استخدام «المثلية الجنسية» لحرف الأنظار عن مركز الصراع...
ريم عيسى ريم عيسى

استخدام «المثلية الجنسية» لحرف الأنظار عن مركز الصراع...

تزداد يوماً بعد يوم تجليات الأزمة المتفاقمة في الغرب، والتي هي في جوهرها مؤشرات تآكل المنظومة الرأسمالية، وهذا يعني بالدرجة الأولى: انهيار النموذج الاقتصادي في هذه المنظومة، ما يؤدي إلى ظهور وتزايد الأزمات الاقتصادية التي تضرب في عمق المنظومة، ولكن آثارها الأولية تشعر بها أغلبية الشعوب.

بالتدريج وبشكل متزايد– كما يحصل اليوم في عدد من الدول الغربية– يرتفع مستوى الاستياء، وتبدأ الشعوب بالتحرك من خلال نشاطات، مثل: الاحتجاجات والاضرابات، والتي باتت حدثاً يومياً مع تزايد ملحوظ في انتشارها الجغرافي، وفي أعداد المحتجين والقطاعات التي يمثلونها.
في المقابل، ومع هذا الازدياد الحاد في المشاكل الحقيقية التي تواجهها الشعوب والاحتقان الذي يرافقها، تحاول الأنظمة في ظل عدم القدرة على احتواء الغضب وإيجاد حلول للمشاكل الحقيقية– لأن ذلك يعني تغييرات جذرية للأسس التي تقوم عليها المنظومة الرأسمالية– تحاول حرف الأنظار عن المشاكل الحقيقية عبر التركيز الإعلامي والسياسي على مسألة المثلية الجنسية، وكأنها مركز الصراع. ولطالما استخدمت الأنظمة الرأسمالية- وبالأخص في الغرب- الإعلام لتشتيت الشعوب وتقسيمها وإبعادها عن التناقض الأساسي بين العمل ورأس المال، عبر جملة قضايا ثانوية مفتعلة.
ضمن هذه اللوحة، من الملاحظ، أن إحدى الأدوات الإعلامية الأساسية في الوقت الراهن بيد النخب المتسلطة في الغرب والمتحكمة بشكل رئيسي من خلال وسائل الإعلام، هي عبر إدارة الرأي العام وتسييس عدد من القضايا، وبالأخص تلك المرتبطة بحقوق من المفترض أنها حقوق فردية، حيث يصبح الحديث فيها هو مركز الحديث الإعلامي، ويصبح السؤال عن «كيفية التعامل معها» هو سؤال العصر!
وكانت قاسيون في عدد من المواد قد سلطت الضوء على بعض هذه الوسائل التي تُبرز «القضايا» المفتعلة ضمن إطار تشتيت نضالات المنهوبين والالتفاف عليها، بحيث تصبح مشاكلهم الحقيقية المرتبطة بالنهب وانعدام العدالة الاقتصادية الاجتماعية فقط واحدة من المشاكل، بدلاً من أن تكون المشكلة الأساسية التي يجب أن يركز عليها نضالهم السياسي والحقوقي، والأهم من ذلك، المشكلة التي توحدهم جميعاً في وجه الفئة الناهبة.
من ضمن هذه «القضايا» والتي يجري استخدامها بشكل متزايد، وبالأخص خلال السنوات الأخيرة، هي مسألة «المثلية الجنسية». أحد آخر الأمثلة في هذا الموضوع كان في كندا قبل عدة أيام، عندما تقدمت، كريستين وانغ- تام، وهي عضوة في برلمان مقاطعة أونتاريو بمشروع قانون يهدف إلى حماية أكبر لما يسمى بـ «مجتمع الميم» وبالأخص، أولئك المشاركين في عروض الـ «drag queens» وهم الرجال الذين يرتدون ملابس نسائية، ويمثلون في عروض «ترفيهية». ووفق مشروع القانون، يمكن للمدعي العام في أونتاريو بتحديد منطقة على بعد 100 متر من الأماكن التي يتم فيها تقديم عروض من هذا النوع كمناطق أمان، حيث لا يمكن مضايقة أو ترهيب أو استخدام خطاب الكراهية اتجاه «مجتمع الميم» بما في ذلك أولئك الذين يمثلون في هذه العروض، وكل من يخالف ذلك يتعرض لمخالفة بقيمة 25000 دولار كندي. في المقابل، كانت هناك ردود على مشروع القانون، بأنه يعاقب على حرية التعبير والحق في الاحتجاج، وكلاهما محمي دستورياً في كندا. كما نوهت محامية كندية أن ما هو ملحوظ في مشروع هذا القانون، هو أنه يحدد محتوىً معيناً، ويستهدف خطاباً معيناً، بينما يُسمح بخطابات واحتجاجات أخرى قد تكون مسيئة لمجتمعات مختلفة.
