عملية جنين: ما يخفيه العدو أكثر بكثير مما صرح به
علي اسماعيل علي اسماعيل

عملية جنين: ما يخفيه العدو أكثر بكثير مما صرح به

وضع الكيان الصهيوني هدفاً رئيسيأً لعمليته العسكرية في جنين، هو اجتثاث البنية التحتية للمقاومة في جنين لردعها عن تنفيذ العمليات ضد المستوطنين، هذا ما أعلنه رئيس حكومته «نتنياهو» في اللقاء الصحفي الأول بعد بداية العملية العسكرية. هذا أيضاً ما روج له معظم وزراء الحكومة والمسؤولون الأمنيون. أما عملياتياً فانقسمت العملية لشقيّن، الأول: هو التصفية الجسدية لكوادر المقاومة اغتيالاً أو أسراً، والثاني: هو تدمير مصانع العبوات الناسفة ومراكز تصنيع الصواريخ.

هل استطاع الكيان بهذه العملية تحقيق هدفه؟

في معرض الإجابة عن هذا السؤال، سأذهب إلى ما يقوله أكثر المتحمسين الصهاينة، بأن هذه العملية العسكرية دمرت جزءاً أساسياً من مراكز تصنيع العبوات الناسفة، وقضت على مصانع الصواريخ بالكامل، التي للعلم لم نر منها إلا تجربتين أو ثلاث، لم تنجح أي منها في إيصال الصاروخ لهدفه، بالتالي نتحدث عن صناعات هجينة هي أساساً ما زالت خارج المعادلة.

أما بالنسبة للاغتيالات، فمعظم الشهداء الذين سقطوا في المعركة البطولية دفاعاً عن المخيم لم تتجاوز أعمارهم الـ 20 عاماً، وما لا يخفى على أحد أن معظم كوادر المقاومة الفلسطينية في الضفة تُعتقل أو تُغتال بشكل متكرر ودائم منذ سنين، وجميعنا أيضاً واكب تطور قدرات المقاومة وارتفاع وتيرة عملها في السنين الماضية رغم وجود هذا العائق، بالتالي، راكمت المقاومة في الضفة مناعةً اتجاه اغتيال كوادرها، وأوجدت الطرق المناسبة للتعامل مع هكذا أحداث دون أن تؤثر بشكل مدمر على عمل خلاياها.

إذا ما دققنا في التهديدات الأمنية التي تواجه الكيان فإن كل العمليات الفدائية التي حصلت أقله في السنوات القليلة الماضية، في الداخل المحتل، كانت تنفذ من قبل مسلحين بسكاكين، أو دهس ومن ثم من قبل مسلحين بأسلحة حربية فردية.

وهكذا تحليل بسيط لا أظن أنه خفيٌّ عن القيادة الأمنية والسياسية للعدو، فإذاً يعرف «الإسرائيليون» جيداً أن هذه العملية العسكرية لن تردع المقاومة الفلسطينية عن الضرب في العمق الصهيوني، وعملية تل أبيب دليلٌ على صوابية هذا التحليل. بالتالي، فإن الهدف المعلن للعملية لن يتحقق حتى لو نجحت.

إذاً، إن القيادة «الإسرائيلية» تكذب على مستوطنيها، وهنا لا أقارب الكذب من موقعه الأخلاقي بل كدلالة سياسية، أستخدمها لنصل للخلاصات المطلوبة. أي: إن القيادة لا تجرؤ على مصارحة «شعبها»، بأنها لن تستطيع حمايته من العمليات الفدائية، وأن أقسى طموحاتها من هذه العملية هو منع التطور النوعي للمقاومة وليس اجتثاثها، الحكومة الصهيونية لا تجرؤ على المصارحة بأن شمال الضفة سيتحول لكابوس يلاحق مستوطنيها، وأن هذه العملية قد تردع بعضاً مما هو قادم. وليس الحديث هنا من منطلق المنتصر الدائم، فجنين دفعت ثمناً كبيراً، ولكن صمودها كان مفاجئاً نظراً للتفاوت الهائل في القوة، وبالتالي كان بطولياً.

ننتقل هنا من الجانب الميداني وتأثيراته المباشرة إلى مكان آخر، إلى الجانب السياسي:

لماذا شنت «إسرائيل» العملية؟

الأزمة السياسية في الكيان عميقة جداً وهذا أصبح جلياً، أزمة الحكم هناك مرتبطة بشكل وثيق بالتغيّرات الدولية التي أدت إلى تضييق هامش الحركة حدّ التكبيل، لكيانٍ زُرع في المنطقة بدورٍ واضح ومحدد، هو التوسع بالمعنى الجغرافي، أي التدخل العسكري المباشر، والتخريب بالمعنى السياسي أي خلق الأزمات. لتفسير هذا الأمر ربما نحتاج عدة مقالات، ولكن سنوضح بإيجاز:

أولاً: بالمعنى العسكري، أي حركة باتجاه لبنان تكلفه الكثير، أيضاً حركته باتجاه غزة أصبحت مكلفة، سورية قد يضربها من الجو، ولكنه خارج التأثير الحاسم فيها، وأي تقدم بري باتجاه سورية له رادع دولي (روسي تحديداً). باتجاه مصر لم ينجح العدو بالاستفادة من ورقة المنظمات التكفيرية في سيناء، ورغم معاهدة السلام لم تسلم الجبهة المصرية من عمليات كل فترة، آخرها التي فام بها الجندي البطل «محمد صلاح» منذ أسابيع، وأدت لمقتل ثلاثة جنود صهاينة، أما الضفة الغربية فهي محتلة ويعاني ما يعانيه فيها.

