الحركة الشعبية: النشاط السياسي المتصاعد!

الحركة الشعبية: النشاط السياسي المتصاعد!

تواصل قوى متعددة، من المتشددين ضمن النظام، ونظرائهم ضمن المعارضة، محاولاتها لاستباق وإجهاض احتمالات طورٍ جديد من الحركة الشعبية. يجري ذلك بطرق متعددة أبرزها هي تلك التي تكرر القديم على أنه جديد؛ بكلامٍ أوضح، فإنّ أبرزها هي الدفع نحو تكرار الأشكال نفسها من الحراك السابق، وبالشعارات نفسها وطرق العمل نفسها، وخاصة منها المنعزلة عن الناس وذات الطابع المغامر، وضمناً الحديث مرة جديدة عن «عسكر منشق» وما شابه.

وكانت افتتاحية العدد الماضي من قاسيون رقم 1134، وعنوانها: «الحركة الشعبية ستعود عاجلاً أم آجلاً»، قد قالت بوضوح:

«مع ارتفاع مؤشرات واحتمالات تجدد الحركة الشعبية، يتضامن المتشددون في النظام والمعارضة مرة أخرى في سعي إلى إجهاضها وخنقها في مهدها، ويجري ذلك عبر الأساليب الرئيسية التالية:

استحداث أصوات «معارضة» مصطنعة هدفها تضليل الناس ومحاولة استكشاف الخريطة المسبقة للحركة الشعبية للتحكم اللاحق بها.

التحريض على الأعمال المغامرة المتسرعة المتفرقة غير المدروسة، بحيث يسهل التعامل معها قمعياً. وعبر التعامل القمعي معها، تجري محاولة كسر ظهر الحركة قبل أن تقف، أي محاولة «تربية البقية» الذين يفكرون في التحرك السياسي.

التخويف من أشباح 2011 ومحاولة إيهام الناس بأنّه من الممكن أن تتكرر الأحداث نفسها والآلام نفسها مرة أخرى».

إنّ النضالات المطلوبة لحماية الطور القادم من الحركة الشعبية ليست بالأمر الهين إطلاقاً، وخاصة بوجود قوى من الداخل والخارج، تسعى بشكل مسبق لإعادة إدخال الحركة في النفق القديم نفسه. ولكن مع ذلك، فإنّ عنصر القوة الأساسي لدى الطور الجديد من الحركة هو وعيها، أي جملة الخبرات والمعارف والاستنتاجات التي وصلت الناس إليها بالتجربة المرّة، والتي تكسبها حدساً سياسياً أكثر تطوراً بما لا يقاس عما كانت عليه الأمور عام 2011.

في الإطار نفسه، فإنّ من المفيد التذكير باستنتاجات ومواقف لطالما تمت محاربتها والتغطية عليها خلال السنوات الماضية، بالضبط في إطار العمل على قتل الحركة الشعبية وتحويلها إلى مطية للمصالح الضيقة للمتشددين في الطرفين... وبشكل خاص عبر تصوير الأمور ضمن ثنائية «ثورة» أو «مؤامرة»؛ وهما توصيفان لا يمكن لأي منهما أن يصف الواقع كما هو ولا أن يفسره... ومنع الحركة من تفسير الواقع بشكل صحيح، يعني منعها من تغييره، لأنّه من لا يستطيع تفسير الواقع تفسيراً صحيحاً لن يستطيع بحالٍ من الأحوال أن يغيره.

فيما يلي، نعرض لمجموعة من المقتطفات من كتاب د. قدري جميل، أمين حزب الإرادة الشعبية، «الأزمة السورية: الجذور والآفاق»، والذي تمت كتابته عام 2018، والذي يتضمن فهم وتصورات حزب الإرادة الشعبية للحظة انطلاق الحركة الشعبية بطورها الأول عام 2011، جذورها، وآفاقها، والذي لا تزال الاستنتاجات التي تضمّنها مفيدة وراهنة للحركة الشعبية بطورها الجديد...

