هل ينتعش سوق الـ NGOs مع الانسحاب الأمريكي؟

هل ينتعش سوق الـ NGOs مع الانسحاب الأمريكي؟

خلال قمة مجموعة السبعة «الكبار» G7 في منتصف حزيران، اعتبرت بعض الحكومات ووسائل الإعلام الغربية أن مبادرة «إعادة بناء عالم أفضل B3W» التي طرحتها الإدارة الأمريكية خلال القمة، هي خطة «يمكنها أن تنافس» المبادرة الصينية المعروفة «الطريق والحزام».

اللافت هو أن إعلان المبادرة الأمريكية «إعادة بناء عالم أفضل» خلال قمة المجموعة لم يتجاوز حدود العبارات العامة والالتزامات الغامضة التي تركت انطباعاً عامّاً بأن الهدف من هذا الإعلان هو مجرد الاستهلاك الإعلامي قبيل القمّة التي جمعت بين الرئيسين الروسي والأمريكي منتصف الشهر. حيث إن الورقة التي قدمها الجانب الأمريكي والتي من المفترض أنها توضّح رؤية هذه المبادرة الأمريكية لم تدل على شيء جديد سوى رغبة الإدارة الأمريكية في تغيير شكل التدخلات الأمريكية في الخارج، والتركيز على الجانب «المدني» من هذه التدخلات.

الـ«لا تنمية» الأمريكية

تشير الورقة الصادرة عن البيت الأبيض إلى أن الولايات المتحدة سوف تعمل على تعبئة الإمكانات الكاملة لأدوات التمويل الأمريكية (بما في ذلك مؤسسة تمويل التنمية، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID، وبنك التصدير والاستيراد للولايات المتحدة EXIM، ومؤسسة تحدي الألفية، والوكالة الأمريكية للتجارة والتنمية) وجميعها من الجهات المسلّم بأنها تعمل كأذرع للتدخل السياسي الأمريكي في الخارج، وكأدوات تخدم ما يعرف بـ«القوة الناعمة» للإدارة الأمريكية.
على سبيل المثال، يرد اسم الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID حوالي 40 مرة في «دليل هيئة الأركان المشتركة الأمريكية لمكافحة التمرد» والذي يعدِّد الأدوات والآليات التي يمكن للجيش الأمريكي استخدامها لمواجهة عوائق بسط الهيمنة الأمريكية في الخارج.
وفي كثير من الحالات، استخدمت الولايات المتحدة إستراتيجيات «مكافحة التمرد» لغرض تعزيز نظام عميل تختاره الولايات المتحدة ليحل محل حكومة مستهدفة تمت الإطاحة بها (وهي حالة شاهدنا منها كثيراً في دول أمريكا الجنوبية مثلاً)، حيث يكون دور الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية هو تعزيز إستراتيجية «مكافحة التمرد»، وليس تحفيز التنمية في أي بلد. وكذلك الحال بالنسبة لمؤسسة مثل «مؤسسة تحدّي الألفية» التي دخلت إلى منغوليا تحت يافطة «تأمين المياه للجميع»، قبل أن تتضح طبيعة عملها في إجراء دراسات استقصائية استفادت منها الإدارة الأمريكية في الضغط اللاحق على حكومة البلاد.

نموذج لمبادرة «B3W» الأمريكية

بدلاً من التنمية الفعلية، توجّه وكالات «التنمية» الأمريكية أموالها إلى جماعات محدّدة تساهم في منع بناء البنية التحتية الوطنية التي من شأنها أن تحل أزمات مثل نقص الطاقة والمياه والغذاء، وغالباً ما تستند إلى ذرائع اجتماعية وسياسية مثل المخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان والبيئة التي تستخدمها حين لا يؤمّن الإنفاق المصالح الأمريكية المباشرة.
في ميانمار على سبيل المثال، عملت القوى السياسية التي تمولها الحكومة الأمريكية لسنوات من أجل منع بناء المشاريع التي تقودها الصين، بما في ذلك السدود التي من شأنها توليد الكهرباء، والمساهمة في السيطرة على الفيضانات، وتأمين الري الزراعي.
في عام 2010، نشرت ويكيليكس برقية دبلوماسية أمريكية بعنوان «بورما: جذور معارضة السد المدعوم من الصين في شمال بورما»، حيث ناقش دبلوماسيون أمريكيون نجاح القوى السياسية «الشعبية» التي تمولها السفارة الأمريكية في عرقلة السدود التي بادرت بها الصين. وأشارت البرقية إلى ما يلي: «من الجوانب غير العادية لهذه القضية، الدور الذي لعبته المنظمات غير الحكومية في معارضة السد، والذي يشير إلى القوة المتزايدة لمنظمات المجتمع المدني في ولاية كاشين، بما في ذلك المستفيدون من المنح الصغيرة التي تقدمها السفارة».
وبمجرد إغلاق مشاريع مثل السدود أو الطرق أو القضبان أو الموانئ في الدول المستهدفة مثل ميانمار، لا يتم تقديم أي بديل غربي على الإطلاق، ويترك الناس نهباً للحاجة والعوز والمتاجرة الأمريكية بعذاباتهم المتواصلة.

«التنمية» الانتقائية

ربما تكون واحدة من أخطر أدوات هذه المنظمات هي ما يمكن تسميته بـ«التنمية الانتقائية»، حيث توفّر منظمات مثل «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية» بنية تحتية مؤقتة، مثل الألواح الشمسية وأبراج المياه المخصصة التي توفر للمجتمعات المتلقية الحد الأدنى من مستويات المعيشة، والهدف من ذلك هو تعطيل توحيد المشاريع الوطنية، وتشجيع المجتمعات المحلية على الاستغناء عن البنية التحتية المركزية. وهذا في حد ذاته يساعد على وقف التنمية في مختلف مناطق الدولة التي يتم التدخل فيها.
كل هذا يتناقض تناقضاً صارخاً مع مبادرة «الطريق والحزام» الصينية التي تبني البنى التحتية الأساسية التي تنقل السلع والناس عبر مناطق الدولة بأكملها، وتوفر الغذاء والطاقة والمياه لعدد متزايد من الناس في مختلف أنحاء العالم، وكل ذلك دون قيود سياسية أو جيوش من «الناشطين» المموَّلين من الخارج، حيث استفادت الدول فعلياً وبشكل ملموس من مشاريع البنى التحتية التي قادتها الصين (الطرق والجسور والسدود) بما في ذلك دول مثل ميانمار.
كي توازن الإمبراطورية الأمريكية المتدهورة أمورها، تضطر اليوم للانسحاب من شرق المتوسط وتركيز حضورها الفاعل على الحدود الصينية في شرق آسيا. ومن السذاجة الاعتقاد أن هذا الانسحاب يعني أن الولايات المتحدة ستكفّ يدها تماماً عن المنطقة من تلقاء نفسها. لذلك، من الطبيعي أن تميل واشنطن اليوم إلى محاولة ملء «الفراغ» الناشئ عن انسحابها بتعزيز حضور المنظمات «غير الحكومية» NGOs في هذه المناطق بما يضمن إبطاء مشاريع الإنماء الحقيقي إلى الحد الأقصى الممكن، لكن هذا بحد ذاته لا يجب أن يجعلنا نتغافل عن حقيقة أن أدوات القوة الأمريكية «الناعمة» مثلها مثل غيرها من الأدوات الأمريكية لم تعد اليوم بنفس المستوى السابق من القوة، لذلك فإن مواجهته وهزيمته ليست أمراً مستحيلاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1024