ديمقراطية المكونات: حريّة للنخب- واستعباد للفقراء..

ديمقراطية المكونات: حريّة للنخب- واستعباد للفقراء..

منذ تفجر الأزمة السورية عام 2011 يتجدد بين الفينة والأخرى الترويج لنموذج ديمقراطية المكونات- ويقصد بها تقاسم السلطة بين البنى الطائفية والقومية والدينية السورية- ويأتي طرح هذا النموذج في إطار البحث عن نظام سياسي جديد، وتتعدد صيغ طرحه بين الواضحة في بعض الأحيان، ومضمرة تحت مسميات مختلفة في أحيان اخرى.

سنحاول فيما يلي، مقاربة هذا الطرح ومناقشته، وصولاً إلى الحكم على صلاحيته للواقع السوري أو عدمها، من جهة القدرة على تحقيق المهام الموضوعة أمام الشعب السوري، والدولة السورية، وهذه المهام كما هو معلوم ليست نتاج اجتهاد جهة سياسية ما، بل هي مهام تُستنبط عادة من الواقع الموضوعي، أي مستوى التطور التاريخي، وحاجات البلاد وشعبها، والجغرافيا السياسية، هذه المهام– كما نعتقد- يمكن تكثيفها في الظرف السوري الراهن، بثلاثة عناوين رئيسة: مهام ديمقراطية، واقتصادية اجتماعية، ووطنية.

ديمقراطية المكونات ومسألة الديمقراطية

هل يُؤمِن نموذج ديمقراطية المكونات، الديمقراطية التي يسعى إليها الشعب السوري، والتي كانت أحد أسباب الحراك الشعبي في آذار 2011؟
- إذا انطلقنا من البداهة السياسية التي تقول: إن إحدى مخرجات الديمقراطية هي حكم الأغلبية، فإن هذه الأغلبية وفق الخطاب (الديمقراطي) السائد والمتداول، هي أغلبية سياسية- اجتماعية، وليست أغلبية طائفية، أو دينية، أو قومية، بل هي التعبير الحر عن إرادة أغلبية المواطنين الأحرار عبر صناديق الانتخاب، بغض النظر عن الانتماء التقليدي الـ ما قبل وطني، أي أن طرح الديمقراطية بهذه الصيغة يخالف علم الاجتماع السياسي المعاصر.
يفترض بالعملية الديمقراطية موضوعياً أن تلعب دوراً تقدمياً بالمعنى التاريخي، باتجاه الاندماج الطوعي والمزيد من التماسك الاجتماعي والوطني، من خلال التساوي في الحقوق والواجبات، أما اشتراط مسألة الانتماء في الفضاء الديمقراطي المنشود، فيُحوّل الديمقراطية إلى أداة رجعية من خلال جعلها حاملاً دستورياً وقانونياً للبنى التقليدية، وشرعنة لتلك البنى.
لا تُغيّر ديمقراطية المكونات شيئاً بالمعنى الواقعي بالنسبة لأغلبية المجتمع، بل تستبدل الضبط القسري، بإعادة إنتاج السلطة وفق مصالح النّخب، أي أنها تمنح الديمقراطية للنخب فقط، دون أن تتحول الديمقراطية إلى أداة بيد الحركة الشعبية للتعبير عن ذاتها ومصالحها، وإنجاز مهمتها التاريخية. وإذا كان النموذج السابق يُغيّب إرادة الشعب السوري، لمصلحة سلطة واحدة، فإن ديمقراطية المكونات هي الأخرى تُغيّب تلك الإرادة، ولكن لمصلحة أكثر من نخبة هذه المرة، ليكون الأمر سيّان لدى الشعب السوري، فمشكلته في الجوهر ليست فيمن يحكمه، بل بكيفية الحكم، وأدواته، وآلياته.
ليس صحيحاً زعم البعض، بأنه لم يعد بالإمكان التعايش بين هذا المكوّن أو ذاك، استناداً إلى ممارسات من هنا أوهناك، خلال سنوات الأزمة، فالأغلبية الساحقة من السوريين أكدت بالملموس ضرورة التعايش والتضامن، رغم إرادة بعض النّخب، وبالنظر إلى خارطة النزوح السكاني، وحدها تتبين حقيقة هذه المسألة، وعلى عكس ما تروجه وسائل الإعلام والنّخب المشبوهة، لا بل إن حجم التداخل السكاني والاندماج المجتمعي في سورية، والوقائع الملموسة، تؤكد على حقيقة أساسية، وهو أنه لا يمكن لأيّ (مكوّن) أو منطقة في البلاد أن تشهد استقراراً وأمناً حقيقياً بمعزل عن الآخر، فإما أن تُحل الأزمة حلاً عاماً وشاملاً، وإما بقاء الجميع في حالة التوتر، والترقب والمستقبل الغامض المفتوح دائماً على احتمالات كارثية.

