مرة أخرى: كلامٌ عن انسحاب أمريكي من العراق وسورية... هل سيحصل الانسحاب فعلاً؟

مرة أخرى: كلامٌ عن انسحاب أمريكي من العراق وسورية... هل سيحصل الانسحاب فعلاً؟

يتصاعد مؤخراً حديثٌ مكرر عن احتمال انسحاب القوات الأمريكية من كلٍ من العراق وسورية، ويأتي ذلك في سياق توترٍ متصاعد في مجمل المنطقة، يشتمل على تهديدات واستهدافات إضافية للقوات الأمريكية، وارتفاع الأصوات السياسية الرسمية وغير الرسمية، في العراق خاصة، والمطالبة بخروج الأمريكان.

وإذا كان من المعلوم أنّ هذه ليست هي المرة الأولى التي يُقال فيها هذا الكلام، فإنّ ذلك لا ينبغي أنْ يدفع نحو استنتاج مباشرٍ بأنّ الأمر «مجرد كلام مكرر»، كما لا ينبغي أنْ يتم التعامل معه على أنّه كلامٌ نهائي ولا رجعة فيه.

لذا، يصبح من الضروري وضع الموجة الجديدة من الحديث الإعلامي- السياسي حول الانسحاب الأمريكي المحتمل من العراق وسورية، في إطار السياق العام لتطور الصراع في منطقتنا وفي العالم، وبما يسمح بالوصول إلى تقييم فعلي لمدى جدية هذا الاحتمال، بعيداً عن بازارات الانتخابات الأمريكية المعتادة...

في هذه المادة، سنبدأ باستعراض مكثفٍ للكلام السابق حول الانسحاب الأمريكي من سورية، والذي لم يتمّ تنفيذه فعلياً، إلا بشكل جزئي، ومن ثم ننتقل إلى عرض ما يتم تداوله في الصحافة الأمريكية حالياً حول الموضوع، لننتهي إلى محاولة وضع الأمور في سياقها الراهن بحثاً عن الاستنتاجات.

أولاً: الكلام السابق حول الانسحاب الأمريكي من سورية

الكلام حول سحب القوات الأمريكية من سورية ليس بالأمر الجديد، حيث بدأ الكلام بذلك منذ إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 28 شباط 2019 «تحقيق الهزيمة بشكل كامل لداعش». منذ ذلك الحين، ظهر عدد من الأمثلة عن الحديث عن الانسحاب الأمريكي من سورية، ومن بينها بعض محاولات في الكونغرس لتمرير مشاريع قوانين تأمر بموجبها الرئيس بسحب القوات الأمريكية من سورية.

منذ إعلان ترامب سالف الذكر وحتى الآن، يُقدّر عدد الأفراد من القوات المسلحة الأمريكية الموجودين في سورية بحوالي 900، وهذا العدد لا يشمل الأفراد المحسوبين من المدنيين والذين يوجدون هناك بصفة «مدنية» من خلال عقود مع الجيش الأمريكي، أو المنظمات ذات التبعية المباشرة، أو غير المباشرة للحكومة الأمريكية، بما في ذلك المشاريع الممولة تحت تسميات مختلفة من قبل واشنطن.

لاحقاً، بعد حوالي سبعة أشهر من إعلان ترامب هزيمة داعش بشكل كامل، بالتحديد في 6 تشرين الأول 2019، أمر ترامب بسحب القوات الأمريكية من سورية، الأمر الذي اعترف المبعوث الأمريكي السابق إلى سورية، جميس جيفري، في مقابلة معه في تشرين الثاني 2020، بعد أن ترك منصبه، أنه تم تجاهله تماماً– وتم التطرق إلى ذلك في مادة سابقة نشرتها قاسيون في 16 تشرين الثاني 2020، والتي من المفيد العودة إليها في ضوء تجدد الحديث عن الانسحاب.