أزمة أم ثورة؟

«في أحسن الأحوال، كان 15 آذار تعبيراً عن وضع ثوري، وشّتّان ما بين الوضع الثوري والثورة. الوضع الثوري هو احتمال ثورة واحتمال ثورة مضادة أيضاً. وللوضع الثوري ثلاثة شروط حسب لينين، وعادة ما تتحدث الأدبيات عن شرطين وتنسى الثالث، الشرط الأول، مَن هم فوق لا يستطيعون الحكم بالوسائل السابقة، الشرط الثاني، مَن هم تحت لا يستطيعون تحمل العيش بالطريقة السابقة. أما الشرط الثالث، والذي لا معنى للشرطين الأولين دونه، فهو درجة النشاط السياسي العالي للجماهير، وهذا يخلق احتمال تحويل الوضع الثوري إلى ثورة. لكن إذا كان العامل الذاتي غير جاهز لتحويل الوضع الثوري إلى ثورة، فإنه في ظلّ الهزة العميقة التي تطيح بكل البنى السابقة فعلياً؛ بنى الدولة وبنى المجتمع السياسية، تنشأ خطورة حالة فراغ يمكن أن تؤدي إلى العودة إلى الوراء. لذلك فإن الوضع الثوري هو مخاطرة مفروضة موضوعياً، والأحزاب الجدية عليها أن تكون جاهزة لملاقاة الوضع الثوري عندما يأتي، لأنه إذا أتى ولم تكن مستعدة لاستقباله، فإن الاتجاهات العفوية للتطور ستتحكم به، وهنا يصبح تحول الوضع الثوري إلى ثورة مضادة رجعية معادلاً لاحتمال تحوله إلى ثورة تقدمية بالمعنى الاجتماعي الاقتصادي والسياسي». (ص. 9-10).

«لا يمكن لأحد أن ينكر وجود نشاط سياسي عالٍ، ومن حيث المظهر فإنه كان مفاجئاً لكثيرين، لكنّ الحقيقة أنه نتاج تراكم امتد عشرات السنين، من كتم الحريات السياسية ومنعها من التطور، لذلك خرجت الأمور بالشكل الذي رأيناه حيث النقيصة السياسية هي أن الحركة الشعبية، قد انطلقت بهذا الشكل العفوي لعدم وجود حركة سياسية تقود... لهذا لم تكن هناك قيادة للحراك الشعبي، وما ظهر هي قيادات عفوية للموجة الأولى السلمية الاحتجاجية، وهذه الموجة وقياداتها العفوية لم تكن تريد رفع السلاح، أما كيف وصلت الأمور إلى المواجهة بالسلاح وكيف دُفعت لذلك فتلك قصة أخرى... ما جرى فعلياً هو عملية تطويق للعناصر السلمية من عدة قوى، من الداخل والخارج». (ص. 10).

«الأزمة هي كارثة من جهة وهي فرصة من جهة ثانية، وفي الوقت نفسه، في حال لم يتم حل الأزمة نكون أمام الكارثة، وفي حال حُلَّت الأزمة ذهبنا نحو فرصة جديدة، لذلك ليس معيباً الحديث عن أزمة، وليس نقصاً في الثورية، بل هو فهم ثوري حقيقي علمي للواقع الموجود». (ص. 10-11).

