قدري جميل: التغيير ذو اتجاه واحد لا رجعة عنه

قدري جميل: التغيير ذو اتجاه واحد لا رجعة عنه

أجرى رئيس منصة موسكو للمعارضة السورية، د. قدري جميل، يوم الأربعاء 8/8/2018، مؤتمراً صحفياً في مقر نادي الشرق التابع لوكالة نوفوستي في موسكو، أوضح من خلاله موقف المنصة من جملة القضايا السياسية الراهنة، تنشر قاسيون فيما يلي المداخلة التي قدمها د. قدري في بداية المؤتمر الصحفي، مع العلم أن التسجيل الكامل للحوار منشور على موقع قاسيون الإلكتروني.

ترسخ ميزان القوى الدولي
نلتقي اليوم بعد آخر مؤتمر صحفي أجريته هنا قبل أكثر من ثلاثة أشهر في 24 نيسان، جرت خلال هذه الفترة أحداث كثيرة، ولكن نقاط محددة يستحق التوقف عندها: تعلمون دائماً أنني خلال كل الأحاديث والمؤتمرات أركز على موضوع التغيّر الجاري في ميزان القوى الدولي وفي نمط العلاقات الدولية، هذا الموضوع كان يعتبر عند البعض افتراضياً، وليس أمراً مؤكداً. ولكن نحن نعتقد جازمين أنه لا يمكن فهم كل التطورات الجزئية، ومنها السورية، الجارية في العالم... دون الانطلاق من فهم عميق للطبيعة الحالية للعلاقات الدولية وميزان القوى ونمط العلاقات.
أكدنا دائماً كحزب إرادة شعبية وكجبهة تغيير وتحرير ومنذ سنوات أنّ ميزان القوى يعكس ظاهرة جديدة لم تكن موجودة سابقاً، وهي الأولى من نوعها منذ مئات السنين. الغرب بشقيه: الأوروبي والأمريكي المهيمن على العالم بشكله القديم الاستعماري وبشكله الجديد خلال 500 عاماً، إمكاناته تضعف، وقدراته تتراجع، ولم يعد قادراً على فرض ما كان يستطيع فرضه سابقاً، أي: أنّ هنالك قطباً يهبط، ولكن مقابل ذلك هنالك قطب يصعد، وهو: قطب تلك القوى التي يمكن القول أنها كانت تابعة ومهيمناً عليها. فمن هي الصين؟ العملاق الجديد، ومن هي الهند؟ ومن هي روسيا؟ عودوا إلى الكلاسيكيات، روسيا كانت دولة تابعة بالمعنى الاقتصادي في أوائل القرن العشرين، هذه الدول التي تعتبر في آخر السلسلة بين البلدان الهامة في العالم، تتقدم اليوم في الصفوف، والدول التي لعبت دوراً هاماً في استعمار العالم بشكله القديم وبشكله الجديد تتراجع، وهذه حقيقة.
المشكلة أن البعض كان لا يصدقها. واليوم عندما يراها يعتبر أنها مؤقتة وبمثابة «سحابة صيف» ويمكن أن تتغير الأمور، ولكن أستطيع أن أوكد لكم أن هذا التغيير ذو اتجاه واحد ولا رجعة عنه، والدليل الأخير عليه هو قمة ترامب- بوتين، لا أريد أن أتكلم عمّا جرى في هذه القمة، بل عن تفاعلاتها، دعونا نرى نتائجها...
العالم الجديد الممثل ببريكس ومعاهدة شنغهاي يصعد ويقوى وتشتد اللحمة بين صفوفه، وهذا واضح. أما العالم القديم- حلف الأطلسي- الاتحاد الأوروبي- يشهد انقسامات شديدة. دعونا نقوم باستعراض الانقسامات الموجودة في العالم القديم: انقسام حاد أمريكي- أمريكي واضح المعالم وعلني، وهو انقسام في النخبة أولاً، وفي المجتمع ثانياً، وهما أمران مختلفان. الانقسام الثالث: انقسام أوروبي- أمريكي عميق، وآخر وأبرز مؤشرات ظهوره تتمثل بالأزمة مع إيران. يضاف انقسام رابع أوروبي- أوروبي بين الدول الأكثر قدرةً ورغبةً في السير وراء السياسية الأمريكية، والدول التي لا تريد السير ببساطة مع السياسة الأمريكية. كما تشهد أوروبا انقساماً بين بين الحكومات والشعوب يتصاعد ويتعمق وتزداد المواجهات بأشكالها المختلفة وبقواها المختلفة اليسارية أو اليمينية المتطرفة...