كان أحد الاستنتاجات التي قالت بها المادة المشارة إليها، فيما يتعلق بتضليل ترامب وعدم تنفيذ أوامره فيما يتعلق بالتواجد العسكري الأمريكي في سورية هي: «يمكن للمرء أن يقرأ بين السطور أن ترامب، الذي هو في الواقع القائد العام للقوات المسلحة، ليس في الواقع الشخص الذي لديه الكلمة الأخيرة فيما يتعلق بالتحركات والأعمال العسكرية الأمريكية. بطبيعة الحال، لا يستطيع جيفري القيام بذلك بمفرده. إذن، الرسالة هنا هي أن جيفري يستمع فقط لـ«المؤسسة الحاكمة» التي لها الكلمة الأخيرة بغض النظر عمن يجلس في المكتب البيضاوي».

كما تم تقديم مشاريع قوانين تنص على سحب القوات الأمريكية من سورية خلال العام الماضي:
تم تقديم مشروع قانون في مجلس النواب الأمريكي في 21 شباط 2023، بعنوان: «توجيه الرئيس، عملاً بالمادة 5 (ج) من قرار سلطات الحرب، بإخراج القوات المسلحة الأمريكية من سورية»؛ وتم تعديل المدة الزمنية التي ينص عليها مشروع القانون، وإعادة تقديمه في مجلس النواب في 8 آذار 2023؛ وفشل مشروع القانون، حيث صوت لصالحه 103 من النواب مقابل 321 ضده.

تم تقديم مشروع قانون في مجلس الشيوخ الأمريكي في 7 كانون الأول 2023، بعنوان: «قرار مشترك يوجه بسحب القوات المسلحة الأمريكية من الأعمال العدائية في سورية دون تفويض من الكونغرس»؛ فشل مشروع القانون، حيث صوت 13 فقط من أصل 100 عضو في مجلس الشيوخ بـ «نعم».

وفق مقالة في 5 كانون الأول 2023 نشرها موقع «ذا إنترسبت»، قال عضو مجلس الشيوخ الجمهوري راند بول حول مشروع القانون الأخير الذي قدمه «لقد سئم الشعب الأمريكي من الحروب التي لا نهاية لها في الشرق الأوسط... ومع ذلك، لا يزال هناك 900 جندي أمريكي في سورية دون أن تكون هناك مصالح أمريكية حيوية على المحك، ولا تعريف للنصر، ولا استراتيجية خروج، ولا تفويض من الكونغرس بالتواجد هناك». وتضيف المقالة: أن «الصراع الأمريكي في سورية هو مجرد واحد من عدة حروب أبدية... لا تزال مشتعلة لأكثر من عقدين بعد أحداث 11 أيلول، وأكثر من عامين بعد إعلان الرئيس جو بايدن، وللمرة الأولى منذ 20 عاماً، أن الولايات المتحدة ليست في حالة حرب».

وتضيف المقالة: أن «الجيش الأمريكي يقوم بعمليات في سورية منذ عام 2014. والقواعد الأمريكية هناك وفي العراق المجاور موجودة ظاهرياً للقيام «بمهام مكافحة داعش»، على الرغم من أن البنتاغون خلص في عام 2021 إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية في سورية «ربما يفتقر إلى القدرة على استهداف الأراضي الأمريكية». وأشار تقرير حديث للمفتشين العامين إلى الكونغرس إلى أن «قدرات داعش ظلت متدهورة» وأن المجموعة تعمل الآن في «حالة البقاء على الحياة» في كل من العراق وسورية». ونقلت المقالة عن بول قوله: «إذا كنا سننشر شبابنا وشاباتنا الذين يرتدون الزي العسكري في سورية للقتال، وربما التضحية بحياتهم من أجل قضية مفترضة، ألا ينبغي لنا كممثلين منتخبين على الأقل أن نناقش مزايا إرسالهم إلى هناك؟ ألا ينبغي لنا أن نقوم بواجبنا الدستوري ونناقش ما إذا كانت المهمة التي نرسلهم من أجلها قابلة للتحقيق؟»

1159-10

ثانياً: ما يقوله الإعلام الأمريكي حالياً حول الانسحاب

تجدد الحديث عن الانسحاب الأمريكي من سورية قبل عدة أيام عندما نشرت صحيفة «فورين بوليسي» مقالة للباحث تشارلز ليستر، قال فيها: إن مصادر من وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين، قالت: إن البيت الأبيض يخطط للانسحاب من سورية، وحذّر فيها من أنّ الانسحاب إذا ما جرى، فإنّه سيشكل دفعةً قوية لعودة انتشار داعش.

