ما الذي يكمن وراء الحديث عن «علم إسرائيل المسبق» بـ 7 أكتوبر؟

ما الذي يكمن وراء الحديث عن «علم إسرائيل المسبق» بـ 7 أكتوبر؟

خلال الأيام الماضية، نشرت عدة منابر إعلامية، أمريكية و«إسرائيلية»، بينها «ذا نيويورك تايمز»، ما وصفته بأنها تقارير أمنية، تكشف أنّ الكيان كان على علمٍ بالتحضيرات الجارية لـ 7 أكتوبر، وأنّه إما استخف بها ولم يأخذها على محمل الجد، أو أنه سمح بحدوثها في إطار خطة أوسع لـ«تصفية القضية الفلسطينية».

ضمن التعامل مع هذا النوع من المواد، لا بد من التفكير على مستويين متداخلين على الأقل؛ الأول: هو تقييم مدى صحة ما يتم طرحه فيها. والثاني: هو الأهداف السياسية والإعلامية والنفسية التي يحاول الأمريكي والصهيوني تحقيقها من خلالها.
من الواضح قبل كل شيء، أنّه من السهل تصنيف هكذا أقاويل بأنها تندرج ضمن «نظرية المؤامرة»، وهذا بحد ذاته كافٍ بالنسبة للكثيرين لرميها جانباً وعدم الاكتراث بها. الطريف في المسألة، أنّ الإعلام الأمريكي الذي «يناضل ضد نظريات المؤامرة»، ينزلق هذه المرة بشكل فاضحٍ وواضح، من حيث الشكل على الأقل، في الترويج لـ«المؤامرة». تفسير هذا الأمر يتطلب نقاشاً مختلفاً ليس هذا مكانه، لكن الإشارة إليه ربما تكون ضرورية ضمن هذا السياق لفتح باب التفكير بما يعنيه هذا «التحول».
بالعودة إلى صلب المسألة، فإنّ الأهداف التي يمكن استقراؤها بوضوح من الترويج لهذه «المؤامرة» بالذات، يمكن حصرها بما يلي:
أولاً: هي محاولة لإنقاذ سمعة الأجهزة العسكرية والاستخبارية الصهيونية، التي أتخمت البشرية بأسرها في الترويج لسوبرمانيتها ولقدراتها الإعجازية، ليس ضمن حدود فلسطين المحتلة فقط، بل وحول العالم. فحين يجري القول: إنّ الكيان كان على علمٍ بالتحضيرات، وأنه «سمح» بحدوث 7 أكتوبر، فهذا يعني أنّه- كما هي العادة- شديد الذكاء، وبعيد النظر، وقادر على صياغة ألعاب تنتمي إلى حقل الرياضيات العليا، ليس بمقدورنا– نحن البشر الطبيعيين- أن نفهم «الحكمة» من ورائها...
ثانياً: هي محاولة لإلقاء ظلالٍ من الشك على حماس، عبر اتهامها بشكل مباشر، أو غير مباشر بأنها متعاونة مع الكيان وتعمل لتحقيق أهدافه. وليس خافياً على أحدٍ أنّ سياسة «فرق تسد»، إنْ كانت نافعة من وجهة نظر الاستعمار في فترات السلم، فإنها أنفع وأكثر ضرورة في أوقات الحرب. والمقصود بشكل ملموس في قلب الحرب التي نعيشها، هو العمل لشق الصف الفلسطيني من جهة، والعمل أيضاً لشق صف شعوب المنطقة، وشعوب العالم، التي اتخذت بجلّها الأعظم موقفاً واضحاً وحاسماً وصارماً إلى جانب الشعب الفلسطيني. أكثر من ذلك، فإنّ إلقاء هذه «المقولات المؤامراتية» في بازار الحديث الإعلامي، من شأنه أن يتحول إلى مادة تستخدمها الأبواق المحلية للغرب وللكيان، في صياغة جبالٍ من نظريات المؤامرة، وظيفتها شق الصف الإقليمي أيضاً، وليس فقط الشعبي. مثلاً (وهذا ليس مثلاً افتراضياً)، يستخدم بعض أبواق الغرب في منطقتنا هذه المادة، ليبنوا «تحليلات» غرائبية من نمط أنّ إيران وعبر «حماس بوصفها أداةً لها!» قد اتفقت مع الكيان بشكل مسبق على ما يجري لتحقيق مصالح معينة لكلٍ منهما... وهكذا دواليك من أكوام الهراء المجاني.
ثالثاً: يسمح الحديث عن «تآمر إسرائيلي حمساوي»، بإعطاء هامش مناورة للأنظمة المطبعة، أو الراغبة بالتطبيع، لمحاولة استخدام هذا الكلام في الحد من غضب شعوبها، وفي تعليق الآمال على العودة لمسار التطبيع الذي- على الأقل- قد تجمد بحكم الأمر الواقع، إنْ لم يكن قد تعرض لضربة قاضية ستظهر آثارها، وإنْ بعد حين.
رابعاً: إعادة التأكيد على «سوبرمانية» الكيان، عبر ترويج نظريات المؤامرة، من شأنها (من وجهة نظر الصهيوني والأمريكي)، أنْ تخفف من حجم الخسارة التي وقع فيها الكيان، ومن شأنها محاولة التقليل من تقييم حجم التطور النوعي الذي أحرزته المقاومة الفلسطينية. وبالمحصلة، من شأنها تأخير انهيار النظريات التي تم العمل عليها أمريكياً وصهيونياً خلال السنوات العشر الأخيرة على الأقل، والتي تتلخص بالمقولة التالية: «إسرائيل» هي القوة الأهم في المنطقة، ومن يتحالف معها ينجو، ومن يعاديها تنتظره الهزيمة.

