ثلاث آليات غربية للتعامل مع الغضب الشعبي المتعاطف مع فلسطين

ثلاث آليات غربية للتعامل مع الغضب الشعبي المتعاطف مع فلسطين

إلى ما قبل العدوان الصهيوني الأخير على غزة، كان يبدو أنّ «ثقافة الترند» قد سيطرت نهائياً، ولم يعد هنالك فكاكٌ منها. نقصد بذلك أنّ المدى الزمني لتفاعل الناس مع أي «شيء جديد» لا يتجاوز في أقصى الأحوال أسبوعاً؛ سواء كان الأمر زلزالاً، كارثة، حرباً... أو أي شيء آخر. تتفاعل الناس، تتعاطف، تشتم، تناقش، تحاجج، ومن ثم يتم طوي الموضوع/ الترند والانتقال إلى الموضوع/ الترند التالي وهكذا، رغم أنّ معاناة من وقعت عليهم الكارثة أو الحرب لا تكون قد انتهت، بل وأحياناً تكون قد تعاظمت.

ما نشهده من تفاعل شعبي على المستوى العالمي، هو كسرٌ لهذه النمطية المستحدثة؛ فالمظاهرات الاحتجاجية المناصر للفلسطينيين ما تزال مستمرة، ويزداد عدد المشاركين فيها على أساس أسبوعي، وفي عدد كبير من دول ومدن العالم. وكذلك الأمر مع شتى أشكال الاحتجاج الأخرى التي يجري استخدامها، والتي يزداد عددها وتتحسن نوعيتها مع الوقت.
لن ندخل هنا في محاولات تفسير هذا الاستثناء من «ثقافة الترند» السائدة، ولكن سنحاول أن نفهم الآليات التي تتعامل من خلالها الحكومات الغربية، خاصة مع الاحتجاج المناصر لفلسطين ومع اتساعه، لأنّ فهم هذه الآليات ضروري في توقع ما يمكن أن تقدم عليه هذه الحكومات مع الوقت، وفي التنبؤ بأي سيناريوهات ترسمها هذه الحكومات للحركة الاحتجاجية وتناميها في بلدانها.

أولاً: «التبلد العاطفي»

ربما تكون واحدة من أهم الميكانيزمات التي يجري استخدامها ضد الشعوب وضد حالة التعاطف لديها، هي دفعها نحو «الاعتياد»؛ الاعتياد على مناظر القتل والدماء والدمار. يذهب بعض دارسي علم نفس المجتمع أبعد من ذلك؛ فيرون أنّه حتى ذلك النمط من البرامج «التثقيفية/ العلمية» التي تعرض مشاهد الافتراس البرية تدخل ضمن الغرض نفسه؛ فحين يرى الإنسان للمرة الأولى مشاهد الافتراس يتعامل معها بقدرٍ من الصدمة وعدم الارتياح، ولكن تكرارها مرة وراء الأخرى يجعلها معتادةً بل و«ممتعة»!
الأمر نفسه ينطبق على ما يسمى «أفلام الرعب»، والتي تُحول القتل إلى أمر اعتيادي متكرر، وتجعل من قيمة حياة الإنسان أخفض فأخفض. وعند هذا الحد تتحول نشرات الأخبار نفسها، وبالتدريج، إلى «مسلسل» جديد، شبيه ببرامج الافتراس البري، وبأفلام الرعب.
التعاطف الإنساني هو مسألة طبيعية وغريزية، ولكنه أمر مجهد وانتقائي ولا يمكن أن يكون مستمراً طوال الوقت؛ فالبناء الطبيعي للإنسان على أساس التجربة التاريخية للبشرية يحتوي ضمنه التعاطف، ولكن يحتوي أيضاً «حياة طبيعية» بهذا القدر أو ذاك، تمر ضمنها مواقف بعينها تتطلب التعاطف. ولكن حين يصبح الضخ اليومي للمآسي مستمراً، ليس لشهر أو شهرين بل لعشرات السنين، تبدأ الناس بـ«تقنين» و«ترشيد» آلية التعاطف... وهذا يسمح بفهم الأدوار غير المباشرة التي يلعبها الإعلام في تغطيته للقضية الفلسطينية، بما في ذلك الذي يقدم نفسه مناصراً لها، والذي يُحول ساعات بثه الكاملة إلى بيت عزاء ومناحة مستمرة، بحيث يستنزف تعاطف الناس بأسرع وقت ممكن، ويدفعهم دفعاً للانصراف عن هذا التعاطف ومتابعة حياتهم. وذلك بدلاً من التركيز على الأبعاد الشاملة لما يجري، وخاصة على الجوانب التي تظهر الجدوى الفعلية من عمليات المقاومة، والتأثيرات الفعلية التي تحدثها في كيان العدو ولدى حلفائه... فحتى في العرف الشعبي البسيط، حين يموت إنسان، ولو بحادث سير، فإنّ الناس خلال العزاء به لا يغرقون في وصف كيف سحقت عظامه، ومن أي جانب دخل حديد السيارة في جسده، ومن أي جانب خرج... بل ينصرفون إلى ذكر محاسنه وأعماله الطيبة في حياته...إلخ
وإذاً، يمكن القول: إنّ واحدة من الآليات التي تستخدمها الحكومات، عبر الإعلام، هي دفع الناس نحو «التبلد العاطفي» تجاه الدم الفلسطيني، ليس عبر إخفائه، بل على العكس عبر إغراق المشهد به والتغطية على كل شيء آخر... ليتحول الأمر إلى «مشهد مؤلم» مستمر، تتم عبره التغطية على الهزيمة التي تلقاها العدو، وعلى الضربات التي ما يزال يتلقاها.