سرعان ما صدرت تصريحات من الإدارة الأمريكية، أنه لن يكون هناك انسحاب من سورية. حيث ذكرت مقالة نشرها موقع «ميدل إيست مونيتور» في 25 كانون الثاني، أنه منذ نشر المقالة المذكورة أعلاه، «وصف متحدث باسم البنتاغون التقرير بأنه «خاطئ»». وقال باحث أمريكي يركز على موضوع الجهاد، في تغريدة له حول نفي البنتاغون: «هذا ليس صحيحاً. يمكنني أن أؤيد مقال تشارلز ليستر بعد أن أجريت مناقشات مماثلة مع مسؤولين أمريكيين أيضاً حول احتمالات الانسحاب الأمريكي من سورية. إنه حقيقي جداً. لا يزال الأمر في مرحلة مبكرة من عملية مراجعة السياسة، ولكن من المؤكد أنه قيد النظر». وأتاه رد في تغريدة من تشارلز ليستر، قال فيها: «شكراً. لقد شجعتني في الواقع رؤية البيت الأبيض ووزارة الدفاع يخرجان بسرعة للإنكار– فهذا يظهر نوع الحساسية التي توجد عادة فقط عندما يكون الادعاء صحيحاً. لا أحد يعلن أنه «يفكر» في الانسحاب على أي حال، لذا فهم بالتأكيد لن يؤكدوا ذلك!»

في مقالة أخرى نشرتها صحيفة «بوليتكو» في 25 كانون الثاني، بعنوان «لن تغادر الولايات المتحدة العراق أو سورية في أي وقت قريب»، ورد حول سورية، أنّ «ثلاثة من كبار المسؤولين في الإدارة أكدوا أن هناك مداولات حول الانسحاب، على الرغم من أنهم صاغوا هذه المداولات كجزء من مناقشات التخطيط الروتينية حول المكان الذي تكون فيه القوات أكثر فائدة، والمدة التي يجب أن تستمر فيها المهمة، ومتى يجب أن تغادر القوات الأمريكية البلد، إن حدث ذلك. ويبحث المسؤولون في زوايا متعددة من الحكومة في التهديد الذي قد يشكله تنظيم داعش إذا غادر الجنود الأمريكيون سورية، فضلاً عن احتمال إصابة المزيد من أفراد الخدمة من الضربات المتصاعدة التي تشنها الجماعات المرتبطة بإيران».

ثم تضيف المقالة: «من الغريب أن كل هذا الحديث عن إنهاء المهام في الشرق الأوسط يمكن أن يكون بمثابة نعمة سياسية لبايدن. تتلخص رسالة الرئيس السابق دونالد ترامب في السياسة الخارجية في أنه سوف يتجنب الحرب العالمية الثالثة، وينهي المهام المشؤومة في الخارج، وهي الحجة التي يتردد صداها بين الناخبين في كلا الحزبين. يمكن أن يتباهى بايدن بإخراج الولايات المتحدة من أفغانستان والعراق وسورية بحلول الوقت الذي يذهب فيه الناخبون إلى صناديق الاقتراع في تشرين الثاني. كل هذا يتوقف، بطبيعة الحال، على ما يحدث مباشرة بعد مغادرة القوات. وقد يؤدي وضع آخر شبيه بما حدث في كابول إلى إضعاف موقف الرئيس».

ومن الجدير بالذكر، أن هذا كله تزامن مع كلام حول مداولات بين واشنطن وبغداد حول خروج الأمريكي من العراق. وتمت تغطية هذا الموضوع من عدة جهات إعلامية، وكان موضوع الانسحاب من سورية نقطة أساسية ضمن الحديث حول الانسحاب من العراق.