ثانياً: بالمعنى السياسي، نفّذ الكيان منذ حوالي السنتين مناورة سياسية ودفع بجميع أوراقه دفعة واحدة، علّ السبحة تكر وبدأت موجة التطبيع، لتنتهي تقريباً دون أي تأثير ماديّ يذكر. لتبدأ هذه السنة موجة الاتفاقيات الحقيقية في المنطقة التي أنجز جزء منها (إيران– السعودية / مصر– تركيا.. وغيرها) وأخرى دخلت مرحلة المفاوضات، بالتالي، نحن نشهد بداية حلول في المنطقة برعاية الصين وروسيا. هذا ما بدأ يحدّ بشكل كبير من الدور التخريبي للكيان، الذي لطالما استثمر في هذه الأزمات. بين الأمثلة على ذلك: نتنياهو إبان موجة التطبيع كان يتحدث عن ناتو في المنطقة عماده «السعودية– مصر– إسرائيل» لمواجهة إيران، واليوم السعودية ومصر توقعان اتفاقيات تعاون وشراكة مع إيران.

تستغل المقاومة الفلسطينية هذه الحالة، فليس صدفةً تزامن تصاعد العمل المسلح في الضفة مع كل هذه التغييرات، ليس من باب المصادفة أن يتحول أوسلو إلى حبر على ورق مع سقوط التوازن الدولي الذي رعاه، وما هو ليس مصادفة ومرّ مرور الكرام على كل الشاشات أنواع السلاح الذي يحمله المقاومون، فمعظمه سلاح غربي يملكه جيش الكيان ومافياته وأهل السلاح أدرى بمصادره. وهذا ليس تشكيكاً بالمقاومة الفلسطينية بل وصفاً للترهل الداخلي الذي يعيشه كيان العدو.

هذه التغيّرات والمعادلات تعيها جيداً مؤسسات العدو الأمنية والسياسية، وعايشت حالات مشابهة في السنين المنصرمة وتعلمت منها، فلبنان أصبح عصياً، ولحقت به غزة. أما الضفة الغربية فلها خصوصية كبيرة، فهناك (أي في غزة ولبنان) تستطيع إغلاق الحدود، أما إذا ما اشتد عود المقاومة في جنين أو نابلس أو أي من مناطق الضفة، فمن سيحمي المدن الداخلية للعدو من السيارات المفخخة ومن العمليات الكبيرة جداً، التي لا أظن أن بهذه الأزمة تحديداً يستطيع هذا الكيان تحمل تبعاتها، الأهم، من سيحمي مستوطنات الضفة كي لا تتحول إلى مدن أشباح. هذا الخوف الاستراتيجي هو الذي دفع العدو نحو هكذا عملية، وهذا ما لا يجرؤ حتى على قوله.

سبب آخر أساسي، هو ضعف التماسك في المجتمع الداخلي الذي يسعى الاحتلال دائماً لاحتوائه بإنجازات ولو وهمية، هذا المجتمع ولو يأخذ من الخارج صورة المجتمع اليهودي المتماسك، فعداك عن التمييز العرقي داخله، لكن لمعظم «الإسرائيليين» جنسيات أخرى، وتحديداً المتنفذين اليهود الذين لو أحسوا للحظة بتهديد مصالحهم سيبيعون كل شيء ويجهزون للرحيل، سيبيعون حرفياً كل شيء حتى السلاح للمقاومة الفلسطينية، وهذه الظاهرة تزداد كثيراً، وقد حذر منها عدة مسؤولين أمنيين في الأشهر الماضية، وأحد أهم أسبابها الإحساس بعدم القدرة على الفعل وفقدان الدور التي تصاب به المؤسسات الأمنية للعدو. وأي عملية عسكرية قد تساهم في شدّ العصب.

السبب الأخير، هو الإثبات للعالم وللغرب تحديداً، أنها لا تزال قادرة على الفعل، فعملية لم تتجاوز اليومين، أبلغت بها بشكل مسبق الولايات المتحدة الأميركية، وأرسلت للعديد من السفارات تبلغهم بها قبل حصولها، ووزير الخارجية قام بمؤتمر صحفي ليشرح للعالم أهداف العملية، حتى أنك تشعر بحجم المبالغة الهائل الذي تعطيه الأوساط السياسية للعدو لهذه العملية، وهي مبالغة مقصودة هدفها استعراضي بحت.

بالمحصلة، انتهت العملية العسكرية ولم تحقق «إسرائيل» كل أهدافها، وستستمر بالقيام بهكذا عمليات، وكلنا ثقة بمقاومي الضفة أنهم سيستمرون، وسيطورون مناعةً في التعامل مع هذه الهجمات كما طوّروا مع أساليب أخرى. المجد للمقاومين، المقاتلين لأجل عالم جديد أكثر عدالة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1130
آخر تعديل على الأربعاء, 19 تموز/يوليو 2023 20:40