إن كل هذا تعبير عن الأزمة، إذ حينما تكون الطريق مسدودة، وتعم الأزمة تزداد الانقسامات، أما في وقت التقدم والصعود تزداد اللُّحمة والوحدة، وهو الأمر الذي نراه اليوم وبشكل واضح في اللوحة الدولية. إذا اتفقنا على هذه النقطة وانتقلنا إلى سورية وهي موضوعنا، برأيكم ألّا يجب أن ينعكس هذا في سورية والوضع الجاري فيها؟ دعوني أقول: إن الصراع في سورية شهد في الفترة الأخيرة صعوداً واضحاً لدور القطب الجديد الذي تمثله اليوم روسيا على الأرض في سورية عسكرياً، ولكن روسيا بالمعنى السياسي ليست وحدها، بل هنالك جبهة دولية عريضة تؤيدها وتشترك معها بالأهداف السياسية. وقد تم التعبير عن هذا في اجتماع منظمة شنغهاي وفي اجتماع دول بريكس.
لذلك اليوم السؤال المطروح والذي يشغل بال الكثيرين، ما هي جدّية الأمريكان وصدقهم في موضوع انسحابهم من سورية الذي يتكرر كثيراً؟
أنا أعتقد أنه في السياسة لا يجوز الاعتماد على النوايا ولا على الرغبات أو العواطف، والمواقف المسبقة، بل ينبغي أن يتم التحليل على أساس ميزان القوى الحقيقي الفعلي، وكيف سينعكس في سورية؟
القوى المتراجعة عالمياً تتراجع في سورية أيضاً. وضمن إطار المنظومة الدولية التي تنعكس في سورية، فإن الغرب الذي عاث فساداً وتخريباً في بلادنا منذ عام 2011 بشكل علني وقبل ذلك بشكل سرّي- لأني أعزو كل الإصلاحات الليبرالية التي جرت في سورية في عام 2005 كأحد أشكال العمل ضد سورية للتحضير للانفجار الذي حدث في 2011- الغرب عملياً أمامه حلّان في سورية، إما المكابرة وعدم الاعتراف بالواقع الدولي الجديد المتشكل والذي ينعكس أيضاً في سورية، أو الاعتراف بالأمر الواقع.
دعونا نرى ما هي نتائج كل خيار، إذا اعترف الغرب بالأمر الواقع، ستكون النتيجة تقليل الخسائر التي يتكبدها، أما نتيجة عدم الاعتراف بالواقع الجديد ستكون ازدياد الخسائر السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها، وهذا يسبب قلقاً وصراعاً داخل الأوساط الحاكمة في الغرب التي مازالت غير قادرة ذهنياً ونفسياً على التكيف مع الوضع الجديد، بينما بعض القوى الأخرى تريد التكيف السريع لتقليل الخسائر.
ميزان القوى الدولي وسورية
كيف انعكس التغير في ميزان القوى الدولي في سورية خلال الأشهر الثلاثة الماضية؟ في معركة الغوطة الشرقية جرى انهيار متسارع لصفوف المسلحين المدعومين غربياً ومن بعض الأطراف العربية، وإذا أردنا أن نأخذ مقياساً معركة شرق حلب ونقارنها بالغوطة الشرقية، نرى أن ما جرى هاك كان أسرع من حيث الوتيرة الزمنية مما جرى في حلب. ثم أتت بعدها المنطقة الجنوبية، حيث كان المتوقع أن تطول العملية، ولكنها بالمقابل أخذت وقتاً أقل من الغوطة الشرقية وأفرزت شيئاً جديداً يجب التوقف عنده، وهو ما كنا نراهن عليه، واليوم ترونه «بأم أعينكم» في شرق السويداء، حيث يحدث القتال المشترك للجيش السوري وبعض الفصائل المسلحة التي قبلت عملياً الحل، ضد داعش. كنا نقول منذ وقت طويل: بأن بنادق السوريين يجب أن تتجه ضد الإرهابيين. اليوم بالمعنى المباشر والحرفي للكلمة يجري ذلك في شرق السويداء ضد داعش. إحدى نتائج معركة درعا كانت فرز المسلحين الذين يريدون حلاً عن المسلحين الذين لا يريدون الحل. وأعتقد أن هذا أحد الإنجازات الكبرى التي يمكن وضعها في رصيد مسار الأستانا.
أما إذا انتقلنا إلى شمال إدلب، فإن اجتماع أستانا الأخير العاشر الذي عقد في سوتشي تمركز حول هذا الموضوع. لا أحد يستطيع القول بالتفصيل اليوم ما هي القرارات النهائية الميدانية التي اتخذت، ولكن واضح أن العمل ما زال حثيثاً لخلق تحالف بين قوى معادية لجبهة النصرة من كل شاكلة ولون: مسلحين، أو جيش سوري أو تركيا أو روس، بهدف خلق تعاون على الأرض للقضاء نهائياً على جبهة النصرة التي تعتبر الفصيل العسكري الأكبر في إدلب، يجري العمل في هذا الاتجاه، وإذا نجح سيثبت ذلك الميل الذي ظهر في درعا حول تحالف الجيش السوري مع قوى المسلحين ضد الإرهاب.