في مقالة نشرها موقع «المونيتر» في 24 كانون الثاني بعنوان «الولايات المتحدة والعراق يبدأان محادثات بشأن الإنهاء المحتمل لوجود التحالف»، يقول الكاتب حول توقيت بدء المحادثات، وبحسب مسؤولين أمريكيين: إنه «تم تأجيلها [المحادثات] بسبب هجمات 7 أكتوبر في إسرائيل والحرب الناتجة عنها في قطاع غزة»، ولكن هناك دفعاً من الحكومة العراقية لوضع جدول زمني للانسحاب. ووفق المقالة «قال مسؤول دفاعي أمريكي كبير... إن المحادثات على مستوى مجموعة العمل ستغطي كيفية تطور المهمة العسكرية للتحالف على أساس جدول زمني، بناء على تقييمات حول التهديد الذي يشكله تنظيم داعش والقدرات العسكرية العراقية والمتطلبات التشغيلية والبيئية لمنع عودة الجماعة الجهادية... ونفى المسؤولون الأمريكيون أن يكون لبدء الحوار أي علاقة بالمعاملة بالمثل مع الميليشيات المدعومة من إيران». وتضيف: أن «مسؤولي إدارة بايدن يقولون: إن قدرات واحتياجات الجيش العراقي المستقبلية أمر متروك للقادة في بغداد لتحديده».

وحول التواجد الأمريكي في سورية، تقول المقالة «إن وجودهم يجمع بين تحالف من القوات السورية التي يقودها الأكراد، والتي يُنسب إليها الفضل في حراسة أكثر من 50 ألف معتقل مرتبط بتنظيم الدولة الإسلامية في معسكرات وسجون مؤقتة، بموارد قليلة. ويعتمد وجود القوات الأمريكية بشكل كبير على الخدمات اللوجستية التي تقدمها القوات الأمريكية المتواجدة حول أربيل في إقليم كردستان العراق». وتضيف: أن «مجلس الأمن القومي لبايدن بدأ بمراجعة أولية لاستراتيجية الخروج المحتملة من سورية... على الرغم من عدم اتخاذ أي قرارات بعد، كما يصر المسؤولون».

في مقالة نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» في 25 كانون الثاني بعنوان «الولايات المتحدة تشير إلى أنها منفتحة على سحب بعض قواتها من العراق»، ورد: أن وزير الدفاع الأمريكي أشار إلى أن الباب مفتوح لتقليص التواجد العسكري الأمريكي في العراق، «قائلًا: إن الاجتماعات المقرر أن تبدأ قريباً بين مسؤولين من البلدين ستمكن من الانتقال إلى شراكة أمنية ثنائية دائمة تعتمد على سنوات من العمليات المشتركة ضد تنظيم داعش». وفق المقالة، تأتي هذه التصريحات خلال مرحلة حساسة، حيث «دعا العديد من المسؤولين العراقيين إلى طرد القوات الأمريكية بعد دورة من العنف استمرت لأشهر، وأججتها الحرب بين إسرائيل وغزة، بين الميليشيات المدعومة من إيران والقوات الأمريكية». كما أشارت المقالة إلى أن «المواقع العسكرية الأمريكية في العراق وسورية تعرضت للهجوم 153 مرة على الأقل منذ تشرين الأول من قبل الجماعات المسلحة التي دربتها إيران وزودتها بالإمدادات... وأصيب نحو 70 أميركياً في هجمات الميليشيات منذ تشرين الأول، وأصيب جندي واحد بجروح خطيرة».

وحول عدم الوضوح فيما تخططه الولايات المتحدة، تقول المقالة: «ترك عدم الوضوح الباب مفتوحاً أمام إمكانية قيام الولايات المتحدة بسحب قواتها من بعض المواقع في العراق، وربما من سورية. وتعتمد القوات الأمريكية في سورية على الدعم اللوجستي من العناصر الأمريكيين في العراق».

