إلى أين وصل الحراك في السويداء؟

إلى أين وصل الحراك في السويداء؟

من المفهوم تماماً، أنّ الحدث الفلسطيني قد غطى على كلّ الأحداث الأخرى، ليس في سورية أو في منطقتنا فحسب، بل وحول العالم بأسره أيضاً. وهذا أمرٌ طبيعي ومتوقع لما للحدث الفلسطيني من أهمية نوعيةٍ ومفصلية في مجمل الصراع العالمي، وفي منطقتنا، وفي بلدنا على وجه الخصوص. ولكنّ هذا بكل الأحوال، لا يمنع من محاولة إلقاء نظرة فاحصةٍ على كيفية تطور الحراك في السويداء، والذي اقترب من إتمام ثلاثة شهور متواصلة منذ بدايته.


أول ما ينبغي تثبيته، هو أنّ الحريص على الحراك الشعبي وعلى تطوره وصولاً لتحقيق مطالبه، ينبغي أن يكون صادقاً مع نفسه ومع الناس، ولا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يسعى لإخفاء الحقائق أو تزيينها، وعلى الخصوص، ينبغي ألا يحاول التغطية على الأخطاء والمشكلات، بل ينبغي أن يدفع باتجاه حلّها لدفع الحركة نحو التطور والتقدم والتوسع.
إذا أردنا تقييم الحراك في السويداء تقييماً موضوعياً، فيمكننا القول: إنّه كان في حالة صعودٍ متواصل خلال شهره الأول. وأهم المؤشرات على صعوده كانت متمثلة في أربعة أمورٍ أساسية: أولاً: الإصرار على السلمية والابتعاد عن أي أفعالٍ استفزازية. ثانياً: تزايد أعداد المشاركين بشكلٍ شبه يومي. ثالثاً: إصرار المشاركين على منع أيّ جهة كانت من امتطاء حراكهم وتنصيب نفسها ناطقاً باسمه، ونجاحهم في ذلك. رابعاً: الصراع السياسي الإيجابي على الأرض بين الأفكار والاتجاهات، والتأكيد على الوجه الوطني الجامع للحراك بالاستناد إلى رمزية قادة الثورة السورية الكبرى، وإلى رمزية العلمين، وإلى القرار 2254 كشعار جامعٍ يخص سورية بأكملها.
مع انتهاء الشهر الأول تقريباً، بدا وكأنّ الحراك قد وصل إلى ذروته، على الأقل من حيث أعداد الناس الجدد الذين ينضمون إليه. ولا بد أنّ توقف عدد المشاركين عند سقفٍ معين لم يتجاوزه يعود لعدة أسباب متداخلة، لا شك في أنّ أحدها هو: التعب وصعوبة أحوال الناس الذين يعيشون يوماً بيوم كما يقال، أي يحصّلون رزقهم أولاً بأول، وبالكاد يستطيعون فعل ذلك. ولكن الاكتفاء بهذا السبب باعتباره السبب الوحيد والأساسي هو إما جهل بالحقائق أو التفاف عليها.
هنالك عدة أسباب إضافية، بينها ما يلي:
الشعور بعدم الجدوى: لأنّ الناس بالأساس يعيشون أحوالاً شديدة الصعوبة، ويقفون على حافة اليأس أو في قاعه، فإنّ ثقافة العمل الاحتجاجي طويل المدى والمجدي في نهاية المطاف، ليست راسخة بعد لدى عموم الناس. يضاف إلى ذلك أنّ ما عزز الشعور عند كثيرين بعدم الجدوى، هو أنهم كانوا يعلقون آمالاً على انتشار الحركة بشكل مشابه في عدة محافظات سورية بالتوازي، ولم يحصل ذلك لأسباب متنوعة، بينها الوضع الخاص نسبياً لكل منطقة من المناطق السورية، وبينها ما يتعلق بالأخطاء التي وقعت بها الحركة في السويداء، وبالأحرى الأخطاء التي تمّ جرها إليها وقللت من تفاعل المناطق السورية الأخرى معها (وهذا سنتحدث عنه تالياً).
محاولات فرض قيادة سياسية بالباراشوت: بدأت محاولات فرض قيادة على الناس الذين في الشارع عبر «البيانات رقم 1» وعبر إنشاء «تشكيلات سياسية» متعددة ذات بعد محلي، وبشكل فوقي دون الرجوع إلى الناس، ودون مشاورتهم، ودون تنضيج المسألة معهم خطوةً بخطوة كما ينبغي للأمور أن تتم.
قيادة إعلامية- سياسية: محاولات الفرض لم تقف عند حدود «البيانات رقم 1»، بل تجاوزتها نحو مجالين آخرين مهمين، الأول: هو الإعلام (وفي هذه الحالة نتحدث خاصة عن فيسبوك)، حيث تحولت بعض الصفحات الرئيسية التي تتابع ما يجري في المحافظة إلى «ضابط أمن المعلومات» الذي يروج لما يناسبه ويحجب ما لا يناسبه، بحيث يحاول أن يفرض على الناس اتجاهاً معيناً بشكل استباقي.