«علمياً وماركسياً، الثورة تعني التغيير الجذري النوعي في الحياة الاقتصادية الاجتماعية والسياسية، وما رأيناه عملياً كان تحركات شعبية للتعبير عن استياء عميق، ولم تكن هناك برامج بالمعنى الواضح والعميق «برامج ثورية» ... الجماهير العفوية وحدها لا تضع البرامج، هي تتحرك عفوياً، مطلوب من القوى السياسية أن تضع البرامج وتقود على أساسها حركة الجماهير العفوية... الحديث عن ثورة أمر لا يجوز قياسه فقط برفع السلاح، وإنما مقياس الثورة هو درجةُ جذرية الشعارات والأهداف، اقتصادياً واجتماعياً، وهو ما لم نرَه أو نلمسه في كل الحالات التي لم تتخطَّ أكثر من إطار تغييراتٍ ما في البنية السياسية، دون الحديث الجدي عن البنى الاقتصادية والاجتماعية. لذلك أستطيع القول، إننا شهدنا وضعاً ثورياً كانت له تعقيداته في مرحلته الأولى، ونعيش ونرى مراحله اللّاحقة، الثورة الحقيقية هي أمامنا وليست وراءَنا». (ص. 12).

«أن تعطي آذار 2011 حقّه، لا يكون إطلاقاً بقطعه عن جذوره والمقدمات التي دفعت نحوه، وتصويره وكأنما حدث من فراغ. الأزمة في سورية عميقة، وهنالك صعوبة حقيقية في تحديد نقطة بدئها؛ لأن هذه الأزمة هي تعبير عن أزمة منظومة رأسمالية في بلد تابع، لذلك أعتقد أنّ تتبّع تطور هذه المنظومة، وتراكمات هذا التطور خلال النصف الثاني من القرن العشرين، يمكن أو يوصلنا للعام 2011... وعليه عندما نريد التكلم عن الأسباب، فإن الهدف هو المعالجة». (ص. 13-14).

«إن لينين قد فهم أنه كما أنّ للثورة قوانينها، فللثورة المضادة قوانينها أيضاً... وأحد أسباب الثورة المضادة هو حيادية وشلل الحركة الجماهيرية، لأن حزباً طليعياً بلا جمهور، سوف تنتهي طاقته بسرعة». (ص. 61).

1135-9

الحركة الشعبية

«للحركة الشعبية في سورية تقاليد كبيرة تستمد قوتها من التاريخ ومن التنوع، لكن هذا التنوع هو بذات الوقت نقطة ضعف إذا ما استُغِلَّ من قبل الخصوم والأعداء، حيث الدولة جديدة، والتقاليد ما زالت غير راسخة، وفي ظل انعدام الحريات السياسية كان تطور الحركة الشعبية بطيئاً... وهنا لا يمكن إلا أن نتذكر أن هذا الحال المؤقت للحركة الشعبية في سورية ليس حالها هي فقط، بل هو حال كل الحركات الشعبية في العالم والقوى السياسية المنبثقة عنها، خلال مرحلة الركود الذي ساد في النصف الثاني من القرن العشرين». (ص. 96-97).

«الحركة الشعبية تعني درجة اهتمام الناس بحل مشكلاتهم التي يعانون منها، ولكن ليس فقط ذلك، بل تحديداً، النظر إليها بطريقة جديدة؛ البحث عن أسبابها العميقة وعن حلولها الحقيقية... هذا هو المقصود بالحركة الشعبية. الشكل الأكثر تقدماً، هو إعلان الرفض والمطالبة بالحقوق بصوت عالٍ، في الشارع، ولكن حتى لو اجتمع ثلاثة أشخاص في منزل ليتناقشوا فيما يجري سياسياً وما يجب أن يجري، فهذا أيضاً نشاط سياسي». (ص. 97).