كما نشرت صحيفة «فوربس» مقالة في 25 كانون الثاني بعنوان «هل هذه بداية النهاية لانتشار القوات الأمريكية في سوريا والعراق؟» والتي تطرقت إلى مقالة «فورين بوليسي» المشار إليها أعلاه. ونوهت المقالة إلى أن «مسؤولاً أمريكياً كبيراً قال لشبكة (سي-إن-إن) إن البيت الأبيض «لا يفكر في سحب القوات من سورية». جاء ذلك بعد وقت قصير من كشف تقرير سابق للمونيتور، أن البنتاغون لديه خطة لقوات سوريا الديمقراطية للدخول في شراكة مع نظام الأسد ضد تنظيم الدولة الإسلامية، مما يشير إلى أن الولايات المتحدة لديها خطط للانسحاب في نهاية المطاف». ونقلت المقالة عن محلل عسكري: أن «للولايات المتحدة مصلحة في الخروج في نهاية المطاف من سورية بطريقة مستدامة، لكنني أعتقد أننا سنحتاج إلى مزيد من الوقت قبل أن يؤتي ذلك ثماره».

تضيف المقالة: أنه «في الوقت الحالي، تجد القوات الأمريكية في سورية نفسها في وضع محفوف بالمخاطر حيث جعلت إيران وحلفاؤها من الميليشيات التي لا تعد ولا تحصى من طردهم هدفها الأساسي منذ بدء الحرب في غزة. وفي حين أن هذه الميليشيات لا تستطيع مهاجمة إسرائيل بشكل مباشر، إلا أنها تستطيع استهداف القواعد الأمريكية في المنطقة، كما فعلت منذ 19 تشرين الأول» وأنه «من الممكن أن تؤثر الأحداث في العراق المجاور بشكل مباشر على مستقبل الانتشار في سورية». ونقلاً عن أحد الخبراء، تقول المقالة «إذا تمكن الإيرانيون من استفزاز القوات الأمريكية ودفعها إلى قتل المزيد من القادة العراقيين، فقد يضطر السوداني إلى تنفيذ تهديده بطرد القوات الأمريكية... القواعد الأمريكية في العراق أساسية لدعم الموقف الأمريكي في سورية... إذا غادرت القوات الأمريكية العراق، فلن تتأخر عن ذلك كثيراً في سورية». ويعتقد خبير آخر، أنّ «الانسحاب الأمريكي لن يحدث إلا عندما تقرر واشنطن القيام بذلك بشكل أحادي بدلاً من إجبار بغداد لها على المغادرة».

وبحسب مقالة أخرى نشرتها وكالة «إي بي سي» الإخبارية في 26 كانون الثاني، حول قرار المضي قدماً في النقاشات الأمريكية- العراقية حول الانسحاب الأمريكي من العراق، «قال العديد من مسؤولي وزارة الدفاع، الذين تحدثوا شريطة عدم الكشف عن هوياتهم من أجل مناقشة تفاصيل حساسة: إن الهجوم الأخير على القوات الأمريكية في العراق لم يؤثر في القرار، وأن المفاوضات ربما كانت ستبدأ في وقت أقرب لو لم تبدأ الحرب بين إسرائيل وحماس». وأشارت المقالة إلى أنه «منذ الخريف الماضي، تم شن حوالي 60 هجوماً على القوات الأمريكية في العراق وأكثر من 90 هجوماً في سورية، حيث يلقي المسلحون المدعومون من إيران اللوم على الولايات المتحدة لدعمها لإسرائيل».

تضيف المقالة: أن «وزير الدفاع لويد أوستن قال: إن أي قرار بانتقال مهمة التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة سيتوقف على ثلاثة عوامل– تهديد تنظيم الدولة الإسلامية، والمتطلبات التشغيلية والبيئية، وقدرات قوات الأمن العراقية».

