البنك الدولي بين خط الغاز «العربي» والسد العالي!

البنك الدولي بين خط الغاز «العربي» والسد العالي!

تناولت مادةٌ سابقة لـ«مركز دراسات قاسيون»، بعنوان: (الخطة ألفا- النسخة الثانية... لماذا «التطبيع مع النظام»؟ ولماذا «التطبيع»؟)، طيفاً من القضايا السورية الراهنة في إطار المقارنة التاريخية بين العملية ألفا التي أعدها الأمريكيون واشترك فيها البريطانيون لمصر لمحاولة جرها نحو «صلح» مع «إسرائيل» عام 1955، وبين ما يجري حالياً تحت مسمى خط الغاز «العربي»، وتحت مسميات «تغيير سلوك النظام» و«التطبيع مع النظام».
وقد مرت المادة المذكورة بشكل سريع على دور البنك الدولي في المسألة، والذي نفرد له في هذه المادة مساحة إضافية لما له من أهمية ومن دلالات.


البنك الدولي... باختصار

عام 1944 كانت الحرب العالمية الثانية قد باتت في نهاياتها المحتومة والواضحة، وهو العام الذي بدأ فيه التفاوض بين المنتصرين- سواء السياسي أو الاقتصادي- على شكل عالم ما بعد الحرب.
وإذا كانت مؤتمرات طهران ويالطا وبوتسدام الوجه السياسي والعسكري لمفاوضات المنتصرين، فإنّ مؤتمر بريتين وودز كان وجهها الاقتصادي. وهو المؤتمر الذي نشأ فيه الثالوث الذي بات الأساس الذي استندت إليه الولايات المتحدة بالدرجة الأولى ومعها بريطانيا بالدرجة الثانية، ومن ثم بقية المعسكر الغربي، للانتقال التدريجي من الاستعمار بشكله القديم أو العسكري المباشر، إلى الاستعمار بشكله الجديد؛ الاقتصادي.
كان جذر هذا الثالوث هو توازنات ما بعد الحرب، وبين المنتصرين بالذات؛ فرغم أنّ الاتحاد السوفييتي كان أكبر المنتصرين بالمعنى العسكري- السياسي، إلا أنّه كان أكبر الخاسرين بالمعنى البشري والاقتصادي. بالمقابل، فإنّ الولايات المتحدة الأمريكية التي بذلت أقل التكاليف في الحرب، وبحكم موقعها الجغرافي خاصة، فإنها تحولت إلى أكبر المنتصرين على الإطلاق؛ عبر هجرة رؤوس الأموال الأوروبية نحوها، وصفقات السلاح والديون الكبرى التي كبلت بها حلفاءها، وصولاً إلى تقديرات بأنها باتت تنتج مع نهاية الحرب العالمية الثانية حوالي 50% من إجمالي ناتج العالم الغربي، وأكثر من 30% من الناتج الإجمالي العالمي، وهو الرقم الذي تعزز أكثر مع مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا.