«الوضع الثوري، كما قلنا سابقاً، هو احتمال ثورة، وهو أيضاً احتمال ثورة مضادة. الوضع الثوري بشروطه الثلاثة مُحَقَّق في سورية، الذين في الأعلى لم يعد باستطاعتهم أن يحلوا أية مشكلة من المشكلات المطلوب حلها، صغيرها وكبيرها، من هنا وزن الجهاز الأمني؛ الصراع باستخدام القوة فقط وليس بالحلول الذكية. الذين «تحت» لا يستطيعون التحمل أكثر، وظهرت إلى الوجود درجة نشاط سياسي عالٍ. لكن في ظل ضعف الحركة السياسية، وانخفاض مستوى الوعي السياسي الناتج عن الانخفاض الشديد لمستوى الحريات السياسية تاريخياً، إلى جانب أسباب اقتصادية واجتماعية متعددة، فقد تمظهر النشاط السياسي بالأشكال التي رأيناها، كان من السهل خداع الحركة وتوجيهها لأماكن مسدودة، دون أن تفهم إلى أين يوجهونها. ومثل الحركة الشعبية في أيامها الأولى، كمثل الطفل يتعلم المشي، وخرج إلى الشارع، بكل بساطة من الممكن أن يضيع إذا لم يأخذ أحدٌ بيده، يمكن أن يعود إلى المنزل متأخراً، ويمكن أن يختفي مؤقتاً إلى حين يجده أهله. الحركة الشعبية في أيامها الأولى كانت هكذا: طفل تعلم المشي حديثاً، فتح الباب وخرج، لم يجد أحداً يأخذ بيده، خاض تجربته الأولى، ولو تمكن أهلُه من إعادته للمنزل لكان خروجه الثاني أكثر نضجاً بحيث لا يكرر أخطاء الخروج الأول. المشكلة أن هذا الطفل الذي تعلم المشي وخرج من المنزل، خرج ولم يَعُد، لأنه تم اختطافه! اختُطف من قوى محلية وإقليمية ودولية، وتحت شعارات رنانة «وثورجية» جداً، لم تكن تريد تنفيذ أي منها حقيقة، بل كانت تريد إحداث اشتباك، وإدامته لتنفيذ هدف وظيفي آخر ليس له علاقة بالحركة الشعبية، هذه الوظيفة هي تسهيل وتطبيق الفوضى الخلاقة» (ص. 98-99).

«الحركة الشعبية لم تكن جاهزة، لكنها كانت ستعبر بسرعة بفترة تكوّن لو لم يمارَس العنفُ ضدها، ولو لم يمارَس العنفُ منها، العنف منها وضدها قدما المبرر أحدهما للآخر، وساقا الحركة باتجاهات لم تكن جاهزة لها فكرياً وسياسياً. هذا كله كان من الممكن تجاوزه لو كانت هناك قوى سياسية طليعية... لكن هذه القوى كانت موجودة على الورق وهي جزء من التاريخ الآن، على الأرض ليست موجودة، والسبب، نظام «الحزب الواحد القائد»، السبب المنظومة الأمنية، السبب مستوى الحريات السياسية الذي منع تطور قوى سياسية طليعية يمكن لها أن تلهب دوراً في توجيه الحركة. لذلك عندما انطلقت الحركة الشعبية، كانت هي في وادٍ والحركة السياسية القائمة في وادٍ آخر، وليس هناك أي صلة بينهما، وهذه الطامة الكبرى والمأساة بالنسبة للحركة السياسية التي لم يبقَ لها أساس للوجود لأنه ليس لها جمهور، وللجمهور أيضاً؛ الضائع لأن ليس هناك أحد يأخذ بيده ويقوده، ولا أقصد بقيادته أن يعمل عليه زعيماً، بل أن ينصحه». (ص. 100).

«أهمية كبرى تبقى معلقة على مَن يستطيع الأخذ بيد الحركة الشعبية، وهذا لا يمكنه إلا أن يكون عابراً للطوائف والأديان والقوميات، وعدم تبلور هذا النوع من القوى بشكل كافٍ أدى إلى انزياح الأمور إلى طريق آخر. مع ذلك، فإن المشروع التفتيتي لم ينتصر بشكله الكامل، بسبب توازن القوى الدولي الجديد وبسبب الدخول العسكري الروسي المباشر في أيلول 2015». (ص. 101).

معلومات إضافية

العدد رقم:
1135
آخر تعديل على الجمعة, 05 كانون2/يناير 2024 21:36