1159-5

ثالثاً: السياق والاستنتاجات

أول ما ينبغي تعلّمه من التجربة السابقة، وخاصة مما كشفه جيمس جيفري المبعوث الأمريكي السابق وقت ترامب، من أنّ ترامب أمر بالانسحاب من سورية فعلاً لكن لم يتمّ تنفيذ قراره، هو أنّ الرئيس الأمريكي، ورغم أنه نظرياً القائد الأعلى للقوات المسلحة الأمريكية، فهو لا يملك فعلياً القرار النهائي في بقاء أو انسحاب القوات الأمريكية من أي نقطة في العالم، بل القرار تملكه الدولة العميقة العابرة للرؤساء وموظفي الدرجة الأولى المتعاقبين على واجهة السلطة.

يمكن قول الشيء نفسه عن بايدن (مع اختلاف أنّ هنالك تقييمات بأنّ بايدن، بسياساته التي يتبعها، هو أكثر قرباً من تمثيل تلك السلطة العميقة، على الأقل هو أقرب من ترامب). ويمكن ضمناً أن يقف المرء في قراءة المسألة عند حدود البازار الانتخابي الأمريكي التقليدي على اعتبار أننا دخلنا سنة انتخابات رئاسية أمريكية جديدة، وأنّ رأياً عاماً شعبياً واسعاً في أمريكا يرفض استمرار العبث العسكري الأمريكي حول العالم.

لكنّ هذا التفسير يبقى ناقصاً وجزئياً ومحتملاً للخطأ بنسبة كبيرة، لأنّه ينطلق فقط من الواقع الأمريكي الداخلي، ومن لعبة الانتخابات الداخلية، التي أظهرت العقود الستة الماضية (مما بعد فيتنام) أنّ دورها في تحديد السياسة الخارجية للولايات المتحدة، هو دورٌ ثانوي إلى حد بعيد. كما أنّ هذا التفسير يهمل التغيرات العالمية الكبرى الجارية، وخاصة المعارك الكبرى الجارية في منطقتنا واحتمالاتها المفتوحة.
دائماً ما كانت نقطة الانطلاق الأفضل في فهم وتوقع السياسة الأمريكية الخارجية، بعيدة كل البعد عن الرأي العام في أمريكا نفسها؛ نقطة الانطلاق الأفضل هي فهم مصالح النخبة الدولارية الحاكمة في أمريكا، ومصالحها العالمية من جهة، وداخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها من جهة ثانية؛ فإبقاء الشعب الأمريكي والولايات الأمريكي تحت السيطرة، شرطٌ لازمٌ (غير كافٍ) لاستمرار الهيمنة العالمية.

ضمن هذه الإحداثيات، يصبح العامل الأكثر بروزاً، هو أزمة الهيمنة العالمية التي يعيشها الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، والتي تتفاقم ليس فقط بحكم صعود منافسين أقوياء اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً، بل وبالأساس نتيجة انزياح مركز العملية الإنتاجية العالمي باتجاه الشرق والجنوب العالميين خلال الخمسين عاماً الماضية، تحت تأثير قانون انخفاض معدل الربح مع تعقد التركيب العضوي لرأس المال.

بعد انزياح مركز العملية الإنتاجية، ما بات موضوعاً على طاولة البحث التاريخي، هو المكافئ السياسي والمالي لعملية الانزياح هذه؛ الأمر الذي يجد ترجمته العملية بالاستهداف المتصاعد للمنظومة الدولارية التضخمية والناهبة، لحساب علاقات تبادلٍ متكافئ تقودها الدول الصاعدة، مع دول الجنوب العالمي الساعية للتحرر من الاستعمار الاقتصادي الغربي المستمر منذ أوساط الستينيات من القرن الماضي.

وعليه، فإنّ الجهد الأساسي للولايات المتحدة، ينصرف هذه الأيام إلى عرقلة هذا التحول العالمي، الذي ستكون أول تداعياته هي انهيار مستوى المعيشة والاستهلاك المفرط داخل الولايات المتحدة، وارتفاع التناقضات الداخلية (التي بدأنا منذ عدة سنوات نرى ملامحها الأولى المتصاعدة يومياً)، بما يعنيه ذلك حكماً من تفتت للمركز السياسي لمنظومة الهيمنة الغربية، والذي سيكون نقطة الختام في الانتقال العالمي الجاري نحو منظومة دولية جديدة.

