لماذا هُزمت «النهضة» في تونس؟
توفيق المديني توفيق المديني

لماذا هُزمت «النهضة» في تونس؟

في ظل تحول «الربيع العربي» إلى شتاء قاسٍ ومظلم، حقق الشعب التونسي انتصاراً حقيقياً على درب التحول الديموقراطي من خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة، حيث أثبت عن قدر عال من العقلانية والواقعيّة والنضج السياسي، كما برهن عن تحضره برهانه على التغيير عبر صندوق الاقتراع، والتزامه بأحكامه، وبذات القدر، على إيمانه العميق بمبدأ التداول السلمي للسلطة.

 

وأظهرت نتائج الانتخابات عن فوز «حزب نداء تونس» العلماني بنحو 85 مقعداً من أصل 217، وهو الحزب الذي احتل المشهد السياسي التونسي منذ أكثر من سنتين، لا سيما بعد اعتصام باردو في صيف 2013، الذي أعطاه صفة «الشرعية الثورية»، حين نزل الحزب بثقله في احتجاجات وتظاهرات طالبت بإطاحة حكومة «الترويكا» التي كانت تقودها «حركة النهضة»، وذلك إثر اغتيال القيادي محمد البراهمي في حادثة إرهابية هي الثانية خلال أقل من عام، ومقتل عناصر من الأمن والجيش في هجمات نسبتها السلطات التونسية إلى تنظيم «أنصار الشريعة» الإرهابي، وبعد أن ركز أيضاً في حملته السياسية الانتخابية على موضوع الإرهاب، بوصفه من النتائج السلبية لفترة حكم «حركة النهضة»، حيث اتهمها بالتراخي في التعامل مع الجماعات السلفية الجهادية.
ويعتبر الباجي قائد السبسي (87 عاماً)، مؤسس حزب «نداء تونس» (يمين الوسط) الفائز بالانتخابات التشريعية التونسية محامياً وسياسياً تونسياً مخضرماً، ويُوصف في تونس بأنه الخصم رقم واحد للإسلاميين. ويُنظر إليه باعتباره من رموز نظام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي حكم تونس بين 1956 و1987، وقد تولى في عهده منذ خمسينيات القرن الماضي العديد من المناصب، بينها وزارات الداخلية والدفاع والخارجية. كما تولى في بداية عهد الرئيس زين العابدين بن علي منصب رئيس مجلس النواب، وكان عضو اللجنة المركزية للحزب الحاكم في عهده «التجمع الدستوري الديموقراطي» حتى 2003.
ومع بداية حكم الترويكا وشروع حركة النهضة في «أخونة الدولة»، بادر السبسي إلى تأسيس حزب «نداء تونس»، ونجح في تحويله إلى حزب سياسي كبير في وقت قياسي، كما نجح أيضاً ومن الاختبار الأول، في احتلال المرتبة الأولى في المشهد السياسي، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن الأسباب خلف نجاح حزبه.
لقد صوت الشعب التونسي بقوة لمصلحة «حزب نداء تونس» لاعتقاده أنه الأوفر حظاً في إلحاق الهزيمة بمشروع الإسلام السياسي، الذي عاش مقدماته أثناء حكم «النهضة»، ويستهدف مكاسب الحركة الإصلاحية والوطنية التونسية ويؤدّي، في نهاية المطاف، إلى تفكّك الدولة الوطنية. وقد استفاد «حزب نداء تونس» من شعار «الانتخاب المفيد» حتى لا يتم تشتيت الأصوات، ومن اصطفاف الطبقة التونسية وراءه، حيث أرادت أن تصوت لمصلحة الحزب الذي يمتلك من القوة ما يكفي ليحافظ على نموذج المجتمع التونسي الوسطي والمعتدل والمنفتح على الحداثة الغربية، كما كان في عهد النظام السابق، وعلى نموذج الدولة المدنية. فصوتت هذه الطبقة بقوة له، لأنها أرادت أن تتحرر من حكم الترويكا، وتزيح «حركة النهضة» من الحكم، وتقطع عليها طريق العودة نهائياً إلى السلطة عبر هذه الانتخابات. وهذا ما يفسر لنا لماذا غيَّرت بعض الشرائح المنتمية إلى هذه الطبقة التي كانت تصوت تقليدياً لمصلحة أحزاب وسط اليسار، مثل «الحزب الجمهوري»، وحزب «المسار الديموقراطي»، بوصلتها هذه المرة وأعطت أصواتها بالكامل لمصلحة «حزب نداء تونس»، وعاقبت في الوقت عينه كل الأحزاب التي كانت حليفة لـ«حزب نداء تونس»، والتي كانت مجتمعة داخل «الاتحاد من أجل تونس»، فهي لم تعد تقبل بأنصاف المواقف. لذلك اندثرت هذه الأحزاب الحليفة للنداء من المشهد السياسي