هناك سؤال يطرح دائماً حول: صدق نوايا الأتراك. لا أحد يعمل وفق النوايا في السياسة. ومن ينطلق في القراءة، ويعمل على أساس النوايا يخطئ كثيراً. ما يحكم الأمور في السياسة الظرف الموضوعي، حيث يفرض ميزان القوى نفسه. الحديث عن النوايا يصبح «ضرباً من الغيب» وهو أمر غير جدّي إذا لم يرافقه فهم عميق لمعطيات الأرض والواقع الموضوعي، وبما أننا لسنا أنبياء يجب أن ننتظر الواقع وتطوره فلننتظر ونرى كيف ستتطور المعركة في إدلب، ولكن بقياسها على معركة حلب والغوطة الشرقية والجنوب، لا يمكننا القول إلّا أن هذه المعركة تسير في الاتجاه الصحيح وتحسم عملياً المعركة ضد الإرهاب في سورية وتفتح الباب واسعاً لطريق الحل السياسي عبر التغيير الوطني الديمقراطي المطلوب.
بقيت أخيراً مناطق الشمال الشرقي، مناطق الإدارة الذاتية، من هذا المنبر ومنذ سنوات أكدنا أننا نتفهم مخاوف أطراف الإدارة الذاتية عندما يطرحون فيدرالية ولكننا لا نوافقهم، لأن الفيدرالية واسعة على سورية ومضرّة. واقترحنا بديلاً إدارة لا مركزية واسعة، وشرحنا لماذا، لأن التطور الموضوعي يتطلب ذلك، المركزية المفرطة في سورية هي أحد أسباب الأزمة، لذلك يجب إعادة توزيع الصلاحيات بين المركز والمناطق. اليوم رأينا القوى الموجودة في الإدارة الذاتية خلال تطوراتها الأخيرة: مؤتمراتها- محادثاتها- ذهابها إلى دمشق عملياً تؤكد على اللامركزية، وموضوع الفيدرالية وحتى موضوع الإدارة الذاتية لم يعد موجوداً بين المصطلحات المستخدمة، وهذا التطور إيجابي.
أما لماذا حدث وبهذا الشكل؟ أعتقد أن جملة العوامل التي تكلمت عنها قبل قليل، وأهمها: تراجع الدور الأمريكي في سورية جعل الكثيرين يفكرون بشكل منطقي ويصلون إلى الاستنتاجات التي نرى نتائجها اليوم أمامنا.
الوضع الميداني في سورية يقول: إن كل بؤر التوتر ذاهبة إلى الحل عسكرياً أو سياسياً أو بحل مركب عسكري سياسي كما جرى في حوران، وأعتقد أن هذا الأمر أصبح في الآفق المنظور الحديث عنه وتوقعه. الحدث الهام الأخير خلال انعقاد أستانا في سوتشي والذي يعتبر مؤشراً إيجابياً كبيراً، بوجهة نظري كمعارضة وطنية، هو سلوك وفد المعارضة في سوتشي، حيث كان يتسم بالواقعية والإيجابية الواضحة من خلال تصريحاتهم ومن خلال مواقفهم، وهذا أمر هام بالمقارنة مع المواقف السابقة في أستانا بجولاته الأولى هذا أمرٌ مستجد ويدل على التغيرات الجارية في العقلية وفي المنطق وفي المواقف، لذلك الأستانا بقي لديها منطقة خفض تصعيد واحدة هي: إدلب، جرى التعامل معها وسنرى كيف تم الاتفاق على الحلول التي ستنفذ خلال الأسابيع القادمة.
اللاجئون
النقطة الرابعة، أردت أن أتبادل الرأي معكم حول موضوع اللاجئين... البعض يحاول تأجيل هذا الموضوع إلى ما بعد الحل السياسي، وكأن اللاجئين يستطيعون انتظار السياسيين كي يتفقوا. وبعض الدول الأوروبية تضع الحل السياسي شرطاً أمام عودة اللاجئين. ولكن إذا ما بدأ الحل السياسي فإن تنفيذه يحتاج إلى وقت، ألا يمكن العمل على إعادة اللاجئين ومن خلال عودتهم تسريع الحل السياسي؟ ألا يمكّن ذلك من تخفيف آلامهم ومعاناتهم وخلق البيئة الحاضنة الضرورية والإيجابية للحل السياسي حتى، أعتقد أن هذا هو المنطق السليم. أمّا استخدام اللاجئين كورقة للضغط لمنع الحل السياسي السوري- السوري فهذا الأمر لا يتفق مع مصلحة اللاجئين السوريين الموجودين بالملايين خارج البلاد. بعض القوى التي لا يروق لها الحل السياسي في الغرب، تريد استخدام ورقة اللاجئين للضغط على تنفيذ الحل السياسي.
