الثنائية الحقيقية: إما الغاضبون أو الناهبون
ليلى نصر ليلى نصر

الثنائية الحقيقية: إما الغاضبون أو الناهبون

تعتبر رفع درجة حرارة المجتمع المشحون بالظلم والحرمان، بمثابة تهديد جدي بالانفجار! الاشتعال الذي يتوالد ويتسع إذا ما صببت عليه الزيت عوضاً عن الماء بطبيعة الحال.. يستعر أيضاً إن صببت عليه المياه بأقل من المطلوب لتهدئة النفوس ونيلها انتصاراً فعلياً لكرامتها المهدورة.

هذا ما حصل وتراكم تحديداً خلال العقد الأول من الألفية عندما تتالت الممارسات الليبرالية الاقتصادية الفجة على رؤوس السوريين، وأصبحت القصور أكثر ترفاً واستفزازاً... واكتملت حلقة الغضب، التي رسمتها عقود من انعدام «الحياة الديمقراطية»، في بلاد تباطأت فيها عجلة التقدم الجدِّي للأمام منذ منتصف السبعينيات، وحرم أهلُها فرصة الدفاع عن حقوقهم، وعن تقدم بلادهم وتحريرها.
الساحة المعدّة للفوضى
اندلعت الأزمة على خلفية ما سبق وتراكم، وتلطّى الغرب لاصطياد فرصة الفوضى... وتلقف أيضاً بكل سرور، ما قدمه له سلوك القوى المحلية التي أججت الأزمة ودفعت نحو تدويلها، ليستفيد تحديداً، من اليأس الغاضب الذي خلقه تعنّت قوى الفساد والمال، وعدم اعترافها بحاجات الناس، وتخوينهم.
ووصل السوريون بجهود قوى المال السياسي والإعلامي، إلى الاصطفاف في ثنائيات وهمية: نظاماً ومعارضة، وثنائيات طائفية واثنية وغيرها. بأرضية مهدت للاستعداد للاستقطاب المسلح، ليدخل الغرب بأدواته لساحة معدّة جيداً للمعركة، ويصل في استخدام الأزمة السورية لدرجة خلق «داعش» ومحاولة تحويل البلاد إلى منصة مستقرة لإنتاج الإرهاب إقليمياً ودولياً.
وقود المعركة الطويلة
فقراء السوريين كانوا وقود المعركة الطويلة، التي يغذّيها الأمريكيون حتى الآن... ودفع هؤلاء كل الأثمان: فماتوا، وتشردوا، وجاعوا.. بينما وجدت النخب في كل الأطراف ما تغنمه في هذه السنوات التي تحولت فيها سورية إلى نقطة التركيز الدولي.
وإن كانت البلاد قد عادت من نقطة اللاعودة، وتجاوزت المراحل الأخطر، فلأن اللحظة السياسية الدولية ساعدت السوريين، وأظهرت انعطاف ميزان القوى الدولي في سورية، ووجدنا قوى جدية دولياً وإقليمياً تستطيع وتريد مواجهة مشروع الفوضى الغربي، أما كيف كان هذا فعِبر الكثير والكثير من الدماء والأعمار السورية.
«غُول العوز» وحيداً..
اليوم، يجد متعبو سورية أنفسهم أمام منعطف جديد، فبينما لم تعد رحى المعارك خطراً ماثلاً أمامهم كما في الأعوام الماضية، فإن كل ما نجم عنها يطفو على السطح: الدمار والفقر والتهميش، والغنائم والثراء والنخب... جميعها ماثلة بوضوح. وأصبحت كل التقسيمات السابقة ثانوية فعلاً أمام «غول العوز» الذي يتصدر الساحة.
اتضح بعد هذه المعارك أن أغلبية السوريين خاسرون، وقلة منهم غانمون، ولم تعد ضربات المدافع ومخاطر الإرهاب، تُشوش على هذه الثنائية الحقيقية. كما أضحى دور الغرب واضحاً كعين الشمس، فهو يريد خنق السوريين بتشديد الحصار، وتحويل فقرهم المستعصي إلى أزمات خانقة تمهد لفوضى قادمة.
أمام هذا، تريد النخب الغانمة أن تنصحنا بالصبر، وأن تزودنا بتعاليم المؤامرة الغربية وضرورة مواجهتها، بتقبل المزيد من فقر الحال...
الفوضى دواؤها التنظيم
ولكن ما كان مستحقاً سابقاً أصبح أكثر استحقاقاً، فأغلبية السوريين يشعرون بأن كرامتهم مهدورة، وأنهم لا يملكون شيئاً ليخسرونه. وهم سيكونون قادرين على تحمل مزيد من الضغط والحصار فقط في حالة واحدة، إذا امتكلو حقهم في رفع الظلم عنهم، وفي الدفاع عن أنفسهم...
الضغط يستهدف الفوضى، والفوضى لا رادّ لها إلا التنظيم، أي: توزيع الضغط على الجميع سواسية، ما أسميناه سابقاً: «عدالة الحرمان».
الغاضبون هم قضاء وقدر، لا يمكن لجمه، ولكنهم طاقة كامنة أيضاً... إطلاقها لتدافع عن نفسها، وإحقاق مصالحها وإرضاؤها، كفيل بحماية البلاد. أما استفزازها فيفتح من جديد بوابات الفوضى.. وأكثر ما يستفزها اليوم: النخب الغانمة من الحرب، والمتلاعبة بقوت الناس القليل المتبقي، واسترضاء الغرب، وكبح قدرة الناس في الدفاع عن نفسها.
نقترب اليوم من المنعطف الحاد، فإما خيار مصلحة الأقلية الناهبة والدخول في الفوضى، أو خيار مصلحة الأكثرية المنهوبة والانتصار الفعلي للبلاد وأهلها... ولكن هذا المنعطف لا يُعبر سريعاً، ولا يأتي بقرارات تنفيذية، ولن تمنحه قوى المال والنفوذ للسوريين منحاً. ولكن الطريق الأسلم لانتزاع خيار بناء البلاد لمصلحة الأكثرية، يمر عبر الوصول إلى حلول سياسية توافقية تهيّء الأجواء للعمل السياسي الواسع، وتضمن انتقال البلاد إلى حالة أعلى من السلم والوحدة الوطنية، وتمنع الارتدادات التي ستستخدمها قوى النهب لتفرقة شارع المنهوبين العريض... الذي سيجمع غضبه وينتزع حقوقه في الأفق السوري القادم.