ثالوث بريتين وودز

خرج مؤتمر بريتين وودز بعدد من النتائج، كان أهمها على الإطلاق هو: الثالوث الذي أشرنا إليه آنفاً، وعناصره:
1- اعتبار الدولار عملة احتياطية عالمية وعملة دفع عالمية إلى جانب الذهب، دون أية إشارة إلى إعفاء الدولار من أن يغطي نفسه ذهبياً. وكانت هذه الثغرة- بالتوازي مع اتساع السوق العالمية التي دخلها الدولار عملة للتبادل- هي التي دخل منها أصحاب الدولار نحو طباعته بكميات فلكية، ودون تغطية وطوال عقود، وحتى والآن، ضمن أكبر عملية نهب شهدها التاريخ المعاصر (تكلفة طباعة ورقة المئة دولار هي 14,3 سنتاً، وسعرها 100 دولار، أي أنّ نسبة الربح من طباعة الدولار تصل إلى حدود 70 ألف بالمئة!)... أعلنت واشنطن مطلع السبعينيات صراحة أنها تطبع دولارها دون تغطية ذهبية، وكان ذلك بعد أن ضَمِنت تسعير النفط والخامات الأساسية به، وحمت ذلك التسعير بالقوة العسكرية والقواعد العسكرية حول العالم.
2- البنك الدولي ومقره واشنطن، ووظيفته الأولية المعلنة كانت إقراض الدول المدمرة لإعادة تعمير ما تدمر، وكذلك إقراض الدول «النامية» لإنشاء المشاريع الكبرى التي لا توفر على تمويل لها.
3- صندوق النقد الدولي ومقره واشنطن، ووظيفته المعلنة الحفاظ على توازن نقدي عالمي عبر التحكم بنظام المدفوعات، وتوازن أسعار صرف العملات.
هذا الثالوث نفسه، تحوّل إلى الأساس «القانوني» لما أشرنا إليه على أنه أكبر عملية نهب شهدتها البشرية من دول الأطراف حول العالم ونحو المركز، والتي تلخصت بالمزاوجة بين: أ- استمرار طباعة الدولار دون رصيد وكعملة عالمية، عبر تسعير النفط والخامات به وحماية ذلك بالقوة العسكرية. ب- آليات الاستعمار الحديث الاقتصادي: (التبعية التكنولوجية، القروض، مقص الأسعار، هجرة العقول).


البنك الدولي والسد العالي

بدأ البنك الدولي العمل رسمياً عام 1946، وجرت محاولة تصويره منذ ذلك الحين وإلى الآن بوصفه مؤسسة «دولية»، تابعة بشكل ما لهيئة الأمم المتحدة، وبأنه بهذا المعنى مستقل عن الدول الأعضاء، ويعمل على أساس مصلحتها الجمعية، وعلى أساس التوازنات ضمنها.
ليست مهمتنا في هذه المادة كشف تبعية البنك الدولي لواشنطن وعمله وفقاً للأجندة الأمريكية منذ نشأته وحتى اللحظة؛ فتلك مهمة أنجزتها دراسات تفيض بها المكتبات. وإنما نقارب دوره هنا من باب المقارنة التاريخية بين السد العالي وبين خط الغاز «العربي».
مع ذلك، لا ضير من التذكير بأرشيف الرئيس الأمريكي الرابع والثلاثين دوايت أيزنهاور، والذي رفعت عنه السرية منذ حوالي 15 عاماً، والذي يتضمن مداولاته مع يوجين بلاك رئيس البنك الدولي في حينه حول السد العالي، والتي تتضمن توجيهات صريحة من أيزنهاور لبلاك بإدارة مفاوضات البنك مع عبد الناصر بحيث تندرج في إطار تنفيذ الخطة ألفا، والتي تتلخص بجرّ مصر نحو «صلح» مع «إسرائيل»، عبر الإغراءات بتمويل السد، وببعض المساعدات، وباحتمال صفقة أسلحة، وعبر التهديدات بتدمير تجارة القطن المصري التي كانت تشكل 80% من صادرات مصر في حينه، وغيرها من التهديدات.


من ألفا α إلى أوميغاΩ

انتهت الأمور بإعلان جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكية في حينه، في تموز 1956، رفض الولايات المتحدة تمويل السد العالي عبر البنك الدولي. وهذا بحد ذاته كان مؤشراً مبكراً على من هو صاحب السلطة الحقيقية في قرار البنك الدولي.
وكان الرفض المعلن هو مرحلة ثانية ضمن الخطة التي تلت ألفا، وكان اسمها أوميغا وكانت من ثلاث مراحل، وذلك بعد رفض عبد الناصر الحازم للخطة ألفا، مع أنه لم يكن يعرف بوجودها في حينه، ولكن بندها الأساسي كان واضحاً بالنسبة له، أي مسألة «الصلح» المقرون بالتخلي عن الحقوق والتخلي عن القضية الفلسطينية ككل... وانتهت الأمور كما هو معروف إلى تمويل الاتحاد السوفييتي لمشروع السد، ودون أية شروط سياسية، ومع تسهيلات كبرى بالمعنى المالي.
ألفا هو الحرف الأول في الأبجدية الإغريقية المكونة من 24 حرفاً، وكانت رمزية تسمية أول خطة اتجاه مصر عبد الناصر بهذا الاسم، تعني فيما تعنيه، أنها المقاربة الأمريكية الأولى للتعامل مع النظام الجديد في مصر، والتي كما ذكرنا في مادة سابقة كانت مزيجاً من التهديدات المحدودة والإغراءات المحدودة مع إبقاء باب التعامل مع هذا النظام قائماً. بالمقابل، فإنّ رمزية اختيار اسم الخطة أوميغا وهو الحرف الأخير من الأبجدية الإغريقية، والتي دخلت حيز التنفيذ أواسط 1956، هي أنّ الباب قد أغلق أمام احتمالات التعامل مع هذا النظام الجديد، وأنّ المهمة باتت إنهاء عبد الناصر، وخاصة ابتداءً من الطور الثاني والثالث من الخطة... وتكشف الوثائق الفرنسية والبريطانية أن كلاً من هاتين الدولتين كانتا تفكران في الوقت نفسه بتدبير اغتيال لعبد الناصر، بما في ذلك خطة فرنسية لمجموعة كوماندوز تعبر النيل من السفارة الفرنسية وصولاً إلى مقر قيادة عبد الناصر لتغتاله...