اللجنة الدستورية
سألخص في هذه النقطة: النظام أول من قام بتقديم قائمته، المعارضة عملياً قامت بتقديم قائمتين، قائمة بعض جماعة سوتشي، وقائمة هيئة المفاوضات. وحسب ما جرى الحديث، ديمستورا مكلف بتقديم قائمة المجتمع المدني، والاتجاه اليوم: أن اللجنة الدستورية ستكون ثلاثة أثلاث، ثلث معارضة وثلث نظام وثلث مجتمع مدني. قال ديمستورا بآخر تصريحاته بعد المباحثات الأخيرة في سوتشي: إن تشكيل اللجنة الدستورية سيجري في آخر أيلول. موضوع وفد النظام- الحكومة في اللجنة الدستورية محلول، موضوع وفد المعارضة في اللجنة الدستورية غير محلول، ولكنه تقدم إلى الأمام ونعتقد ونريد أن يكون وفد المعارضة واسع التمثيل، يمثل كل طيف المعارضة، أو أوسع طيف يمكن، ونحن غير موافقين على اعتبار أن هيئة المفاوضات، ونحن جزء منها، الممثل الوحيد والشرعي للمعارضة السورية. حيث يوجد أطراف أخرى من الضروري تمثيلها، هذه الأطراف كانت مثلاً موجودة في سوتشي وتقدمت بقائمة. يجب على المبعوث الدولي والضامنين الثلاثة أن يأخذوا بعين الاعتبار التمثيل الواسع للمعارضة السورية، فالقرار 2254 تحدث عن منصة موسكو والقاهرة والرياض وغيرها، أي: أنه لم يعطِ احتكاراً لهؤلاء الموجودين في هيئة المفاوضات، البعض في هيئة المفاوضات يريد قياساً على عقلية «الحزب القائد» احتكار تمثيل المعارضة، وهذا أمر لا يجوز، بل ومضرّ في الظروف الحالية. ما أريد قوله حول آخر دورة لاجتماعات هيئة المفاوضات، أن هنالك تغير في اللهجة يظهر في البيانات التي صدرت، لقد أصبحوا أكثر عقلانيةً، أكثر اعتدالاً، وأقل «حربجيةً» في طروحاتهم، وهذا الأمر الذي كنا نطلبه دائماً. إذ لطالما اعترضنا على اللغة المتشددة التي كانت تهيمن على وثائق هيئة التفاوض، ولكن باعتبارنا أقلية هناك فقد كنا دائماً نسجل مواقفنا المستقلة، ونعلنها، ونحن بريئون من تلك المواقف المتشددة غير العقلانية. ولكن نلاحظ اليوم أن كل مواقف هيئة التفاوض تنسحب باتجاه أكثر اعتدالاً، وعقلانية، وتحتاج إلى المزيد لتسير بالاتجاه المطلوب.

الاستنتاج النهائي من كل ما أريد قوله: الوضع الحالي بخيمته الدولية والتطورات الجارية فيها، ومسار سير الأمور ميدانياً، ومسار سير الأمور سياسياً باتجاه الحل السياسي عبر أستانا واللجنة الدستورية. كل ما سبق يؤكد حقيقة أساسية: أن المتشددين في الطرفين يضعفون ويُعزلون، وسيصبحون على قارعة الطريق قريباً... وستصبح القوى الأساسية المقرّرة في حل الأزمة السورية، هي القوى العاقلة الموجودة هنا وهناك- هنا في النظام وهناك في المعارضة- هذه القوى العاقلة التي تريد حلاً وطنياً سورياً_ سورياً على أساس 2254. كثيراً ما يسألوني لماذا أنتم مع 2254 وهذا القرار دولي أقول لهم: إن المشكلة في 2254 أن عموده الفقري هو الحوار السوري_ السوري والقرار السوري_ السوري، وكثيرٌ من الغرب وجزء من المعارضة لا يريد 2254 لماذا؟ لأنه يربط كل الحل بالسوريين، موضوع سيادة السوريين وقرارهم هو جوهر وروح القرار 2254 والذي لا يريد هذا القرار كخارطة طريق، معناه أنه لا يريد أن يكون القرار للسوريين أي: لا يريد حق تقرير المصير بأيدي السوريين، لذلك المرحلة القادمة من هنا إلى نهاية العام أعتقد أننا سنشهد اندحاراً نهائياً للمتشددين في الطرفين وسنشهد سيراً متسارعاً للحل السياسي وصولاً إلى بدئه.

آخر تعديل على الأحد, 12 آب/أغسطس 2018 20:52