جبران الجابر جبران الجابر

الأزمة والقتال

الأزمة، أية أزمة، ليست مصادفةً، وليست ظاهرة فجائية، إنها ظاهرة تتكون شيئاً شيئاً وعبر تراكم الوقائع الملموسة التي من شأنها التأثير في الوعي الاجتماعي، ولم تكن الأزمة السورية ظاهرة غريبة، أو أنها حالة عاطفية اجتماعية آنية أو عابرة، أو أنها نشأت بين ساعة وأخرى، ورغم تأثير الثورات في عدد من الدول العربية إلا أن رد الأزمة السورية إلى ذلك العامل هو من باب الجهل بالمجتمع والعلاقات السياسية والاقتصادية.

لم تولد الأزمة السورية بحالتها وشكلها العاصف معزولة عن أشكال أولية كانت تعبر عن تلك الأزمة، فكان الهمس أحياناً والنكات أحياناً والامتناع عن التصويت أو غيره من أشكال التعبير الأولية أحياناً أخرى.

أية أزمة تشتد مفاعيلها باتجاهات تراكم الوقائع التي كوّنها، وأية أزمة لا يمكن معالجتها دون وعي حقيقي لطبيعتها ومضمونها الجوهري، وقد جاءت الأزمة السورية بكل جوهرها السياسي والاجتماعي، وقد جرى الاعتراف بذلك قبل سنوات من اجتياز الأزمة السورية عامها الأول، ولم تكن مصادفة الدعوة لتفعيل دور الجبهة، وتفعيل دور أحزابها، وكانت أيضاً أنشطة الاستنهاض السياسي شأن القيادة القطرية في زياراتها لفروع حزب البعث العربي الاشتراكي، وهكذا فقبل شوارع درعا وبلداتها وقبل انتقالها من مدينة لأخرى، كانت الأزمة تطرح ذاتها، تصرخ كي يجد الوطن العلاج الذي يوقف الأزمة ويسعف في عدم احتدامها وتطورها، وإذا كان من درس تاريخي هام فإنه يتلخص في التقاط اللحظة المناسبة للشروع بمعالج مشكلات الأزمة. وليس غريباً القول أن للأزمة قانونياتها وخصوصياتها أشكال التعبير عنها إن تجاوز ذلك أو إدارة الظهر لمعالجة المحتوى السياسي والاجتماعي لايعدو كونه عامل تأزيم للأزمة.

لقد نادت الأزمة طويلاً كي تلاقي علاجها، وكانت قرارات آخر مؤتمر لحزب البعث العربي الاشتراكي مادة هامة لمعالجة الأزمة فالقرارات كانت سياسية واجتماعية، وقد اصبح التنويه ضرورياً إلى قول واضح وهو أن طبيعة الأزمة وجوهرها يفرض طبيعة الحل الذي يتجاوز الرغبات والأهواء، وعندما بدأ القتال فإنه كان مؤشراً على أن ما في الجعبة للمعالجة لا يؤمن حل الأزمة وكان ذلك عاملاً لاحتدام الأزمة وليس حلاً لها، وكان تأثيره قوياً على النطاق السياسي والاجتماعي، وتحول إلى أن تصبح الأزمة في دورب الخطر على الوطن ووحدته، وليس سراً أن المعالجات السياسية جاءت متأخرة ولم تكن معالجات تعترف بالأزمة، وجاءت الوثائق السياسية لتطرح رؤية طرف واحد من مكونات الأزمة، وكانت تستند إلى كثير من الشروط التي لا تسمح لتلك الوثائق أن تفرض نفسها باعتبارها علاجاً فعلياً للأزمة في أعماقها السياسية والاجتماعية.,

