لماذا المدخل الدستوري؟

لماذا المدخل الدستوري؟

رغم المعيقات العديدة، ورغم التأخر الواضح في انطلاق المسار الدستوري، مسار اللجنة الدستورية المستند للقرار 2254، والذي تبلورت خطوطه العامة في الشهر الأول من العام الماضي في سوتشي، إلا أنّه لا يزال النقطة الأولى على جدول أعمال حل الأزمة السورية بجانبها السياسي.

إذا حاول المرء استعراض المراحل التي مر بها ملف اللجنة الدستورية منذ انطلاقه، فمن الممكن تكثيفها على النحو التالي:

المرحلة الأولى
)من نهاية الشهر الأول 2018، وحتى الشهر التاسع منه)

طوال هذه المرحلة كان الموقف الغربي من تشكيل اللجنة الدستورية موقفاً سلبياً، بشكل علني قبل مؤتمر سوتشي وبشكل أقل علنية بعده. قبل المؤتمر، كثف الغرب عمله لمنع ثلاثي سوتشي من الوصول إلى أيةِ نتيجة سياسية مشتركة؛ إذ بات من الخطير بمكان بالنسبة للغرب أن يمضي التفاهم الثلاثي إلى ما هو أبعد من المسائل العسكرية.
ولكن، بعد أن بات التوافق أمراً واقعاً، بدأت محاولات اللعب لضرب ذلك التفاهم. في البداية جرى تحريض المعارضة القريبة من الغرب على عدم حضور سوتشي، ثم جرى تحريضها على تأخير تقديم قائمتها قدر الإمكان، إلى ذلك الحد الذي ارتفع معه احتمال أن ينخفض وزنها ضمن أي حل قادم إلى حدودٍ صفرية، عندها بات من الضروري أن تقدم قائمتها، وجرى ذلك كما هو معروف بتنسيق بين بعض أقسامها وبين تركيا.
بعد أن تمكن الثلاثي من التوافق على طريقة لحل الإشكالية المتعلقة بثلثي النظام والمعارضة، بقيت مشكلة الثلث الثالث وعدم وجود توافق تام ضمن الثلاثي حوله، وعندها جرى الانتقال غربياً إلى المرحلة الثانية.

المرحلة الثانية
(من الشهر التاسع 2018 وحتى بداية 2019)

في هذه المرحلة، وبعد القمة الرباعية التي ضمت روسيا وتركيا إلى جانب فرنسا وألمانيا، وجرى خلالها التأكيد على مسألة اللجنة الدستورية، ارتفع الرهان الغربي على تفجير ثلاثي أستانا انطلاقاً من الثلث الثالث، وبدأت التهديدات بالارتفاع إلى حدودها القصوى، وخاصة على لسان جيمس جيفري الذي وصلت به الأمور أن أعلن نهاية مسار أستانا. وقد لعب دي مستورا دوره الغربي كاملاً في تلك المرحلة مساهماً في محاولات رفع الضغط على ترويكا أستانا لإبراز عدم توافقها على الثلث الثالث وصولاً إلى سحب الملف من يدها، ليس لكي يجري حله على أيدي آخرين، بل لكي يتم سد الثغرة التي أحدثتها أستانا في الجدار الكتيم للعملية السياسية، عودةً إلى مرحلة المبارزات الإعلامية عديمة المعنى وعديمة الجدوى في جينيف بين طرفين يسيطر على كل منهما متشددون لا يهمهم إن استمرت الكارثة لعشرات الأعوام القادمة.
وكما الحال مع كل سلوك واشنطن خلال العقدين الماضيين، فإنّ كل توجه تكتيكي تتبناه بغرض بث الفرقة بين خصومها عبر الضغط والعقوبات والتخويف والترهيب، لا يلبث أن يتحول إلى عامل توحيد لأولئك الخصوم؛ ذلك بالضبط ما جرى مع ثلاثي أستانا الذي ما فتئت تفاهماته تزداد عمقاً، وصولاً إلى وضع أسقط في يد دي مستورا فيه حين تقدم له الثلاثي بقائمة متفق عليها للثلث الثالث. وحينها انتقل التعطيل صوب الأمم المتحدة، وبات تغيير دي مستورا بحد ذاته إحدى أدوات ذلك التعطيل والتأجيل الذي بدأ مستنداً إلى «حق» الأمم المتحدة المفترض في تعيين الثلث الثالث، الذي لم تستطع الدفاع عنه طويلاً لأنه بهتان ظاهر، وجرى الانتقال إلى (التمسك بمعايير ومحددات تشكيل وعمل اللجنة) كوسيلة جديدة للتعطيل.

