الكيان الصهيوني إلى زوال...

الكيان الصهيوني إلى زوال...

إذا اعتمدنا على الإعلام «العربي» المسيطَرِ عليه نفطياً إلى حدٍ بعيد، فإنّه ليس هنالك أي حديث عن زوال «إسرائيل» كي يناقشه المرء ويناقش مدى جديته.

على العكس من ذلك، فإنّ السائد هذه الأيام هو التطبيل والتزمير لعمليات التطبيع، وباستخدام مختلف الأساليب الممكنة، وهي أساليب شديدة التنوع... ومنها على سبيل الذكر لا الحصر: تشغيل بعض الانتهازيين من الفنانين و«الشخصيات العامة». تنظيرات «إبراهيمية»، تحاول اختراع أساس حضاري- ثقافي- ديني للتعايش مع الكيان الصهيوني. تنظيرات سياسية تحاول إعادة ترتيب الأعداء والأصدقاء في الذهن العربي بوضع إيران أو تركيا، أو كليهما بديلاً عن «إسرائيل» كعدو أساسي للعرب. تنظيرات «اقتصادية» تَعِدُ بأنهار الحليب والعسل في حال التطبيع. تنظيرات «إنسانوية» و«ثقافية» عمياء عن «جماليات السلام» وعن «التعدد الهوياتي» وإلخ...

ومن المفهوم طبعاً، لماذا لا يمكن أن نسمع في إعلام المطبعين كلمة واحدة عن أية مشكلة جدية يعيشها الكيان، ناهيك عن حديث من وزن الحديث عن تهديد وجودي للكيان واستمراريته؛ فالذريعة الأساسية التي يستخدمها المطبعون، هي أنّ «إسرائيل» أمر واقع قائم ومستمر وقوي ومتطور وإلخ... ولذا فإنّ الواقعية تقتضي الوصول إلى التطبيع معه عاجلاً أم آجلاً...

خطر «ديمغرافي»

ما نناقشه إذاً ليس حديثاً يدور في الإعلام العربي، إنما هو نقاش لموجة من التحليلات والمقالات المنتشرة في الإعلام «الإسرائيلي»، وفي مراكز الأبحاث خاصة، والتي بدأت بالاتساع قبل نحو عامين؛ أي: مع بداية الأزمة الحكومية المستعصية والمستمرة حتى الآن، والمتمظهرة في عدم استقرار أي تشكيل حكومي لأكثر من ستة أشهر وسطياً...

بين تلك المقالات، كان ملفتاً للانتباه مقال الرأي الذي كتبه يوفال ديسكين الرئيس الأسبق لجهاز الشاباك (وهو أحد الأجهزة الأمنية الثلاثة «الإسرائيلية» إلى جانب الموساد وآمان)، وتم نشر المقال بالعبرية في صحيفة يدعوت أحرنوت يوم 19 شباط الجاري، وقدم موقع روسيا اليوم ترجمة لجزء صغير من المقال.

عنوان المقال هو: «على هذا المنوال... لن يتبقى لنا بلد». ويناقش كاتبه ما يسميه خطراً وجودياً نابعاً من الداخل على استمرار «إسرائيل».
يبدأ الكاتب مقاله بالقول: «أنا لا أتحدث عن التهديد النووي الإيراني، أو صواريخ حزب الله، أو الإسلام الأصولي الراديكالي. أنا أتحدث عن الاتجاهات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية التي تُغيّرُ بالفعل جوهر الدولة، ومقدرٌ لها أن تُعرّض وجودها للخطر في غضون جيل واحد».

ومن ثم يوضح مقصده بالتركيز على التحول في التناسبات السكانية الناجم عن الاختلاف الشديد في معدلات الخصوبة بين المجموعات السكانية التي تعيش إلى جانب بعضها البعض، ومعزولة عن بعضها البعض في الوقت نفسه. والحديث لا يدور عن العرب من جهة واليهود من جهة أخرى فحسب، (فهذا التناقض ليس الأكثر حدة برأي الكاتب مقارنة بالتناقضات بين اليهود أنفسهم، سواء باختلافاتهم الاثنية أو اختلافات اتجاهاتهم السياسية والمذهبية).

يشخّص الكاتب «الخطر الوجودي» بالقول إنه خلال 30 إلى 40 عاماً قادمة، سيصبح نصف عدد السكان مكوناً من فئتين، هم: العرب، والحريديم (الحريديم هم متشددون يهود يعيشون عالة على الجميع، حيث ينصرفون بشكل كامل للنشاط الديني، ولا يشاركون في النشاط الاقتصادي ويعتاشون من مساعدات حكومية، ومعروف عنهم نسبة التعليم المنخفضة جداً بينهم، ونسبة الولادات الأعلى، حيث إنّ معدل الخصوبة بينهم، عام 2018، وفقاً للمكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء، قد وصل 7,1 طفلاً في العائلة الواحدة، مقابل وسطي أقل من 4 بين بقية الفئات).

خطر «اقتصادي- اجتماعي»

يحتل خطر ظاهرة الحريديم موقعاً أساسياً من مجمل موجة الذعر الوجودي التي نشير إليها. من ذلك مثلاً: أنّ البروفيسور في جامعة تل أبيب، دان بن دافيد، وهو خبير اقتصادي ويرأس معهد شورش للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، كان قد نشر دراسة في يدعوت أحرنوت نفسها، بتاريخ 8 أيلول 2019، تحت عنوان: «التركيبة السكانية والأوهام: الانتخابات ستحدد إذا ما كانت إسرائيل ستبقى موجودة بعد جيلين».