ديمقراطية المكونات والنموذج الاقتصادي

ربما أكثر ما يُفند أولوية الانتماءات التقليدية، هو المسألة الاقتصادية الاجتماعية في البلاد، سواء كان قبل تفجر الأزمة أوبعدها، فالفساد التقليدي، ومن ثم السياسات الليبرالية التي اتُبعت في البلاد كأعلى مرحلة للفساد ، قسمت المجتمع السوري إلى فئتين، أقلية طبقية ناهبة، وأغلبية طبقية منهوبة، وانسحب هذا التقسيم على المكونات السورية كلها دون استثناء، وإذا كانت طبيعة الصراع وشكله العسكري لم يسمحا بإظهار الحوامل السياسية لهذا الانقسام الاجتماعي، مما كون خللاً في المعادلة السورية، فإن ديمقراطية المكونات تحقق وحدة الناهبين، وتشرعنها وتقوننها، في حين تفتعل وتعزز انقسام المنهوبين، فهذا النموذج الديمقراطي، هو بالمعنى العملي ديمقراطية للنخب فقط، وديكتاتورية على الفقراء، كل الفقراء، وفي هذا السياق نعتقد بأن ظاهرة أمراء الحرب، تشكل الملامح العملية الأولى، لهذه البدعة (الديمقراطية).
تحتاج سورية الجديدة إلى نموذج اقتصادي- اجتماعي جديد، نموذج يُحقق أعلى نسبة نمو وأعمق عدالة اجتماعية، ولدى الوقوف على البرامج والرؤى الاقتصادية لنخب نموذج ديمقراطية المكونات، يُلاحظ المتابع ببساطة أنها تعتمد نموذجاً اقتصادياً واحداً، نموذج قائم على اللبرلة بما يعزز مواقع النّخب، ويشرعن فسادها ونهبها، في حين أن الوقائع تؤكد أن أحد الأسباب الأساس للحالة الكارثية التي تمر فيها البلاد أصلاً، هي بسبب هذا النموذج الذي ما زالت النّخب تُجمع عليه، لا بل أكثر من ذلك، فإذا كانت هناك أمزجة طائفية أو قومية محدودة هنا وهناك، فإن أحد أسبابها الأساس هو اعتماد هذا النموذج الاقتصادي، حيث أدى إلى تطور متفاوت بين المناطق السورية، وإلى تدمير القطاعات الإنتاجية، وموجات نزوح متلاحقة من الريف إلى أطراف المدن الكبرى، وبطالة بنموذجيها السافر، والمقنّع، ونتج عن ذلك كله تكوّن شريحة واسعة من المهمشين، تُعاني من الفقر، والإحساس المزمن بالقهر، والكبت، وجرى استثمارها في إشاعة التطرف بكل أشكاله وصنوفه، من هذا الطرف أو ذاك.