التونسي إثر هزيمتها الساحقة في الانتخابات. فـ«الحزب الجمهوري» الذي يتزعمه السيد نجيب الشابي لم يفز سوى بمقعد يتيم، بعدما كان له 16 مقعداً، وحزب «المسار الديموقراطي» لم يفز بأي مقعد، بعدما كان له 10 نواب في المجلس التأسيسي السابق، وكذلك الأمر بالنسبة لحزب «العمل الوطني الديموقراطي» الذي يترأسه السيد عبد الرزاق الهمامي، و«الحزب الاشتراكي» الذي يتزعمه السيد محمد الكيلاني. كما أن الدور الذي لعبته «الجبهة الشعبية»، سهَّل التحاق قطاعات واسعة من البرجوازية الصغيرة بحزب «نداء تونس»، والتصويت له.
وقد استفاد «حزب نداء تونس» من الدور الكبير للإعلام التونسي المنحاز بقوة له، والذي عبَّد له الطريق كي يحتل طليعة المشهد السياسي التونسي طيلة العامين الماضيين، ويغرس في ذهنية التونسيين صورة معينة مفادها أن «نداء تونس» هو الوحيد القادر على هزيمة «حركة النهضة»، فتضخمت أعداد الوافدين إلى الانضمام للحزب المتشكل حديثاً. لكن الفوز الكبير للحزب، ما كان ليحصل لو لم يتوافر عاملان أساسيان. الأول هو دور المال السياسي الفاسد الذي أسهم في شراء ذمم الناخبين، لا سيما في الأرياف والأحياء الفقيرة من المدن، والثاني هو الدور القوي الذي لعبه «حزب التجمع» المنحل بقرار قضائي في آذار 2011، حيث أن الماكينة الحزبية والانتخابية لـ«حزب التجمع» انضمت بقوة للعمل لمصلحة «حزب نداء تونس»، ووفرت له الأرضية التنظيمية والخبرات الضرورية، والدعم اللوجيستي لتحقيق فوزه الانتخابي، إضافة إلى أن الأحزاب الدستورية المنبثقة عن «حزب التجمع»، أعطت الضوء الأخضر لأنصارها للتصويت لـ«حزب نداء تونس» ودعمه انتخابياً تجنباً لتشتيت الأصوات، فاكتسح هذا الأخير الشمال والساحل بدعم قوي من أنصار ومنخرطي الأحزاب الدستورية ذات المرجعية التجمعية. هكذا عاد «التجمعيون»، الذين أقصوا من الحياة السياسية بعد الثورة، عبر بوابة «حزب نداء تونس»، والشرعية الانتخابية.
ويضم حزب «نداء تونس» نقابيين ويساريين ومنتمين سابقين إلى حزب «التجمع الدستوري الديموقراطي» الحاكم في عهد بن علي الذي حكم تونس بين 1987 و2011.
لكن الحزب يتجسد في شخص زعيمه الباجي قائد السبسي، الذي يدافع عن مدرسة بورقيبة الدستورية، ويسير على خطاها، وإن كان يريد أن يضفي الطابع الديموقراطي على البورقيبية وهو ما كان مفقوداً في عهد الزعيم الراحل. وقد استوعب الحزب في داخله النخب والفئات الاجتماعية التي تشاطر الباجي القائد السبسي رؤية لهويّة الحزب وتموقعه، لا سيما المحافظة على طبيعة الدولة المدنية، ونموذج المجتمع التونسي، ومقاومه الإرهاب التكفيري، وإعادة الهيبة للدولة التونسية التي كانت مفقودة في ظل حكم الترويكا السابقة بقيادة «النهضة». فشكل الرافد الدستوري/التجمعي، والرّافد النقابي، والرّافد اليساري، والمستقلون، أرضية مشتركة بين هذه الروافد المنحدرة من مدارس فكريّة متعددة وتجارب سياسية واجتماعية مختلفة، قوامها الرغبة بالدفاع عن المكاسب الحداثية لمشروع دولة الاستقلال والإسهام في بناء المشروع الديموقراطي.
غير أن المعارضة القومية الديموقراطية، كما اليسارية، تعتقد إن «حزب نداء تونس» هو حزب «تجمع» جديد، وأن زعيمه الباجي القائد السبسي الذي تولى رئاسة البرلمان بين 1990 و1991، كان من «أزلام» نظام بن علي. وتحذر من عودة «الاستبداد» الى تونس إن وصل الحزب الى الحكم، لأنه سيحافظ على نهج الليبرالية الرأسمالية المتوحشة التي كانت سائدة في العهد السابق، ما يؤكد أن التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها تونس منذ بداية الثورة ستستمر من دون حل، ما لم تغير تونس من خياراتها الاقتصادية والاجتماعية نحو القطع مع نهج التبعية، والعمل نحو إقامة نموذج من التنمية يلبي مصالح وتطلعات الطبقات والفئات الشعبية المختلفة.

المصدر: جريدة السفير