تفاعلت في الأزمة خيوط عديدة، وتحولت الأزمة إلى أزمة وطن تحت مفاعيل خيوطها الداخلية وتشابك تلك الخيوط بالخيوط الخارجية التي شيئاً فشيئاً، نقلت الأزمة خارج نطاق أزمة وطن وأصبحت أزمة عربية واقليمية ودولية، وخلاصة ذلك أن الخيوط الخارجية على مختلف ألوانها دخلت في النهاية كعوامل تأزيم للوضع الداخلي ولم تَسِر في مسارب حل الأزمة كما تحولت إلى عوامل تشدد الإقتتال وتمده نحو حالات متطورة حتى وصلت الأمور إلى آراء تطرح علانية أن الحل هوفي تسليح المعارضة. إن التعويل على مزيد من القتال وتطويره لا يحل الأزمة السياسية الاجتماعية لكنه يوجهها إلى مزيد من الدمار والانقسام، والخطير أن نتائج الاقتتال لا تجد إلا السرور، فتتباهى المعارضة بزيادة الانقسام وتفاخر بزيادة عدد (الجيش الحر)، كما يتباهى النظام بدخول باب عمرو ويتحضر إلى نصر آخر، وتزداد علائم الخطر على الوطن وتجاهل لموضوعة واضحة وهي أن جوهر الأزمة يكمن في محتواها السياسي والاجتماعي الذي عولج بمزيد من الاقتتال.

إن التعاطي مع الأزمة يفرض دائماً التوقف عند جديدها بالإضافة إلى قديمها ويتطلب المراجعة وتصويب الحلول الفعلية الموجهة نحو جوهرالأزمة الوطنية، وقد بات واضحاً أن الولايات المتحدة بإدارة أوباما وفرنسا بإدارة ساركوزي وغيرهما تريدان تدمير سورية، ويؤكد ذلك المؤيديون وكثير من المعارضين، فكيف يمكن التعويل وطنياً على مزيد من الاقتتال والمعارك والمتفجرات والدبابات والمدافع ما دمنا نؤكد أن التدمير لسورية هو جوهر الخطة الأمريكية الغربية؟!

إن المراجعة الوطنية لمسارات الأزمة تضع المرء أمام خطأ آخر وهو عدم رؤية الخيوط السياسية وخاصة خيط الجماهير الشعبية التي تتظاهر سلمياً وتصوير الأمريكي باعتباره المكون للأزمة، وإخراجه عن كونه يسعى لإلتقاط لحظات تطوير الأزمة بانتهاج القتال وتصعيده، وهكذا يطرح الواقع ضرورة إيقاف القتال وسحب الجيش إلى مراكزه وانعطاف نحو تبريد حدة الأزمة بإخراج الموقوفين وإعادة الأسر إلى بيوتها وتأمين المناخ الفعلي للتظاهر السلمي مهما كانت أبعاده الأفقية والعامودية، هي تدابير ضرورية لإنقاذ الوطن أليس من الصائب القول إن الحل لا يأتي عبر شكل أمني يفرض لحل الأزمة ويوحي أن الأمور حسمت، أليس من العقلاني القول إن الأزمة لن تنتهي إلا بحل جوهرها. لا يمكن تحميل المسؤولية للشيطان في احتدام الأزمة وما وصلت إليه أوضاع الوطن والمهم الآن فعل كل ما هو ضروري   لإنقاذ الوطن وبتر خيوط الشياطين الخارجية ذلك هو اليوم محك الوطنية.

وطبيعي القول لسنا إزاء رؤية أحادية في تحميل المسؤولية فالمعارضة الجادة في إنقاذ الوطن لا يمكن أن تدفع إلى مزيد من القتال ومزيد من الأسلحة وعليها أن تتوخى هدفاً واضحاً هو إنهاء الاقتتال وإيقاف التسليح لعل ذلك يشكل انعطافاً أولياً نحو شق السبيل إلى الوحدة الوطنية التي تطايرت بفعل المعارك والاقتتال الذي أكدت مجريات عام كامل أنه عمق الجوهر الاجتماعي والسياسي للأزمة، وخلاصة واضحة تجد ذاتها في التأكيد على أن المطلوب وطنياً لا يكمن في إرغام الأزمة على أن تأخذ شكلاً محدداً يوهم أن المياه عادت لمجاريها وأن القتال حل الأزمة، إن المطلوب وطنياً هو حل لجوهر الأزمة ومحتواها وقد تأمنت مؤشرات أولية لذلك في مواد الدستور الجديد الذي لم تكن المادة الثالثة منه اسوأ ما فيه. بل هناك مواد في الدستور تنتهك مواد أساسية أخرى وتناقضها بصورة سافرة، إن حل أزمة وطنية شيء وإخراج قوات أجنبية وإجلائها عن أرض الوطن شيء أخر.             

معلومات إضافية

العدد رقم:
543