسبانيا تعيش بطالة قياسية تجاوزت 25 في المئة، كحال بقية الجنوب الأوروبي اليائس أمام تأمين مستقبل ملايين الشباب.
هنا تخرج المشكلة الجوهرية التالية التي تجمّد النمو: ضعف الاستثمار. ألمانيا ليست خارج دائرة الانتقاد، ففي بداية التسعينيات كانت توجه 23 في المئة من الدخل الإجمالي إلى الاستثمار، والآن انخفض إلى 17 في المئة. يقول المحللون إنه من دون استثمار لا رجاء في النمو، والأخير لا تعويض عنه لدفع تكاليف التقاعد المتزايدة.
لكن الشكوى من ضعف الاستثمارات تتردد في كل أوروبا. كانت «السفير» بين مجموعة وسائل إعلام دعيت إلى جولة في المؤسسات المالية الأوروبية في لوكسمبورغ، وهناك سمعنا مسؤولي مصرف الاستثمار الأوروبي يكررون قلقهم من أن دول الاتحاد لديها فجوة استثمارية بحدود 130 مليار يورو. يعني ذلك هاوية بالنسبة إلى فرص النمو وخلق الوظائف. المفوضية الأوروبية الجديدة تعد بمبالغ هائلة، 300 مليار يورو للاستثمار، لكن لا أحد يعرف من أين ستأتي.
هذه المخاوف يقلل منها مانفريد غولنر، وهو رجل ألمانيا القوي في البرلمان الأوروبي، إذ يترأس كتلة أحزاب المسيحيين الديموقراطيين (حزب ميركل) الأكبر في بروكسل. يعترف خلال حديث إلى «السفير» بأن على المانيا مثل غيرها القيام بإصلاحات «إذا أرادت الحفاظ على مستقبل جيد في العقد المقبل». لكنه يستدرك بأن الأوضاع لا تستدعي القلق لأن: «ألمانيا هي الاقتصاد الاكبر في الاتحاد الاوروبي، هناك نقص في النمو لكن معدله مستقر وإيجابي، إذاً ألمانيا هي المحرك للاقتصاد الأوروبي».
لكن هذا التفاؤل، المفهوم من سياسي ألماني ينتمي إلى الحزب الحاكم، ليس حالة عامة. منذ الأزمة المالية، عاماً تلو الآخر، كان المفوض الاقتصادي في بروكسل يخرج بوجه مكدّر، ليقول قبل عرض التوقعات الاقتصادية: «كان بودي أن أحمل لكم أخباراً أفضل».
لذلك يطالب كثيرون ألمانيا بأن تتخلى عن سياسة التقشف الأوروبية. ميركل ترفض ذلك تماماً. شعارها الثابت الذي يمثل الدرس من الأزمة المالية: «لا عودة إلى تحقيق النمو عبر الاستدانة».
مع ذلك ينتقد مؤلف «الوهم الألماني» هذه الصرامة. يقول البروفسور فراتشر إن ذلك يأتي لأن محاربة الدَين لطالما كانت «جوهر الفسلفة الاقتصادية» للألمان، لافتاً إلى أن كلمة «الدَين» باللغة الألمانية تعني أيضاً «الذنب». يرى أنه لا بد من بعض المرونة، ومثاله هو أنه لا حرج على الأب أن يستدين كي يعلّم ولده.
حينما تقابل المستشارة ميركل بهذه المشاكل، تقول إن سبب التراجع ليس ظروف الاقتصاد وإنما «التحديات الجيوسياسية». تقصد تحديداً الأزمة الأوكرانية والصراع مع روسيا على حدود التكتل. لكن ذلك لا يمكن فصله عن الاقتصاد، فالاتحاد الأوروبي بالنتيجة يعيش من التجارة، ليبقى التوسع وضم أسواق جديدة سياسة مكرسة.
إحدى نتائج ذلك هو إصرار الأوروبيين على مشروع الشراكة الشرقية، عبر ضم الجمهوريات السوفياتية السابقة إلى مجالهم الاقتصادي والسياسي، من دون اكتراث بالغضب الروسي. الاقتصاد يجعل الصدام مسألة حتمية لأوروبا، والنفوذ السياسي يجعله كذلك بالنسبة إلى موسكو. وسط كل ذلك يرى كثيرون أن عقدة الحل، التي هي عقدة المشكلة، تبقى ألمانيا. لم يكن الاتحاد الأوروبي مشروعاً سياسياً واقتصادياً، رابحاً ومطلوباً، لألمانيا كما هو اليوم.

 

المصدر: السفير