في دراسته المليئة بالإحصاءات والأرقام، يبدأ بن دافيد طرح موضوعته انطلاقاً من المستوى التعليمي للأطفال، مؤكداً: أن الإحصاءات تشير إلى أنّ نصف الأطفال في «إسرائيل» يتلقون تعليماً عالمثالثياً، وفقاً لتعبيراته، (أي تعليماً متخلفاً). في حين أنّ «إسرائيل» لا تزال تعتبر نفسها منتمية إلى العالم الأول، وهو ما يصفه بن دافيد بالقول: «نحن نعيش في فيلم، ونتغذى على الأوهام».

ويعزز كلامه بجملة إحصاءات، بينها إحصاءٌ ملفت للانتباه حول «إنتاجية العمل»، أي: قيمة الإنتاج مقسومة على وقت الإنتاج. ويقول عن إنتاجية العمل في «إسرائيل»: «خلال الأربعين سنة الماضية، تضاعفت ثلاث مرات، الفجوة في إنتاجية العمل، بين الدول الرائدة في مجموعة G7 (الولايات المتحدة الأمريكية، إنجلترا، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، اليابان وكندا) وبين «إسرائيل»».

وسواء كان الحديث عن مستوى التعليم أو عن مستوى الإنتاجية، فإنّ الحريديم هم القاسم المشترك. ولكن بالتأكيد ليست المشكلة محصورة فيهم، بل تتجاوز ذلك إلى ما هو أكثر جوهرية، أي: إلى حجم التفاوت الطبقي والتمييز العنصري، الذي لا يقع على الفلسطينيين وحدهم- وإن كانوا هم دائماً الأكثر تعرضاً للاضطهاد- بل ويقدم صورة من التراتبية شبه العسكرية للاثنيات العديدة الموجودة ضمن الكيان.

أبعد من ذلك، يشير بن دافيد إلى احتمالٍ يراه قابلاً للتحقق، وهو احتمال تصبح أمامه أكثر السيناريوهات تشاؤماً (من وجهة نظر الكيان)، سيناريوهات وردية!
الاحتمال هو: أنّ «القسم الآخر» من المستوطنين، (أي: إذا تركنا الحريديم جانباً، والفلسطينيين بطبيعة الحال، وركزنا على القسم المنتمي في درجة تعليمه إلى العالم الأول، وكذا في اشتراكه في النشاط الاقتصادي والعلمي)، هذا «القسم الآخر»، ومع ارتفاع حجم الضغوط الاقتصادية والأمنية، يمكنه ببساطة شديدة أن يحمل أحماله وينتقل نهائياً إلى الغرب... وهي ظاهرة قد بدأت بالفعل وأرقامها في ازدياد مستمر... يمكننا هنا أن نفهم لماذا أشار رئيس الشاباك الأسبق إلى الخطورة الكامنة في أنّ «معظم العبء الاقتصادي والعسكري في إسرائيل سيتحمله قريباً 30% فقط من الإسرائيليين، وبهذه الطريقة لن ينجو المجتمع الإسرائيلي مما ينتظره من مشاكل»... الـ30% المقصودون هنا، هم من أسميناهم «القسم الآخر».

عودة إلى بن دافيد، فإنّه يقيّم احتمال هجرة هؤلاء خارج الكيان الصهيوني بالقول: «إذا قررت كتلة حرجة منهم (أي: من «القسم الآخر»، أو الـ 30%) المغادرة، فإن العمليات السلبية التي يمكن أن نراها خلال 40 سنة، ستحصل بسرعة «المحركات النفاثة». بكلامٍ آخر، فإنّ الحديث عن خطر وجودي بعد جيل أو جيلين، سيتحول إلى خطر وجودي بعد سنوات معدودة!

زاوية أوسع

الجوانب الداخلية التي تحمل أخطاراً وجودية على الكيان الصهيوني، هي بلا شكٍ جوانب شديدة الأهمية، وما أتينا على ذكره هنا ليس سوى غيض من فيض. ولكن مع ذلك، فإنّ البعد الدولي لـ «إسرائيل»، هو إلى حد بعيد بعدٌ داخليٌ أيضاً.
فالكيان الصهيوني منذ احتلاله لفلسطين، كان جزءاً من مشروع أكبر هو مشروع استعماري امتد من الشكل الاستعماري التقليدي، إلى الشكل الحديث، ودائماً كأداة عسكرية مباشرة بالدرجة الأولى.
التراجع الذي يعيشه المشروع الغربي ككل، يحمل ضمنه بالضرورة تراجعاً للمشروع الصهيوني عموماً، ولمشروع «إسرائيل» خصوصاً... وربما من المبالغة حتى استخدام كلمة مشروع لوصف «إسرائيل»، فوفقاً لكلمات يوفال ديسكين نفسه: «هذه الشركة لن تنجو لا اجتماعياً ولا أمنياً».
ربما يساعدنا ذلك في فهم تصريح وزير الخارجية الأمريكي الجديد، يوم 22 شباط الجاري، والذي قال فيه: «واشنطن تعتقد أنّ حل الدولتين أفضل ضمانٍ لمستقبل إسرائيل». ما يعني: أنّ مهمة ضمان مستقبل «إسرائيل» هي مهمة موضوعة على طاولة البحث والعمل، وما يعني أيضاً: أن هذا المستقبل مهددٌ فعلاً...

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1007
آخر تعديل على الجمعة, 12 آذار/مارس 2021 16:30