gfgh7657ljlkl


من التراجيديا إلى الكوميديا

الملفت للانتباه في وثائق يوجين بلاك وأحاديثه عن مشروع السد العالي (والتي باتت متوفرة أيضاً)، هو أمران أساسيان:
أولاً: قناعته بأنّ مصر كانت قادرة على دفع مستحقات القرض المفترض وفوائده بشكل كامل، وضمن مدة لا تتجاوز عشر سنوات، وذلك بفضل إنتاجها من القطن، وبفضل الأرصدة المهمة التي كانت لها في الخارج، وكذلك بالممتلكات المصادرة من الملكية الزائلة.
ثانياً: قناعته أيضاً، بأنّ السد يمكنه أن يحدث نهضة كبرى في مصر، وأن يدفعها خطوات عملاقة إلى الأمام في إنتاجها الزراعي، ومن ثم الصناعي.
ما يسمى حالياً بخط الغاز «العربي»، هو بالنسبة لسورية واقتصادها ووضعها، مع الحجم الهزيل للمشروع ككل، ومع النسبة الهزلية التي من المفترض أن تحصل عليها سورية من تمرير الغاز «العربي» والكهرباء «العربية» على أراضيها، هو أقل شأناً بما لا يقاس مما كان لمشروع السد العالي من أهمية بالنسبة لمصر؛ ولكن هكذا هو التاريخ، إذا أعاد نفسه فإنه يعيد نفسه كمهزلة.
نعيد هنا تلخيص الاستهدافات الأساسية لما نصطلح على تسميته الخطة ألفا النسخة الثانية الخاصة بسورية، والتي تحدثنا عنها باستفاضة في المادة المشار إليها في المقدمة، والتي نعتقد أنّ خط الغاز «العربي» أحد أدواتها، كما كان الإغراء بتمويل السد العالي من البنك الدولي أحد أدوات الخطة ألفا المعنية بمصر:
أولاً: العمل على دمج «إسرائيل» في المنطقة عبر ربطها طاقيّاً واقتصادياً وسياسياً مع كل دول المنطقة.
ثانياً: استخدام سلاح العقوبات والحصار، بين رفع وتشديد (مثلاً تهريب خط الغاز من قانون قيصر)، كأداة لتمرير الخط ولتمرير الاتفاق الأوسع.
ثالثاً: الحفاظ على الوضع في سورية ضمن حالته الراهنة المقسمة تقسيم أمر واقع، وبالذات عبر منع الحل السياسي وعبر «تطبيع» الأوضاع، أي عبر المحافظة على مناطق السيطرة على حالها، وعلى المسيطرين عليها على حالهم.
رابعاً: استخدام الدول المطبعة وعلى رأسها الإمارات، وكذلك الأردن ومصر، كوسطاء وكواجهات للمشروع، وبالتوازي مع ذلك العمل على تسريع دفع السعودية نحو التطبيع العلني والكامل مع «إسرائيل»، لإكمال «الناتو العربي»، ولقطع الطريق على احتمالات جنوح السعودية شرقاً عبر احتمالات تهدئة مع إيران، وعبر علاقات تتقوى بشكل متواتر مع الصين وروسيا.
خامساً: استخدام هذه العملية بشكلها الكامل ضمن تصور أوسع لبناء استقطاب متكامل في منطقتنا بين شرق وغرب، يكون فيه العرب ومعهم «إسرائيل»، ضمن حلف غربي معادٍ لتركيا وإيران ومن خلفهما روسيا والصين، بحيث يتم ملء الفراغ الذي سينجم عن التراجع الأمريكي وعن الاضطرار الأمريكي للانسحاب من المنطقة، بجملة من النزاعات ومن حروب الجميع ضد الجميع.