لا يعود من الصعب، ضمن هذا المنظور، فهم البلطجة الأمريكية اتجاه أوروبا خاصة، والتي يجري امتصاصها باتجاه الولايات المتحدة، بوصفها احتياطياً لها، و«مطمورة» تكرسها واشنطن اليوم على أمل تأجيل انفجار الأزمة داخلها.

ولا يعود من الصعب، فهم رغبة الولايات المتحدة في إشعال أكبر قدرٍ من الحروب حول العالم، وخاصة في جوار الدول الصاعدة، ليس فقط لأنّ «الحرب هي الرئة الحديدية التي تتنفس منها الرأسمالية»، بل ولأنّ الرأسمالية الأمريكية قد تحولت بكاملها إلى رئةٍ حديدية، لا يمكنها الاستمرار دون قدرٍ واسعٍ من الحروب الموزعة...

مع ذلك، فإنّ هذه الرئة الحديدية تعاني ما تعانيه من صدأ يظهره بوضوح ما يجري في البحر الأحمر وفي غزة وفي شمال سورية وفي العراق؛ فقدرة الأمريكي على تحمل الضربات في ظل الأزمة هي قدرة محدودة في نهاية المطاف، ولذا فإنّ احتمالات انسحابه ترتفع.

مع ذلك، فإنه لن يقدم على الانسحاب تاركاً منطقة من أكثر المناطق أهمية بالمعنى الجيوسياسي في العالم، لمنافسيه الروس والصينيين، وللقوى الإقليمية في المنطقة، وعلى رأسها السعودية وإيران وتركيا ومصر، والتي تميل للعب أدوار أكثر استقلالية عن مجمل القوى الدولية المتصارعة. ولذا ينبغي أن نتوقع أنّ انسحاب القوات الأمريكية من العراق ومن سورية، في حال تم، فإنه سيكون جزءاً من مخطط الفوضى الشاملة في المنطقة بأسرها؛ وسيظهر أنّ تشارلز ليستر صادقٌ في «توقعاته» بأنّ داعش ستعود للنشاط بشكلٍ واسع، وأنّ الفوضى سترتفع في مجمل المنطقة.

وإذا كان هذا ما يخطط له الأمريكان ببراغماتيهم المعروفة، والتي تسعى لاستخراج انتصار من أي هزيمة، بما فيها الهزيمة السياسية المتوقعة في حال الانسحاب، فإنّ القوى الأخرى ليست عديمة الحيلة، بل هي في وضعٍ أفضل بكثير مما كان عليه قبل 10-20 سنة حين اجتاح الأمريكان المنطقة.

من اللافت في هذا السياق، ما ورد على لسان المبعوث الروسي إلى سورية مؤخراً حول انسحاب الأمريكان المحتمل من سورية، والذي قال: إنّ كثيراً من المشاكل يمكن حلّها في سورية خلال 3 إلى 6 أشهر بعد انسحاب القوات الأمريكية... وبغض النظر عن مدى الدقة الزمنية لهذا التقدير، إلا أنه يعني ضمنياً، أنّ هنالك تقييماً لحجم الفوضى التي يسعى الأمريكان لإشعالها عبر انسحابهم، وهنالك استعدادات تتخذها مختلف القوى للتعامل مع هذه الفوضى والعمل على تطويقها...

يضاف إلى ذلك كلّه، تأثير الملف الأكثر اشتعالاً في المنطقة: فلسطين. والسعي الأمريكي المحموم لإطالة الحرب إلى أقصى مدى ممكن، مع رفع التوترات في كل المنطقة، والدفع نحو تفجير مصر خاصة والسعودية ثانياً، وتجدد الفوضى على نطاق واسع في كل من سورية والعراق، من شأنه إشغال إيران والروس وحتى الأتراك، وتوسيع هامش التخريب الأمريكي الصهيوني في مصر وحولها...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1159
آخر تعديل على الأربعاء, 14 شباط/فبراير 2024 13:57