كان أحد الإحصاءات الذي تم تسليط الضوء عليه في سياق مشروع هذا القانون، ازدياد جرائم الكراهية بدافع الميول الجنسية التي تم التبليغ عنها من 258 في عام 2020 إلى 423 في 2021. ومن الجدير بالذكر أنه في ذات الفترة ارتفعت الجرائم العنيفة في كندا من 850 (لكل 100000 ساكن) إلى 890. ومثلاً فيما يتعلق بجرائم الكراهية، والتي ارتفعت جميعها في الفترة ذاتها، كان عدد الجرائم في 2021 بدافع الدين 884 وبدافع العرق أو الأصول العرقية 1723.
يحاول الإعلام الغربي إقناع الناس بأن هنالك فعلاً معركة بين جبهة «المثلية» وجبهة «بقية المجتمع»، وفي السياق، فإنه يركز على الأشكال المتطرفة التي تخلقها وترعاها النخب في إطار الترويج للمثلية، وفي إطار الترويج ضدها، سواء بسواء.
على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، فإن عدد مشاريع القوانين المناهضة لـ «مجتمع الميم» المقدمة في المجالس التشريعية للولايات قد ارتفع من 42 في 2018 إلى 417 منذ بداية 2023 وحتى 3 نيسان.
وربما أحد أهم المؤشرات ذات الصلة، هو أن الجهة التي تقود الكثير من الحملات المتعلقة بموضوع حقوق المثليين اليوم في الولايات المتحدة، هي الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية، ويوجد في موقعه ما يسميه «أكثر قضايا الحريات المدنية إلحاحاً في عصرنا» والتي مثلاً لا تظهر ضمنها أمور، مثل: حقوق العمال، بالرغم من أن الاتحاد الذي تأسس في 1920 كانت معظم جهوده مرتبطة بالحركة العمالية، ما عرضه لهجوم شديد ودفعه شيئاً فشيء إلى العمل في المجالات غير العمالية، واليوم يقتصر عمل الاتحاد فيما يتعلق بحقوق العمال بمنظور ضيق جداً، مثل: عدم التمييز على أساس ما، مثل: التوجه الجنسي والجنس والعرق، وليس على الحقوق العمالية بشكل عام.
في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، وبينما تتوسع بقعة الاحتجاجات والإضرابات في الدول الأوروبية الغربية، مثل: فرنسا وألمانيا وهولندا وغيرها، وجد الاتحاد الأوروبي أن أحد الأمور الملحة اليوم هو قانون تم إقراره في هنغاريا، وبموجبه يُقيد أو يحظر وصول القاصرين إلى «الترويج» للمثلية الجنسية، أو تغيير الجنس. حيث بدأت رئيسة المفوضية الأوروبية بإجراءات قانونية ضد هنغاريا على أساس أن هذا القانون معادٍ للمثليين، وحتى الآن انضمت 15 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي لدعم هذه الإجراءات ضد هنغاريا.
بالإجمال، فإنّ المساحة الهائلة التي يحتلها موضوع المثلية على شاشات التلفزة، وفي وسائل الإعلام، وفي الحديث السياسي الغربي، ليس لها أية علاقة فعلية بمسألة المثلية نفسها، ومردها هو العمل الغربي على اختراع إلهاءٍ جديد للشعوب عن معاركها الحقيقية مع المنظومة الرأسمالية ككل، وربما أيضاً استخدام هذه المسألة، أي المثلية الجنسية، أساساً قانونياً شبيهاً بالمكارثية، لعمليات قمعٍ واسعة النطاق، بدأت فعلاً في الغرب، وستتصاعد بشكل مستمر مع تصاعد وتفاقم الأزمة...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1117
آخر تعديل على الخميس, 13 نيسان/أبريل 2023 11:31