الحركة الشعبية.. دروس الماضي واستنتاجات المستقبل (2)

الحركة الشعبية.. دروس الماضي واستنتاجات المستقبل (2)

هذه المادة هي استكمال لافتتاحية العدد الماضي من قاسيون ذي الرقم 1134 «الحركة الشعبية ستعود عاجلاً أم آجلاً»، وهي حلقة ضمن سلسلة مقالات ستتبعها.

ما تزال تتجمع الغيوم المبشّرة بانطلاق طورٍ جديدٍ من الحركة الشعبية السورية. هذا لا يعني أنها انطلقت فعلاً، أو أنها ستنطلق في القريب العاجل بالضرورة، ولكنه يعني بالتأكيد أنّ المنهوبين في سورية، والذين يشكّلون ما يزيد عن 90% من سكانها، قد تيّقنوا أنّ الطريقة التي يدير بها المتشددون في كلٍّ من النظام والمعارضة الأمور، لن تقودهم ولن تقود البلاد إلا إلى مزيد من المآسي والآلام والخسائر، بل ويمكنها أن تفجّر البلد بأسره مجدداً وأن تقسّمه بشكل نهائي وتنهي وجوده.

وبالتالي، فإنّ التململ قد بدأ بالتحول إلى نشاطٍ ملموس، وذلك بالرغم من عمليات التخويف المنظم على ضفة متشددي النظام من «عودة أشباح 2011» وما تلاها من مآسٍ، وبالرغم أيضاً من محاولات المتشددين في المعارضة استباق الحركة لزجها مجدداً في النفق نفسه، أي دفعها نحو تكرار الأخطاء السابقة والأشكال السابقة... وبالرغم أيضاً من العمل على ضفتي التشدد على نشر «أجواء الحرب» للقول مرة جديدة «لا صوت يعلو فوق صوت الحرب»، وبالتحديد فإنّ أصوات الناس المطالبة بحقوقها ينبغي أن يتم إخراسها.

كي تتمكن الحركة الشعبية في طورها الجديد من تحقيق التغيير الذي لم تتمكن من تحقيقه في طورها الأول، فإنّ عليها قبل كلّ شيء أن تستخلص الدروس من تجربتها السابقة، وعليها أيضاً أنْ تقرأ الواقع الراهن قراءة صحيحة كي تتمكن من استشراف المستقبل، وتنظيم نفسها وحركتها في ضوء ذلك كلّه.

الدرس الأول: أشكال الحركة

الشكل الأساسي الذي اقتصرت عليه تقريباً الحركة الشعبية في طورها الأول هو شكل التظاهر. وقد ظهرت ضمن هذا الشكل مشكلات عديدة، بينها نوعية وطبيعة الشعارات المرفوعة، وآليات التنظيم بما في ذلك التوقيتات والأماكن وإلخ.

هذه كلها تحتاج إلى نقاش موسّع لاستخلاص الدروس منها، ولكن نكتفي هنا بالإشارة إلى بضع أفكار:
التظاهر شكل مهم من أشكال الاحتجاج والنضال، ولكن لا يجوز اعتباره الشكل الوحيد، ولا الشكل الأهم بالضرورة.

ما يحدد الشكل الأهم، هو وعي الحركة للمرحلة التي تمر بها هي نفسها، أي مستوى التنظيم الذي وصلت إليه، ووعيها لطبيعة الظروف الموضوعية في اللحظة التي تقوم بها بحركتها.

التجربة التاريخية الطويلة لنضالات الشعوب، وليس التجربة السورية فحسب، تبين أنّ للنضال درجاتٍ وأشكالاً متعددة. درجات النضال وفقاً للينين، هي النضال الاقتصادي (ويتضمن المطلبي)، ومن ثم السياسي، ومن ثم الفكري. وهذه الدرجات والأشكال كلها مهمة، ولكن من المهم أيضاً الانتباه إلى أنه درجات متعاقبة، متتالية، والقفز فوق أي منها يؤدي بالضرورة إلى خسائر كبرى.

بكلامٍ آخر، وبالتجربة الملموسة السورية، حين انخرطت أعداد كبيرة من الناس في المظاهرات، كان انخراطها إلى حدٍ بعيدٍ انخراطاً سلبياً؛ فالقسم الأعظم من المشاركين في المظاهرات، كانوا يشاركون في مظاهرات قرر آخرون توقيتها ومكانها وشعاراتها.

بهذا المعنى فقد كان يجري استخدام نضالات الناس المباشرة وعذاباتها والمخاطر التي تواجهها، لتخديم خط سياسي لم تصغه الحركة الشعبية نفسها، بل تمت صياغته لها بشكل مسبق، وبشكل فوقي، وعبر الإعلام بشكل خاص.