المرحلة الثالثة
(منذ بداية العام وحتى الآن)

بعد دي مستورا، جرى تجميد الملف مؤقتاً، واختفت فجأة غلواء الغرب الذي كان يهدد بالويل والثبور إن لم تتشكل اللجنة مع نهاية 2018، ودخلنا في مرحلة نقل الملفات من دي مستورا إلى بيدرسن، ومن ثم في مرحلة الجولات المكوكية التعارفية والتحضيرية التي يقوم بها بيدرسن، وصولاً إلى إحاطته الأولى في مجلس الأمن والتي ظهر فيها أن ملف اللجنة الدستورية قد تراجع مرة أخرى ليصبح بنداً رابعاً ضمن خمسة أولويات.

ما الذي يعنيه المسار الدستوري؟

إنّ المواقف من اللجنة الدستورية، وتقلباتها، ليست محض مصادفة، وليست ناجمة عن استخدامها تكتيكياً كملف يجري الضغط باتجاهه أو يجري تجاهله بين الآونة والأخرى، وإنْ كان هذا يفسر جزئياً بعض ما يجري ضمن مسار تشكيلها.
إنّ اختلاف المواقف من اللجنة الدستورية هو في العمق تعبير عن الاختلاف العميق في طبيعة المهمة المطلوب تحقيقها في سورية لدى كل من واشنطن من جهة ومن موسكو وحلفائها من جهة أخرى.
إنّ تغيير الأنظمة باستخدام الساطور وباستخدام الوسائل الحربية والعسكرية، والذي من شأنه الوصول بالبلد المعني إلى حالة خراب عميق تودي بوحدته الجغرافية وبوجوده، بل وفوق ذلك يمكنها ألا تغير النظام حقاً بل تبقيه وتغير مساحات عمله ضمن إضعاف شامل للدولة.
هذا النوع من السياسات الذي لطالما اتبعه الغرب ابتداء من الفضاء السابق للاتحاد السوفييتي ووصولاً إلى مناطق متعددة في العالم، لا يعنيه استقرار الدول على الإطلاق، بل العكس بالضبط هو ما يعنيه: التخريب والفوضى.
في مقابل ذلك، فإنّ روسيا والصين والقوى الصاعدة عموماً، لها المصلحة كلها في الوصول إلى حالة مستقرة تسمح بترجمة الأوزان الاقتصادية العالمية الجديدة أوزاناً سياسية، ولذا يعنيها بعمق الوصول إلى استقرار حقيقي.
وفي حالة كالحالة السورية، يعلم القريب والبعيد، أن الوصول إلى استقرار حقيقي لا يمكن أن يتم دون تغييرات حقيقية وعميقة تفتح الباب على كسر البنية التابعة اقتصادياً وسياسياً للغرب، والتي يمثل كل من القمع السياسي والنهب الداخلي أدوات وجودها، بل ومعناه.
لمّا كان التغيير واجباً، فإنّ أسلم الطرق في الوصول إليه، هي تفعيل إرادة السوريين الحقيقية، عبر وسائل لها أساس قانوني سلمي، على رأسها قانون القوانين: الدستور.
إنّ دور اللجنة الدستورية، أو المسار الدستوري على العموم، هو دور مفتاحي للوصول إلى تغيير شامل وعميق، ولكن تدريجي وسلس يتجنب مفخخات الغرب ومزالقه، وهي الخطوة الأولى الضرورية لتنفيذ كامل للقرار 2254 الذي يعني في جوهره شيئاً واحداً: أن يقرر الشعب السوري مصيره بنفسه.

رئيس وفد منصة موسكو وعضو هيئة التفاوض السورية

معلومات إضافية

العدد رقم:
905
آخر تعديل على الخميس, 21 آذار/مارس 2019 14:37