ثانياً: «التنفيس»

كاستكمال لآلية التبلد العاطفي، تلجأ بعض الحكومات إلى آلية التنفيس. ربما أوضح مثال على ذلك هو المثال البريطاني، الذي يتمسك بموقف رسميٍ منحازٍ تماماً للكيان، ولكنه في الوقت نفسه يترك موجة الغضب الشعبي تمتد إلى أقصى مدى لها، مع التعويل على الوقت، الذي كلما مرّ واستطال، تعمل آلية «التبلد العاطفي» بشكل أكبر. بالتوازي، تقوم هذه الحكومات بإجراءات شكلية تنفيسية من نمط إقالة وزير من الوزراء بسبب «اتهامه لرئيس شرطة لندن بالانحياز...».

ثالثاً: «تحويل الغضب ضد أصحابه»

كانت قاسيون قد وقفت مسبقاً عند معاني مختلفة للاحتجاجات الشعبية التي تحدث في الدول الغربية تعاطفاً ودعماً للقضية الفلسطينية، وبينها أنّ هذه الاحتجاجات لا تتعلق بفلسطين فقط، بل وهي في الوقت نفسه تعبير عن غضب شعبي ضد الحكومات، وضد سياساتها التمييزية والعنصرية، وضد سياساتها الاقتصادية المنحازة ضد مصالح عموم الناس، ولمصلحة الأقليات المالية الحاكمة.
يمكن أن نضيف هنا، أنّ الحكومات الغربية، وفي ظل الأزمة الاقتصادية الشاملة، وما يرافقها وينتج عنها من أزمات سياسية عبر العالم وحروب وكوارث، تتجهز لمواجهة غضب شعوبها المرتبط مباشرة بسياساتها الداخلية بالدرجة الأولى.
في هذا السياق، فإنّ واحدة من الآليات الواضحة، هي استخدام «الفوالق» ضمن المجتمعات الغربية، واختراعها وتكريسها إن لزم الأمر؛ «الفالق» الأوضح الذي يجري العمل عليه، هو الفالق بين «المهاجرين» و«الأصليين»، وهو نفسه الذي يجري على أساسه رسم خارطة كاريكاتورية للاصطفاف السياسي، بحيث يصبح الفرق بين اليمين واليسار هو الفرق بين من يناصر «المهاجرين» و«الأصليين»، وتصبح المسألة وكأنها حرب ثقافية ودينية، وليست صراعاً اقتصادياً وصراع مصالح بين من هم تحت ومن هم فوق، علماً أنّ من هم تحت هم من المهاجرين والأصليين، ومن هم فوق أيضاً، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ نسبة المهاجرين ممن هم تحت هي بطبيعة الحال الأعلى...
والآن، مع الوضع الفلسطيني، تجري محاولة تحويل المسألة إلى شكل من «صراع الحضارات» وحتى «صراع الأديان».. وهذا كلّه يجري استثماره لتعزيز اليمين الفاشي وتعزيز صعوده، وكل ذلك يصب في المحصلة في تقويض ما تبقى من حريات، وفي تجهيز المجتمع لحالة صراع داخلي دموي، يبدو أنه المخرج الوحيد من وجهة نظر المنظومات الحاكمة، بحيث يتم توجيه طاقة الناس ضد بعضهم البعض، بدل أن يتم توجيهها ضد المنظومة...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1149