فهمت الحركة لاحقاً أنّ الجزء الأكبر من الشعارات التي تم رفعها لم تكن في صالحها، بل جرى استخدامها لتخديم سياسات محددة، ضمنها المطالبة بالتدخل الخارجي مثلاً، ورفض الحوار ورفض الحل السياسي والتشجيع على القتال.

هؤلاء الناس أنفسهم، الذين ضحوا وناضلوا وتعرضوا للمخاطر، وقتل منهم من قتل واعتقل من اعتقل، الآن يبدو واضحاً لمن بقي منهم، أنّ بين من كانوا يشجعون على شعارات ضد الحل السياسي مثلاً، يرفعون الآن شعار الحل السياسي، وكانوا ضد الحوار ويطالبون الآن به... أي إنهم ببساطة خدعوا الناس واستثمروا في دمائهم إما نتيجة جهلهم السياسي الذي قادهم إلى رفع شعارات خاطئة، أو بشكل متعمّد لأنهم يخدمون بشكل أو بآخر الطبيعة الجوهرية للنظام السياسي القائم، أي الطبيعة الطبقية المنحازة للناهبين.

كل ذلك يعني أنّ الوصول إلى شكل التظاهر أمر مطلوب بلا شك، ولكن على أن يكون اشتراك الناس فيه اشتراكاً فاعلاً إيجابياً واعياً، لا سلبياً منقاداً. وهذا يتطلب تحضيرات وتنظيماً وجهداً ووقتاً ضمن مستويات أخرى وأشكال أخرى من النشاط والحركة.

على رأس هذه الأشكال، الصلة الحية المباشرة مع الناس وفيما بينها، والتنظيم على مستوى البناية والشارع والحي وإلخ.

وعلى رأس هذه الأشكال، أن يتم جمع الناس انطلاقاً مما يجمعها لا مما يفرقها، أي بالضبط من الجانب المطلبي الذي يحوز إجماع 90% من السوريين.

وأيضاً ينبغي الانتباه إلى أنّ الطور الجديد من الحركة ينبغي أن يخلق أشكاله الجديدة الإبداعية من العمل، وأن يستبعد التكرار الشكلي للأشكال السابقة، لأنّ الجديد الحقيقي دائماً هو غير مكرر، ولأن الجديد المزيف، هو القديم المكرر، حتى وإنْ حاول إضفاء تعديلات شكلية على مظهره.

إنّ التدرج في أشكال النضال انطلاقاً من المطلبي، يعني ضمناً تجميع أكبر عدد من المتضررين وتنظيم قواهم بما يخدم مصالحهم الحقيقية التي هي هي مصلحة البلد.

إنّ التدرج في أشكال النضال انطلاقاً من المطلبي، يعني إعطاء الحركة حقها في إفراز قياداتها وشعاراتها وبرامجها، وليس فرضها عليها فوقياً.

التدرج في أشكال النضال يعني تعليم الناس والتعلم منهم في الوقت نفسه، بعيداً عن الاستعلاء النخبوي لأقسام غير قليلة من «المثقفين» و«السياسيين»، الذين يتعاملون مع الجماهير وكأنها عسكرٌ عندهم، لا تعي ولا تفهم وإنما تنجر بالعواطف فقط، والحق أنّ هذه الجماهير وفي معظم الحالات، ولأنها تعيش مأساتها بشكل مشترك ويومي، تعرف أكثر بكثير من الجزء الأكبر من المثقفين والسياسيين، وتحس بموازين القوى الحقيقية وتختبرها بشكل يومي ملموس، وليس بشكل نظري افتراضي ورغبوي في كثير من الأحيان.

كما أنّ الناس العاديين يمتلكون غالباً قدرة أعلى على تحسس الظروف التي تحيط بهم، وهم الأقدر على إيجاد الأشكال المناسبة لتحركهم.

الحركة السياسية عليها أن تسير مع الناس، لا أمامهم ولا وراءهم. وعليها أن تتواضع وتتعلم من الناس وتطلب منهم أن يقبلوها في صفوفهم عبر نضال ملموس عملي وصادق، وعليها في الوقت نفسه ألّا تنجر وراء الناس وأن «تسايرهم» في الشعارات والأفكار التي ترى أنها خاطئة ولا تصب في مصلحة الناس، بل عليها الدفاع بشكل مبدئي عن أفكارها وقناعاتها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1135
آخر تعديل على السبت, 10 شباط/فبراير 2024 09:53