جانبٌ آخر في المسألة

ما أوردناه أعلاه يمكن إدراجه في إطار الحرب الإعلامية النفسية، ولكن هنالك جانباً آخر لا ينبغي إهماله؛ جانب له طابعه الاستراتيجي...
تكثيف الحديث عن «المؤامرة»، له هدف إضافي شديد الأهمية فيما نعتقد، وهو تحضير الإقليم بأسره، والعالم ككل، لما يجري التخطيط له أمريكياً كمخرج من المأزق العميق، ليس مأزق الكيان فحسب، بل والمأزق الأمريكي أيضاً.
فخارطة الصراع بالنسبة للصهيونية العالمية ولمركز القرار الأمريكي، ليست محصورة في فلسطين، بل هي أوسع من ذلك بكثير؛ فالنار في غزة- من وجهة النظر الأمريكية- يجب استخدامها كصاعق تفجيرٍ متسلسل ضمن الإقليم، لأنّ أي شكلٍ ستنتهي له المعركة ضمن فلسطين، سيكون خسارة موجعة لكل من الكيان وأمريكا معاً، ولن يكونا قادرين على تحمل التبعات التي ستترتب عليها في كامل الإقليم، وهو الإقليم المفتاحي ضمن الصراع الدولي بأسره. (لا نتحدث هنا عن سقوط اتفاقات أبراهام فحسب، بل وعن إعادة وضع كامب ديفيد، ووادي عربة على الطاولة، وبانتهاء أو على الأقل تقلّص قدرة الكيان على لعب دور البلطجي المخرب في كامل المنطقة، الأمر الذي سيفتح الباب نحو إعادة تركيب كامل المنظومة الإقليمية، وكامل أنظمتها بما يتناسب مع التوازن الدولي الجديد، وبعيداً عن معادلة التبعية والاستعمار الاقتصادي اتجاه الغرب).
لذلك كلّه، فإنّ النار المشتعلة في غزة، من وجهة النظر الأمريكية الصهيونية، وبعيداً عن المهاترات المؤامراتية، هي نارٌ ينبغي بالضرورة استثمارها كرافعٍ لدرجة حرارة المنطقة، باتجاه التفجير الشامل والفوضى الشامل. وربما ليس من الصعب أن نحدس أنّ الهدف المباشر الأقرب هو تفجير مصر، الضخمة سكانياً وجغرافياً، ومن حيث الوزن، والتي يمكن إنْ نجح الأمريكي والصهيوني في تفجيرها من الداخل، أن تتحول إلى ثقبٍ أسود لمجمل مشاريع التنمية والتحرر في المنطقة، ويمكنها أن تتحول هي نفسها إلى صاعق تفجيرٍ للسعودية... وهكذا.
ربما من المفيد التنبه جدياً إلى هكذا احتمالات، رغم أنّ قدرة الأمريكان على تنفيذها ما تزال موضع شكٍ كبير. ومن الضروري أيضاً العمل ضدها بشكلٍ استباقي. وأهم أدوات العمل ضدها هي تغيير إحداثيات معادلة الصراع باتجاه كسر لاءات أمريكا وعلى رأسها «لا لتوسيع رقعة الصراع».. وهذا ينبغي بالضرورة أن يتم بشكل إبداعي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1151
آخر تعديل على الأحد, 10 كانون1/ديسمبر 2023 15:28