عودة للبنك الدولي والبدائل

إذا كان خط الغاز «العربي» قد تلقى وعوداً من البنك الدولي مع بداية الحديث عنه منذ حوالي شهرين، بأنه سيحصل على التمويل اللازم، فليس معلوماً الآن ما هو الوضع الفعلي لتلك الوعود، بعد أن زادت الإشارات حول تعثر العملية.
ولا بد خاصة من الإشارة إلى أنه بات هنالك تصريح علني وإنْ كان صحفياً- استخبارياً من القناة 12 «الإسرائيلية»، بأنّ الغاز سيكون «إسرائيلياً». ومن عادة الخطط السرية ألّا يتم إعلان غاياتها قبل إنجازها، إلّا إذا كانت قد فشلت فعلاً... (راجع افتتاحية قاسيون العدد 1039: واعترفوا!).
رغم ذلك، فإنّ المقاربة التاريخية المقارنة التي نقدمها هنا، تفتح الباب على تفكير جدي ومسؤول بثلاث نقاط أساسية:

أولاً: حين فشلت الخطة ألفا الخاصة بمصر، جاءت وراءها مباشرة الخطة أوميغا بأطوارها الثلاثة، والتي حققت بعد اغتيال عبد الناصر ما أرادته الخطة الأولى... أي أنّ الصراع ما يزال قائماً ومستمراً، والخطة ألفا النسخة الثانية ما تزال قائمة من حيث الغايات حتى وإنْ شهدنا تغيراً بالأدوات، علينا أنْ نتابعه ونحزره مبكراً.
ثانياً: الضربة النهائية لألفا، والتي حوّلت اتجاه التطور التاريخي في المنطقة بأسرها، كانت حصول مصر على بديل حقيقي، سواء عبر صفقات السلاح مع الاتحاد السوفييتي، ومن ثم الوقوف ضمن اصطفاف دول عدم الانحياز، والحصول على تمويل للسد العالي من الاتحاد السوفييتي. وعلينا كسوريين الآن أن نبحث عن بدائلنا السياسية والدولية المنسجمة مع مصالح بلدنا وشعبنا، وهي بدائل واضحة وعلى رأسها الصين وروسيا.
ثالثاً: أيام إنهاء ألفا في مصر، كانت مصر موحدة وتحت قيادة عبد الناصر، ولكي تتمكن سورية من إنهاء ألفا النسخة الثانية فهي بحاجة لأن تكون موحدة، وأن يكون شعبها ممثلاً بأكمله تمثيلاً صحيحاً يستجيب لضرورات الواقع... وأمر كهذا لا مدخل له سوى الحل السياسي الشامل على أساس القرار 2254، والذي بات من الضرورة بمكان، وفي ظل النوايا والأفعال الغربية- «الإسرائيلية» الواضحة، أن ينتقل نحو التطبيق عبر قاطرة قادرة على دفعه إلى نهاياته... هذه القاطرة هي أيضاً اصطفاف سياسي واضح ضمن الصراع الدولي القائم، ودون أية التباسات انتهازية ومراوغات وتكتيكات وشطارات: أستانا + الصين (راجع افتتاحية قاسيون رقم 1044: أستانا + الصين، قاطرة 2254).

photo_--_--الإعلان الأمريكي عن رفض تمويل السد العالي

 

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1045
آخر تعديل على الثلاثاء, 23 تشرين2/نوفمبر 2021 12:57