قيادة إلزامية على الأرض: المجال الثاني، هو على الأرض مباشرة، حيث بدأت بعض المجموعات على الأرض، وتحت مسمى تنظيم الحراك، بممارسة سلطة مباشرة على الناس الموجودين ضمن الحراك؛ فهذه اللافتة مسموحة وتلك لا، وهذا العلم مسموح وذاك لا، وهذا الهتاف مسموح وذاك لا. حتى أنّ جزءاً من هؤلاء، والحق أنه جزء صغير نسبياً، حاول خلال الأيام الأخيرة منع أي تحرك مناصر لفلسطين! ويُسجل للحراك أنه أفشل هذه المحاولة، وظهرت أعلام فلسطين والشعارات المناصرة لها بشكل متكرر منذ 7 أكتوبر.
الإصرار على فصل السياسي عن الاقتصادي: المجموعات نفسها الساعية إلى السيطرة، أصرّت على الاستهانة بأي شعار اقتصادي- مطلبي، بل وبالتكبر على من يحمله، وتصغيره وصولاً حتى إلى تخوينه! ضمن مقولة «الكرامة وليس الجوع»، علماً أنّ العمل لاستعادة الكرامة لا يمكن أن ينفصل بحالٍ من الأحوال عن العمل ضد التجويع... هذا السلوك، أي الإصرار على فصل السياسي عن الاقتصادي- ناهيك عن أنّ الشعارات السياسية المرفوعة هي ذاتها بحاجة لنقاش منفصل- أدى إلى حرمان الحركة من احتمالات انضمام أعدادٍ كبيرة من الناس إليها. وهذا الخطأ أصبح واضحاً حتى بالنسبة لمن يلعبون أدواراً قيادية في تنظيم الحركة، وقد بدأوا بالتعبير عن ذلك (وإنْ بشكلٍ التفافي ودون الجرأة والصراحة المطلوبة من أناس يعتبرون أنفسهم قياديين) عبر الدعوات التي ظهرت مؤخراً لاعتصامات محصورة بالجانب المطلبي، وخاصة ما يتعلق منها بالمحروقات، وعبر تفسير الداعين لدعواتهم بأنّ الهدف منها هو توسيع الحراك. ولكنّ استخدام المطلبي بوصفه طعماً يجري رميه للناس لجرهم للحركة لن يجدي نفعاً، يجب أن يكون أصحاب هذه الدعوات صادقين، وأن يصدقهم الناس بأنهم فعلاً مقتنعون بأهمية الجانب الاقتصادي والمطلبي، ولا يمثّلون أنهم مقتنعون...
استعادة شعارات وأشكال 2011: كان واضحاً ومنذ اللحظة الأولى، أنّ استعادة شعارات 2011 كما هي لن يسمح للحركة بالتطور، بل وسيعزلها بشكل تدريجي؛ فالناس بحسها العفوي لا تميل لتجريب المجرب. وإذا كانت إحدى النقلات النوعية التي قدمها حراك السويداء الأخير هو رفع شعار القرار 2254، أي الحل السياسي، فإنّ ذلك يتناقض على طول الخط مع استعادة شعارات الإسقاط. فالحل السياسي يعني أنه لا حسم ولا إسقاط، بل تغيير جذري على أساس حوارٍ وتوافق. الضغط باتجاه «الإسقاط» وليس الحل السياسي، هو أفضل هدية جرى تقديمها لمتشددي النظام. لأنك حين تقول للطرف المقابل ضمن معادلة الحل: أريد إسقاطك فإجابته ستكون: جرّب حظك وسنرى. وينتهي الأمر عند هذا الحد. فالمطالبة بالإسقاط في الحالة السورية تعني إما العسكرة أو طلب التدخل الخارجي العسكري، ودع جانباً أي نقاشٍ عن مدى صحة هكذا طرح من وجهة نظر مصلحة البلد والناس، فإنّه حتى من الناحية العملية البحتة غير قابل للتطبيق بأي حالٍ من الأحوال. والذين يعولون على الأمريكي أو غيره هم بالحد الأدنى جهلةٌ لا يفهمون أبسط الحقائق التي تحكم عالمنا اليوم، وينبغي الحجر عليهم وإبعادهم عن الحركة بوصفهم غير مؤهلين للعب أي دور اجتماعي جدي، ناهيك عن لعب دورٍ سياسي.
رغم ذلك كلّه، فإنّ استمرار الحراك حتى هذه اللحظة، وبزخمٍ معقول، حتى وإنْ كان قد تراجع نسبياً، هو أمرٌ مهم بحد ذاته، وهو خطوة إلى الأمام يجب البناء عليها. والباب الأساسي لتقدم الحراك هو أن يصبح شعبياً بالمعنى الكامل، وليس معزولاً أو نخبوياً ضمن فئات بعينها من السياسيين والناشطين. حين يتمكن الحراك من إقناع أعداد أكبر وأكبر من الناس، فإنه سيكون على الطريق الصحيح؛ فالتجربة المرة التي مرّ بها السوريون رفعت من مستوى وعيهم السياسي ومن مستوى حساسيتهم اتجاه ما هو صحيح وما هو خاطئ. ولذا فإنّ استمالتهم اليوم باتجاه الانخراط الفعال في الدفاع الجمعي عن مصالحهم يتطلب حكمةً وبرنامجاً واضحاً وجامعاً. وبالتوازي، وربما أهم أيضاً، هو أنّ هنالك أضعاف مضاعفة لم تشارك في الحراك رغم رغبتها في ذلك، ولم تشارك لأنها لا تتفق مع هذا أو ذاك من الشعارات، مع هذا أو ذاك من الأشكال. على هذه الأضعاف المضاعفة أن تنظم صفوفها وأن تدفع باتجاه تبني الشعارات التي تراها صحيحة، وألا تكتفي بالإحجام السلبي عن المشاركة...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1147