ديمقراطية المكونات والمسألة الوطنية

فرضت الجغرافيا السياسية على سورية أن تكون في قلب الصراع الإقليمي والدولي، وتبنّي هذا النموذج الديمقراطي، يؤدي إلى شلّ فعالية الكل الوطني، بسبب الفيتو الذي يُخوّل به ممثلو المكونات عند تبني نموذج المحاصصة، فحسب التجربة الملموسة– العراق، لبنان– يمكن لأية نخبة من هذه النّخب، إعاقة أي قرار حتى لو كان تعبيراً عن ضرورات وطنية في بلد مثل سورية، وعدا عن ذلك، فإن كل نخبة من هذه النّخب ستعمل من أجل تقوية مواقعها وعلى تعزيز شبكة علاقاتها الدولية والإقليمية، في ظل انقسام حاد، مما يعني شرعنة التدخل الدولي والإقليمي، وعليه، فإن هذا النموذج هو إجهاز على ما تبقى من وحدة وطنية، هو مزيد من الانتهاك للسيادة الوطنية، ومزيد من إضعاف الاستقلال الوطني، وفي بلد يُعتبر جزءاً من جغرافيا المشاريع الدولية القائمة على الفوضى، وضرب الكل بالكل، مما يؤدي بالنتيجة إلى قوننة حالة عدم الاستقرار القائمة، والدخول في دوامة تاريخية جديدة، تشبه دوامة سايكس بيكو التي تدفع شعوب المنطقة ثمنها منذ مئة عام، ومن هنا، هو نموذج مرفوض من جهة المصالح الوطنية السورية العامة أيضاً.

ما هو الحل المطلوب؟

إذا كان النموذج السابق قد استنفذ دوره التاريخي، وبات تغييره ضرورة وطنية، واقتصادية اجتماعية، وديمقراطية، وإذا كان نموذج ديمقراطية المكونات مرفوضاً كونه لا يحل أياً من هذه المهام بالشكل المطلوب، فما هو النموذج المطلوب إذاً؟
لا أظن أن أحداً يمتلك الجواب الناجز، لا بل ليس من حق أحد أن يفرض النموذج الذي يُريد من طرف واحد، تحت أية حجة وذريعة كانت، فذاك شأن السوريين جميعاً، وتلك هي إحدى مهام المرحلة الانتقالية والجسم الانتقالي مع بدء الحل السياسي على أساس القرار 2254، وستبقى مهمة تطوير النموذج المطلوب مهمة دائمة أمام السوريين، وإحدى جبهات الصراع السياسي اللاحق، ولكن في الوقت نفسه، ليس من حق أحد أن يتجاوز الضرورات والأسس العامة التي تبنى عليها الدول، مثل: الحفاظ على الاستقلال الوطني، والسيادة الوطنية، ومنها: سيادة الشعب السوري، وحقه في تقرير مصيره، بما فيه تحديد طبيعة النظام السياسي، دون وصاية أو استقواء بأحد وعلى أحد، لا من قوى الداخل، ولا من قوى الخارج، ولا من القوى الإقليمية.
بقي أن نقول: إن التأكيد على وحدة المصير، لا يعني بحال من الأحوال إنكار التعدد الثقافي: قومياً ودينياً، بل يعني وضع المسألة في سياقها التاريخي الصحيح، القائم على اعتراف الكل بالكل، وبما يؤدي إلى بناء دولة قوية وموحدة وديمقراطية على أسس سياسية قولاً وفعلاً، وليس دولة هشة وعاجزة، أي جعل التعدد عامل إغناء وتقدم، بدلاً من تحويله إلى طريق عودة إلى كهوف التاريخ، فالديمقراطية إما أن تكون عصرية- حداثية، ومتكاملة الأركان.. أو لن تكون، لأنها ستُعيد إنتاج المأساة السابقة على شكل مهزلة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
975
آخر تعديل على الثلاثاء, 21 تموز/يوليو 2020 19:39